ما هو السر الحقيقي الكامن وراء أزمة الاقتصاد العالمي؟ ولماذا لم يتطوع أحد لكشف المستور وإعلان المحظور رغم مرور ثلاثة أعوام بالتمام على انفجار الفقاعات المالية؟ بعد الاطلاع على عدة كتب تتناول هذا الموضوع مؤخرا، لاحظت أن التفسير التاريخي هو المدخل الأفضل لإجابة هذا السؤال. فمن الاستنتاجات الجديرة بالذكر أن الاقتصاد العالمي قد نما خلال الستين عاما الأخيرة أكثر من نموه خلال الـ 2000 عام التي سبقتها! فما هو السبب يا ترى؟ اختراع الكمبيوتر وانتشاره في النصف الثاني من القرن العشرين هو السبب؛ فبعد تطوير نظم معلومات وشبكات اتصال غير مسبوقة، لم يعد تفسير أزمة الاقتصاد يحتاج إلى ذكاء كبير. فما دامت المعلومات هي سبب النمو، فإن حجبها وتزويرها هو سبب الركود! أليس هذا منطقيا؟ في الماضي كان الاقتصاد خامدا لأن الأجيال السالفة لم تكن تعرف من يملك ماذا؟ وبما أن تقنيات المعلومات اليوم تعرفنا بكل شيء، فمن المؤكد أن ما حدث في أعوام 2007 و 2008 تم بفعل فاعل. وهذا يبرىء خبراء الاقتصاد من التهم الموجهة لهم ولنماذجهم الرياضية، ويلقي باللائمة على الساسة والفلاسفة وعلى عصابات المافيا الاقتصادية التي تتحكم بمفاصل القرار، وتخفي الأسرار وتطفىء الأنوار، وتعدم الشفافية التي تعتبر أهم شروط التفاعل والتكامل والتعامل. كان مما تعلمناه من دراستنا لنظم المعلومات، أن مكتبة "الكونجرس" أنشئت في مطلع القرن 19 لتوفر المعلومات للإدارة الأمريكية و لرجال الكونجرس الذين سيشرعون ويخططون لمصلحة أمريكا. وقد عمل خبراء المكتبة على جمع المعلومات وتصنيفها وتحديثها لإتاحتها لمتخذ القرار في الشكل المناسب وفي الوقت المناسب. ولكن هذا لم يكن يحدث دائما. فهناك قوى خفية تخفي المعلومات وتلوثها، وهذا فعل لا أخلاقي ستكون نتيجته تدمير العالم. التلاعب بالمعلومات المالية وإخفاؤها هو الذي يجعل القيم التقديرية للأصول غير الملموسة مثل: الأسهم والأوراق المالية وبراءات الاختراع وحقوق الملكية والمشتقات والعلامات التجارية أعلى من قيم الأصول المادية مثل: الأراضي والعقارات والآلات. الاقتصاد التحتي والورقي وأسواق الظل هي التي خرجت بالاقتصاد غير الرسمي عن السيطرة، فصار من المستحيل تقديره. وهذه كلها مشكلات سياسية لا اقتصادية؛ وهي التي جعلت رؤوس الأموال تهرب من روسيا ومن الأسواق الناشئة والنامية إلى أوروبا وأمريكا بحثا عن ملاذات آمنة، وإذا بها تسقط في مهاوي الردى. وهذا نفسه ما حدث في البورصات الوهمية التي شفطت السيولة من الأسواق الفقيرة ونقلتها إلى خزائن المرابين العالميين. من خلال التفسير التاريخي للأزمة تبين لنا أن مؤسستين ماليتين فقط كانتا تعرفان ما يجري في شارع المال "وول ستريت" وفي كل شوارع العالم، وهما "جولدمان ساكس" و "جي بي موغان" وقد كذبتا على الجميع. ولكن هذه الديناصورات المالية لا تتحمل الخطأ وحدها؛ لأنها تعلمت الكذب والتزوير من الحكومات. الدول أيضا تكذب في إشهارها لمعدلات النمو والبطالة ونسبة الدين العام إلى الدخل القومي. الدول تكذب على بعضها، وتكذب على نفسها، وتضحك على شعوبها. وعلى نهج الدول تسير وكالات التصنيف الائتماني. فهناك مؤسسات عملاقة حصلت على تصنيف ممتاز وأفلست في نفس عام تصنيفها. وليس هذا بالأمر الجديد قطعا. قبل ثلاثة عقود نشر "توم بيترز" القادم من "ماكنزي" كتابه الكذاب "البحث عن التميز." وفيه أفرد فصولا لأكثر الشركات العالمية تميزا. ولم يمض عقد من الزمن حتى كانت كل شركات "بيترز" المتميزة قد أفلست. وفي أواخر التسعينيات كان "جاري هامل" يعمل مستشارا لدى شركة "إنرون" الكذابة، وقد وصفها في مقالاته بالشركة العظيمة، لكنها خيبت ظنه بعدما انفضح أمرها كأكبر متلاعب بالأرقام المالية في التاريخ، فأفلست وجرفت في طريقها شركة المحاسبة "آرثر أندرسون." هؤلاء فعلا يكذبون في كل شيء، من نتائج الاستقصاءات وقياسات الرأي العام، إلى أسماء وعناوين "البارات" والمواخير التي يعقدون فيها الصفقات في الليالي المظلمة، بعيدا عن عيون العالم والعائلات والإعلام. هذا هو سبب أزمة الاقتصاد: الكذب واللعب بالأرقام.