كونوا رجالا فاعلين لا صبية ضائعين

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : د. توفيق الواعي | المصدر : islamstory.com

 

تشرف الأماكن بالرجال، وتُخَلّد المعارك بالأبطال، وتقوى الأمم بالسواعد الفتيـة، وتنهض الشعوب بالعقول الزكية، ويحمل التاريخ الذكريات والأمجاد العاطرة، ويُسَطِّر الأعمال والأفعال الباهرة، التي تشكل القلاع الحصينة للزمن، وتؤسس الصروح العظيمة للأيام، ولقد كان المسلمون قلة قليلة مستضعفين مُضطهَدِينَ من بقاع الأرض وسهولها وديارها، ولكنهم استطاعوا أن يوقفوا التاريخ ليسمع حديثهم، ويوقظوا الدنيا لتعي تعاليمهم، ويردعوا الأعداء لتحترم إرادتهم.

روى البيهقي وغيره عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينـة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كل جانب، حتى كان المسلمون لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصحون إلا فيه، فقالوا: تُرى نعيش حتى نبيت مطمئنين، لا نخاف إلا الله عز وجل، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، قال البيهقي: وفي مثل هذا المعنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت: 58، 59]، ذكر المفسرون أنها نزلت في المعذبين بمكة حين هاجروا إلى المدينة بعدما ظُلِموا فوعدهم الله تعالى في الدنيا حسنة يعني بها الرزق الواسع، فأعطاهم ذلك.

ويُروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أعطى الرجل عطاءَه من المهاجرين يقول: خُذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله تبارك وتعالى في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أفضل. نعم.. تمكن الرجال بفضل الله من إيقاف الظلم والطغيان، ومجالدة الباطل والبهتان، والصبر والمصابرة، حتى تغيرت الأحوال، وتبدلت الأيام، ولقد كان إصرار المسلمين رغم ضعفهم عجيبًا، استطاعوا به بلوغ الآمال.

يروي المحدثون أن اليهود والمشركين من أهل المدينة كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأمرهم الله تبارك وتعالى بالصبر والعفو والصفح، فقال تبارك وتعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] ، ثم أمرهم: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]، أي: الإذن بقتالهم، وضرب الجزية عليهم، وكان مخطط المسلمين في مواجهة البغي والعدوان مخططًا إلهيًّا بشريًّا يسير مع السنن، ويتعامل مع الحوادث والنزعات الجاهلية والعنصرية والسلطوية التي كانت متحكمـة في الحياة البشرية في زمنهم، فبدأ المسلمون بالدعوة لتغيير الأفهام، ولفت العقول، وإحياء العزائم، وبعث إنسانية الإنسان، وتربية أجيال من الرجال لتغيير هذا الركام المتسلط على المجتمعات، والمتحكم في المصائر، فلما اشتد عودهم بدأت المناوشات لإرجاع الكرامة المسلوبة، والعزة المنهوبة، والحق المستباح.

قال العلماء: لما قويت الشوكة للمسلمين واشتد الجناح أذن الله لهم في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39، 40].

قال العلماء: فلما اشتد عودهم أكثر، واستعدوا وأعدوا لرد الظلم عُدَّته، فرض الله عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم، دون من لم يقاتلهم، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، لأنهم اجتمعوا على المسلمين كافة، وتآمروا عليهم مجتمعين، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]، وهذا الأمر وإن كان مكروهًا وتأباه طبيعـة الدعوة إلى الله ولكنه لا مناص منه لحماية الدعوة، وعدم استئصال شأفة المسلمين وسيادة الباطل، فقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

ثم كانت غزوة بدر الكبرى، تلك الواقعة التي ذاق المشركون فيها الهول على يد السواعد المؤمنة، وعلموا أنه قد برز في الأفق صنف جديد من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وظهر ذلك من حديثهم على مشارف المعركـة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال قائلهم: "والله يا رسول الله لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله يا رسول الله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّفَ منَّـا رجل واحد"، ولهذا عُرف القائد الملهم أن هؤلاء الرجال هم رجال النصر، وأكد القرآن هذا المعنى حين قال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 45، 46]. وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الشيخان من طريق عروة: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض المعركة وقال: «هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله»، قال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حددها رسول الله، وجعلوا يُصرعون عليها، ثم جعلوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث بعضهم على بعض، ووقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يناديهم بعدما جيفوا يقول: «يا فلان يا فلان يا أبا جهل بن هشام، يا أميـة بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يعدد أسماءهم: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني وجدتُ ما وعدني ربي حقا»، وفي هذا يقول حسان بن ثابت:

يناديهـم رسـولُ الله لمـا قذفناهـم كَباكـِبَ فـي القَليبِ

ألم تجدوا كـلامَ اللـه حقا وأمــرُ اللهِ يأخــذُ بالقلـوبِ

فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا صدَقْتَ وكـنتَ ذا رأي مـصيبِ

وكانت بدر التي تُسمى في التاريخ بيوم الفرقان بهؤلاء الرجال، وهذه العزائم التي أزالت الظلم وأزاحت وساوس الشيطان، واليوم تطل علينا أيام نحتاج فيها إلى رجال بدر وعزائم وجحافل الفرقان، حتى ينفلق إصباح النصر المبين لأمتنا وتشرق من جديد شموس النهضة على محيا شعوبنا العظيمة، ولكن ويا للأسف لا يراد للأمة أن تنتفع بروادها الأبطال ولا بشبابها الناضر الذي يصدع بالحق، وهل بعد هذا إلا الضلال، وصدق الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]، وماذا بعد مُصَادرة الدين ومُطاردة شبابه، وتحريم معتنقيه، وسجن دعاته، ومحاربة شعائره، وتجفيف ينابيعه في أي عصر، إلا عبادة الشيطان، أو البهتان، ولقد كان حصاد الغباء الدكتاتوري في الأمة كبيرًا بكل المقاييس والأحجام، وكانت عمايته الفكرية كارثة بكل الظنون والتوقعات، إذ تمكن من قتل روح الإيمان الصحيح في صدور الشباب الغض بصور كثيرة وأساليب عدة، ساعده عليها أعداء الأمة، وعضَّده فيها موجات الغزو الثقافي، واشتركت في ذلك جميع أجهزة الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمرئية، وكل سلطات الدولة الأمنية والتعليمية والتشريعية والتنفيذية، وكان هذا هو مشروع الدولة القومي زمنا الذي تدور حوله الندوات، وتعقد له الاجتماعات، وترصد له الميزانيات، وتبرم له الاتفاقات، وتتخذ له التوصيات والقرارات، يريدون بذلك سيادة الباطل وكبت الحق، وإلباس الأهواء والشهوات ثوب العدالة والحقيقة، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].

وجاءت المصائب تزحف كأنها الليل الحالك، رغم تنبيه قرآننا وتحذيره: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وحلت الكارثة ووقعت الواقعة لعبث العابثين وجهل الجاهلين وفعل الفاسقين: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وهذي الأمة قد تمرض ولكنها لا تموت وقد تثخن بالجراح وتعتريها عقبات وعقبات ولكنها تحمل في داخلها عوامل الفلاح والنهوض.

بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تمردت القبائل واشرأب الكفر والنفاق، فتصدى لهم الصحابة بقيادة أبي بكر، وعاد الدين بعد هذه الفتنة أقوى وأصلب، وبعد عدة قرون هاجم الصليبيون الأمة الإسلامية من الغرب، وهاجمها التتار من الشرق، واحتل الصليبيون فلسطين والقدس، وارتكبوا جرائم حرب تشيب لها الولدان ولكن المسلمين انتصروا عليهم وطردوهم مدحورين.

والتتار الذين أثاروا الرعب في قلوب العالم كله لدرجة أن انتشرت مقولة: "من قال لك إن التتار انهزموا فلا تصدقه" وكانت أول هزيمة لهم علي أيدي المسلمين في عين جالوت، وحدثت المفاجأة الكبرى وهي دخولهم في الإسلام.

وبعد: ونحن اليوم نتعرض لبعض الصعاب، ولكنها إن شاء الله تكون إرهاصات بنصر مبين وفوز عظيم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.