بسم الله الرحمن الرحيم وجوب غض البصر وفوائده العظيمة
قال الله تعالى : " قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ " وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ .. " سورة النورآية (30 – 31 ) . وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه . أخرجه البخاري رقم ( 5889 ) 5 / 2304 ، ورقم ( 6238 ) 6 / 2438 ، ومسلم رقم ( 2657 ) 4 / 2046 . وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم " أخرجه أحمد رقم ( 22809 ) 5 / 323 ، وابن حبان رقم ( 271 ) 1 / 506 ، والحاكم في المستدرك رقم ( 8066 ) 4 / 399 وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، والبيهقي في السنن الكبرى رقم ( 12471 ) 6 / 288 ، والهيثمي في موارد الظمآن رقم ( 107 ) 1/57 ، ورقم ( 2547 ) 1 / 632 ، وأخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة رقم ( 8018 ) 8 / 262 ، وفي الأوسط رقم ( 2539 ) 3 / 77 ، وفي مسند الشهاب من حديث أبي سعيد الخدري رقم ( 443 ) 1 / 272 ، وأبو يعلى من حديث أنس بن مالك رقم ( 4257 ) 7 / 248 ، وابن حجر في المطالب العالية من حديث أنس بن مالك رقم ( 2633 ) 11 / 629، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/145، 218 وقال : رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات إلا أن المطلب لم يسمع من عبادة ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم ( 1901 ) ، ورقم ( 2925 ) ، وفي صحيح الجامع رقم ( 2978 ) ، ورقم ( 1226 ) ، وحسنه في السلسلة الصحيحة رقم ( 1470 ) ، ورقم ( 1525 ) ، وفي صحيح الترغيب رقم ( 2416 ) ، وفي صحيح الجامع رقم ( 1225 ) ، ورقم ( 1018 ) . وعن جرير بن عبد الله قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري " أخرجه مسلم رقم ( 2159 ) 3 / 1699، وأبو داود رقم ( 2148 ) 2/246 ، والترمذي رقم (2776 ) 5 / 101 ، وابن حبان رقم ( 5571 ) 12 / 383 والحاكم في المستدرك رقم ( 3498 ) 2 / 431 ، وعن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : " يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة " أخرجه أبو داود رقم ( 2149 ) 2/246 ، وأحمد رقم ( 1373 ) 1 / 159 ، ورقم ( 23024 ) 5 / 351 ، ورقم ( 23041 ) 5 / 353 ، ورقم ( 23071 ) 5 / 357 ، والترمذي رقم (2777 ) 5 / 101 ، وابن أبي شيبة رقم ( 17218 ) 4 / 6 ، وابن حبان رقم ( 5570 ) 12 / 381 ، والدارمي رقم ( 2709 ) 2 / 386 ، والحاكم في المستدرك رقم ( 2788 ) 2 / 212 ، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم ( 2149 ) 2/246 ، وفي صحيح سنن الترمذي رقم (2777 ) 5 / 101 . وعن مسروق أن ابن مسعود رضي الله عنه قال في قوله عز وجل إلا اللمم قال : زنا العينين النظر وزنا الشفتين التقبيل وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين المشي ويصدق ذلك أو يكذبه الفرج فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم " أخرجه الحاكم المستدرك رقم ( 3751 ) 2 / 510 وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ،وذكره ابن كثير في التفسير 4/257. وعن العلاء بن زياد قال : " لا تتبع بصرك حسن ردف المرأة فإن النظر يجعل الشهوة في القلب " أخرجه ابن أبي الدنيا في كتابه الورع رقم ( 77 ) ص68. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : " حفظ البصر أشد من حفظ اللسان " أخرجه ابن أبي الدنيا في كتابه الورع رقم ( 61 ) ص62 . وقال بعض العلماء : " النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه " التفسير الكبير للرازي 23 / 178، وفيض القدير للمناوي 4 / 65. وقال أبو حاتم رضي الله عنه الأمر بصرف البصر أمر حتم عما لا يحل وهو مقرون بالزجر عن ضده وهو النظر إلى ما حرم . صحيح ابن حبان 12 / 383 . وقال ابن القيم : " فلما كانت هذه الأعضاء هي أكثر الأعضاء مباشرة للمعاصي كان وسخ الذنوب ألصق بها وأعلق من غيرها فشرع أحكم الحاكمين الوضوء عليها ليتضمن نظافتها وطهارتها من الأوساخ الحسية وأوساخ الذنوب والمعاصي وقد أشار النبي إلى هذا المعنى بقوله إذا توضأ العبد المسلم خرجت خطاياه مع الماء أو مع آخر قطرة من الماء حتى يخرج من تحت أظفاره وقال أبو إمامة يا رسول الله كيف الوضوء فقال أما فإنك إذا توضأت فغسلت كفيك فأنقيتهما خرجت خطاياك من بين أظفارك وأنا ملك فإذا مضمضت واستنشقت بمنخريك وغسلت وجهك ويديك إلى المرفقين ومسحت فساد قولك وأن الفعل الواجب بالإختيار اختياري مفتاح دار السعادة لابن القيم 2 / 23 – 24 . أما فوائد غض البصر من غض بصره أعطاه الله ثلاث فوائد جليلة : إحداها حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب ما تركه لله فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه والنفس تحب النظر إلى هذه الصور لا سيما نفوس أهل الرياضة والصفا فإنه يبقى فيها رقة تجتذب بسببها إلى الصور حتى تبقى تجذب أحدهم وتصرعه كما يصرعه السبع ولهذا قال بعض التابعين : ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه من حدث جميل يجلس إليه وقال بعضهم اتقوا النظر إلى أولاد الملوك فإن لهم فتنة كفتنة العذارى . وأما الفائدة الثانية في غض البصر فهو أنه يورث نور القلب والفراسة قال تعالى عن قوم لوط : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فالتعلق في الصور يوجب فساد العقل وعمى البصيرة وسكر القلب بل جنونه كما قيل : سكران سكر هوى وسكر مدامة ** فمتى إفاقة من به سكران . وقيل قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ** العشق أعظم مما بالمجانين العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ** وإنما يصرع المجنون في الحين وذكر سبحانه آية النور عقيب آيات غض البصر فقال الله نور السماوات والأرض وكان شاه بن شجاع الكرماني لا تخطئ له فراسة وكان يقول من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات وذكر خصلة خامسة وهي أكل الحلال لم تخطئ له فراسة والله تعالى يجزئ العبد على عمله بما هو من جنس عمله فغض بصره عما حرم يعوضه الله عليه من جنسه بما هو خير منه فيطلق نور بصيرته ويفتح عليه باب العلم والمعرفة والكشوف ونحو ذلك مما ينال بصيرة القلب . والفائدة الثالثة قوة القلب وثباته وشجاعته فيجعل الله له سلطان النصرة مع سلطان الحجة وفي الأثر الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ولهذا يوجد في المتبع لهواه من الذل ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه فإن الله جعل العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه قال تعالى : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، وقال تعالى : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، ولهذا كان في كلام الشيوخ الناس يطلبون العز من أبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله وكان الحسن البصري يقول وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال فإن ذل المعصية في رقابهم يأبى الله إلا أن يذل من عصاه ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه وفي دعاء القنوت إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت . مجموع فتاوى ابن تيمية 21 / 251- 258 . وقال ابن القيم "وفي غض البصر عدة فوائد أحدها : تخليص القلب من ألم الحسرة ، فإن من أطلق نظره دامت حسرته، فاضر شئ على القلب إرسال البصر، والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، وهي منزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل: كل الحوادث مبدأها من النظر ** ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ** فتك السهام بلا قوس ولا وتر والمرء ما دام ذا عين يقلبها ** في أعين الغيد موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته ** لا مرحبا بسرور عاد بالضرر والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر، فهو إنما يرمي قلبه، ولي من أبيات: يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا ** أنت القتيل بما ترمي فلا تصب وباعث الطرف يرتاد الشفاء له ** توقه إنه يأتيك بالعطب الثانية : أنه يورث القلب نوراً وإشراقا يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه. ولهذا والله أعلم ذكر الله سبحانه آية النور في قوله تعالى :(الله نور السماوات والأرض) عقيب قوله (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) وجاء الحديث مطابقا لهذا حتى كأنه مشتق منه وهو قوله :"النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غض بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه نورا" الثالثة : أنه يورث صحة الفراسة فإنها من النور وثمراته ، وإذا استنار القلب صحت الفراسة. روضة المحبين لابن القيم ص97. وقال النسفي عند قوله تعالى : وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن أمر بغض الأبصار فال يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبى إلى ما تحت سرته إلى ركبتيه وإن اشتهت غضت بصرها رأسا ولا تنظر إلى المرأة إلا إلى مثل ذلك وغض بصرها من الأجانب أصلا أولى بها وإنما قدم غض الابصار على حفظ الفروج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور فبذر الهوى طموح العين " تفسير النسفي 3 / 143. وقال المناوي نقلاً عن الغزالي : " زنا العينين النظر يعني أن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه وإسناد الزنا إلى العين لأن لذة النكاح في الفرج تصل إليها ونبه به على أنه لا يصل إلى حفظ الفرج إلا بحفظ العين عن النظر وحفظ القلب عن الفكرة وحفظ البطن عن الشبهة وعن الشبع فإن هذه محركات للشهوة ومغارسها قال عيسى عليه السلام إياكم والنظر فإنه يزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة ثم قال الغزالي وزنا العين من كبار الصغائر وهو يؤدي إلى الكبيرة الفاحشة وهي زنا الفرج ومن لم يقدر على غض بصره لم يقدر على حفظ دينه . فيض القدير للمناوي 4 / 65. وقال أبو حيان الأندلسي : " وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ أي من الزنا ومن التكشف ودخلت مِنْ في قوله مِنْ أَبْصَارِهِمْ دون الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن الزوجة ينظر زوجها إلى محاسنها من الشعر والصدور والعضد والساق والقدم وكذلك الجارية المستعرضة وينظر من الأجنبية إلى وجهها وكفيها وأما أمر الفرج فمضيق وعن أبي العالية وابن زيد كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ هذا فهو من الاستتار ولا يتعين ما قاله بل حفظ الفرج يشمل النوعين ذالِكَ أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر لهم إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ من إحالة النظر وانكشاف العورات فيجازي على ذلك وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر لا يكاد يقدر على الاختزاز منه وهو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته وقال بعض الأدباء : وما الحب إلا نظرة إثر نظرة ** تزيد نمواً إن تزده لجاجاً . تفسير البحر المحيط لأبي حيان 6/412. وقال الأوسي : النظر باب إلى كثير من الشرور وهو بريد الزنا ورائد الفجور وقال بعضهم كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العين موقوف على الخطر كم نظرة فعلت في قلب فاعلها فعل السهام بلا قوس ولا وتر يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحبا بسرور عاد بالضرر . روح المعاني للألوسي 18/ 139. وقال ابن القيم : وفى المسند عنه صلى الله عليه وسلم النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن إمرأة أو أمرد لله أورث فى قلبه حلاوة العابدة إلى يوم القيامة هذا معنى الحديث وقال غضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم وقال إياكم والجلوس على الطريق قالوا يا رسول الله مجالسنا مالنا بد منها قال فإن كنتم لا بد فاعلين فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حقه قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والنظر أصل عامة الحوادث التى تصيب الانسان ان فإن النظرة تولد خطرة ثم تولد الخطرة فكرة ثم تولد الفكرة شهوة ثم تولد الشهوة إرادة ثم تقوى فتصبر عزيمة جازمة فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع منه مانع وفى هذا قيل الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده " الجواب الكافي لابن القيم ص106. وقال القرطبي : قوله تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم وصل تعالى بذكر الستر ما يتعلق به من أمر النظر يقال غض بصره يغضه غضا قال الشاعر فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا وقال عنترة وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه ويحفظ الفرج غير ان ذلك معلوم بالعادة وأن المراد منه المحرم دون المحلل وفي البخاري وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن قال اصرف بصرك يقول الله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم وقال قتادة عما لا يحل لهم وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن خائنة الأعين من النظر إلى ما نهي عنه الثانية قوله تعالى من أبصارهم من زائدة كقوله فما منكم من أحد عنه حاجزين الحاقة وقيل من للتبعيض لأن من النظر ما يباح وقيل الغض النقصان يقال غض فلان من فلان أي وضع منه فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو موضوع منه ومنقوص فمن صلة للغض وليست للتبعيض ولا للزيادة ، الثالثة البصر هو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه وغضه واجب عن جميع المحرمات وكل ما يخشى الفتنة من أجله وقد قال صلى الله عليه وسلم إياكم والجلوس على الطرقات فقالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها فقال فإذا أبيتم إلا المجلس فاعطوا الطريق حقه قالوا وما حق الطريق يا رسول الله قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رواه أبو سعيد الخدري خرجه البخاري ومسلم وقال صلى الله عليه وسلم لعلي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية وروى الأوزاعي قال حدثني هارون بن رئاب أن غزوان وأبا موسى الأشعري كانا في بعض مغازيهم فكشفت جارية فنظر إليها غزوان فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت فقال إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك فلقي أبا موسى فسأله فقال ظلمت عينك فاستغفر الله وتب فإن لها أول نظرة وعليها ما كان بعد ذلك قال الأوزاعي وكان غزوان ملك نفسه فلم يضحك حتى مات رضي الله عنه وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري وهذا يقوي قول من يقول إن من للتبعيض لأن النظرة الأولى لا تملك فلا تدخل تحت خطاب تكليف إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودا فلا تكون مكتسبة فلا يكون مكلفا بها فوجب التبعيض لذلك ولم يقل ذلك في الفرج لأنها تملك ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته وزمانه خير من زماننا هذا وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرمة نظر شهوة يرددها . تفسير القرطبي 12 / 222 – 223 . وقال أيضا : "قوله تعالى :(قل للمؤمنات) خص الله سبحانه وتعالى الإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد ، فإن قوله "قل للمؤمنين يكفي لأنه قول عام يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين ، حسب كل خطاب عام في القرآن .. وبدأ بالغض قبل الفرج لأن البصر رائد للقلب، كما أن الحمى رائد الموت .. فأمر سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار عما لا يحل ، فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا المرأة إلى الرجل ، فإن علاقتها به كعلاقته بها، وقصدها منه كقصده منها" تفسير القرطبي 12/226 . قال الرازي : " اعلم أنه تعالى قال قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ وإنما خصهم بذلك لأن غيرهم لا يلزمه غض البصر عما لا يحل له ويحفظ الفرج عما لا يحل له لأن هذه الأحكام كالفروع للإسلام والمؤمنون مأمورون بها ابتداء والكفار مأمورون قبلها بما تصير هذه الأحكام تابعة له وإن كان حالهم كحال المؤمنين في استحقاق العقاب على تركها لكن المؤمن يتمكن من هذه الطاعة من دون مقدمة والكافر لا يتمكن إلا بتقديم مقدمة من قبله وذلك لا يمنع من لزوم التكاليف له واعلم أنه سبحانه أمر الرجال بغض البصر وحفظ الفرج وأمر النساء بمثل ما أمر به الرجال وزاد فيهن أن لا يبدين زينتهن إلا لأقوام مخصوصين أما قوله تعالى يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ففيه مسائل : المسألة الأولى قال الأكثرون من ههنا للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل وجوز الأخفش أن تكون مزيدة ونظيره قوله مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ الأعراف 85 فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ الحاقة 47 وأباه سيبويه فإن قيل كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفرج قلنا دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وكذا الجواري المستعرضات وأما أمر الفرج فمضيق وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه ومنهم من قال يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ أي ينقصوا من نظرهم فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو مغضوض ممنوع عنه وعلى هذا من ليست بزائدة ولا هي للتبعيض بل هي من صلة الغض يقال غضضت من فلان إذا نقصت من قدره . المسألة الثانية اعلم أن العورات على أربعة أقسام عورة الرجل مع الرجل وعورة المرأة مع المرأة وعورة المرأة مع الرجل وعورة الرجل مع المرأة فأما الرجل مع الرجل فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا عورته وعورته ما بين السرة والركبة والسرة والركبة ليستا بعورة وعند أبي حنيفة رحمه الله الركبة عورة وقال مالك الفخذ ليست بعورة والدليل على أنها عورة ما روي عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به في المسجد وهو كاشف عن فخذه فقال عليه السلام غط فخذك فإنها من العورة وقال لعلي رضي الله عنه لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت فإن كان في نظره إلى وجهه أو سائر بدنه شهوة أو خوف فتنة بأن كان أمرد لا يحل النظر إليه ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش لما روى أبو سعيد الخدري أنه عليه الصلاة والسلام قال لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد وتكره المعانقة وتقبيل الوجه إلا لولده شفقة وتستحب المصافحة لما روى أنس قال : قال رجل يا رسول الله الرجل منا يلقي أخاه أو صديقه أينحني له قال لا قال أيلتزمه ويقبله قال لا قال أفيأخذ بيده ويصافحه قال نعم أما عورة المرأة مع المرأة فكعورة الرجل مع الرجل فلها النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة وعند خوف الفتنة لا يجوز ولا يجوز المضاجعة والمرأة الذمية هل يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة قيل يجوز كالمسلمة مع المسلمة والأصح أنه لا يجوز لأنها أجنبية في الدين والله تعالى يقول أَوْ نِسَائِهِنَّ وليست الذمية من نسائنا أما عورة المرأة مع الرجل فالمرأة إما أن تكون أجنبية أو ذات رحم محرم أو مستمتعة فإن كانت أجنبية فإما أن تكون حرة أو أمة فإن كانت حرة فجميع بدنها عورة ولا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه في البيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والعطاء ونعني بالكف ظهرها وبطنها إلى الكوعين وقيل ظهر الكف عورة واعلم أنا ذكرنا أنه لا يجوز النظر إلى شيء من بدنها ويجوز النظر إلى وجهها وكفها وفي كل واحد من القولين استثناء أما قوله يجوز النظر إلى وجهها وكفها فاعلم أنه على ثلاثة أقسام لأنه إما أن لا يكون فيه غرض ولا فيه فتنة وإما أن يكون فيه فتنة ولا غرض فيه وإما أن يكون فيه فتنة وغرض أما القسم الأول فاعلم أنه لا يجوز أن يتعمد النظر إلى وجه الأجنبية لغير غرض وإن وقع بصره عليها بغتة يغض بصره لقوله تعالى قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وقيل يجوز مرة واحدة إذا لم يكن محل فتنة وبه قال أبو حنيفة رحمه الله ولا يجوز أن يكرر النظر إليها لقوله تعالى إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً الإسراء 36 ولقوله عليه السلام يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة وعن جابر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري ولأن الغالب أن الاحتراز عن الأولى لا يمكن فوقع عفواً قصد أو لم يقصد ، أما القسم الثاني وهو أن يكون فيه غرض ولا فتنة فيه فذاك أمور أحدها بأن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفيها روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً وقال عليه الصلاة والسلام إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة وقال المغبرة بن شعبة خطبت امرأة فقال عليه السلام نظرت إليها فقلت لا قال فانظر فإنها أحرى أن يدوم بينكما فكل ذلك يدل على جواز النظر إلى وجهها وكفيها للشهوة إذا أراد أن يتزوجها ويدل عليه أيضاً قوله تعالى لاَّ يَحِلُّ لَكَ النّسَاء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ الأحزاب 52 ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن وثانيها إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها وثالثها أنه عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملاً حتى يعرفها عند الحاجة إليه ورابعها ينظر إليها عند تحمل الشهادة ولا ينظر إلى غير الوجه لأن المعرفة تحصل به أما القسم الثالث وهو أن ينظر إليها للشهوة فذاك محظور قال عليه الصلاة والسلام العينان تزنيان وعن جرير قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري ، وقيل مكتوب في التوراة النظرة تزرع في القلب الشهوة ورب شهوة أورثت حزناً طويلاً أما الكلام الثاني وهو أنه لا يجوز للأجنبي النظر إلى بدن الأجنبية فقد استثنوا منه صوراً إحداها يجوز للطبيب الأمين أن ينظر إليها للمعالجة كما يجوز للختان أن ينظر إلى فرج المختون لأنه موضع ضرورة وثانيتها يجوز أن يتعمد النظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة على الزنا وكذلك ينظر إلى فرجها لتحمل شهادة الولادة وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع وقال أبو سعيد الإصطخري لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع لأن الزنا مندوب إلى ستره وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء فلا حاجة إلى نظر الرجال للشهادة وثالثتها لو وقعت في غرق أو حرق فله أن ينظر إلى بدنها ليخلصها أما إذا كانت الأجنبية أمة فقال بعضهم عورتها ما بين السرة والركبة وقال آخرون عورتها ما لا يبين للمهنة فخرج منه أن رأسها ساعديها وساقيها ونحرها وصدرها ليس بعورة وفي ظهرها وبطنها وما فوق ساعديها الخلاف المذكور ولا يجوز لمسها ولا لها لمسه بحال لا لحجامة ولا اكتحال ولا غيره لأن اللمس أقوى من النظر بدليل أن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطره وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز أن يمس من الأمة ما يحل النظر إليه أما إن كانت المرأة ذات محرم له بنسب أو رضاع أو صهرية فعورتها معه ما بين السرة والركبة كعورة الرجل وقال آخرون بل عورتها ما لا يبدو عند المهنة وهو قول أبي حنيفة رحمه الله فأما سائر التفاصيل فستأتي إن شاء الله تعالى في تفسير الآية أما إذا كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل له الاستمتاع بها فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها حتى إلى فرجها غير أنه يكره أن ينظر إلى الفرج وكذا إلى فرج نفسه لأنه يروي أنه يورث الطمس وقيل لا يجوز النظر إلى فرجها ولا فرق بين أن تكون الأمة قنة أو مدبرة أو أم ولد أو مرهونة فإن كانت مجوسية أو مرتدة أو وثنية أو مشتركة بينه وبين غيره أو متزوجة أو مكاتبة فهي كالأجنبية روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة وأما عورة الرجل مع المرأة ففيه نظر إن كان أجنبياً منها فعورته معها ما بين السرة والركبة وقيل جميع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه والأول أصح بخلاف المرأة في حق الرجل لأن بدن المرأة في ذاته عورة بدليل أنه لا تصح صلاتها مكشوفة البدن وبدن الرجل بخلافه ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ولا تكرير النظر إلى وجهه لما روي عن أم سلمة أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليها فقال عليه الصلاة والسلام احتجبا منه فقلت يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا فقال عليه الصلاة والسلام أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه وإن كان محرماً لها فعورته معها ما بين السرة والركبة وإن كان زوجها أو سيدها الذي يحل له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها ولا يجوز للرجل أن يجلس عارياً في بيت خال وله ما يستر عورته لأنه روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عنه فقال الله أحق أن يستحيي منه وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله والله أعلم . المسألة الثالثة سئل الشبلي عن قوله يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ فقال أبصار الرؤوس عن المحرمات وأبصار القلوب عما سوى الله تعالى وأما قوله تعالى وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ فالمراد به عما لا يحل وعن أبي العالية أنه قال كل ما في القرآن من قوله وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ويحفظن فروجهن من الزنا إلا التي في النور مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أن لا ينظر إليها أحد وهذا ضعيف لأنه تخصيص من غير دلالة والذي يقتضيه الظاهر أن يكون المعنى حفظها عن سائر ما حرم الله عليه من الزنا والمس والنظر وعلى أنه إن كان المراد حظر النظر فالمس والوطء أيضاً مرادان بالآية إذ هما أغلظ من النظر فلو نص الله تعالى على النظر لكان في مفهوم الخطاب ما يوجب حظر الوطء والمس كما أن قوله تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ الإسراء 23 اقتضى حظر ما فوق ذلك من السب والضرب . التفسير الكبير للرازي 23/174- 278 وقال القرطبي : "إنما أمره أن يصرف بصره عن استدامة النظر إلى ما وقع عينه عليه أول مرة وإنما لم يتعرض إلى الأولى ، لأنها لا تدخل تحت خطاب التكليف، إذ وقوعها يتأتى أن يكون مقصوداً، فلا تكون مكتسبة فلا يكون مكلفا بها، فأعرض عما ليس مكلفا به، ونهاه عما يكلف به، لأن استدامة النظر مكتسبة للإنسان، إذ قد يستحسن ما وافقه بصره فيتابع النظر، فيحصل المحذور وهو النظر إلى ما لا يحل ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بني أبي طالب رضي الله عنه :"لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى ، وليس لك الثانية". تفسير القرطبي 12 / 227 ، والمفهم 5 / 482 .