بداية من المسلمات التي لا جدال عليها ـ كما يذكر الشيخ الغزالي رحمه الله ـ تميز الإنسان عن سائر المخلوقات بنعمة العقل،وأن وظيفة العقل أن يفكر،كما أن وظيفة العين أن تبصر،وتوهم أن يعيش الإنسان بعقل معطل التفكير كتوهم أن الإنسان يعيش بعين منغمضة، وذلك رد للأشياء عن مجراها الطبيعي. وتعتبر حرية الفكر واحدة من أهم الحريات الأساسية التي يجب أن يتمتع بها الإنسان ... ذلك أن الفكر أثمن المواهب الإنسانية وهو وسيلة المرء لاكتساب العلم والمعرفة والحكمة، كما أنه الأداة التي تعبر عن حرية إرادة الإنسان وتمكنه من التمييز بين الفضائل والرذائل، وبين الخير والشر، لذا كان انطلاق الفكر في أي عصر من العصور دليل على مدنيته وحضارته ورقي أفراده وسموهم، بينما كان تقييده سبباً في انحطاط ذلك العصر، وتفشي الجهل فيه وفي أفراده.
وبصفة عامة يقصد بحرية الفكر : الاعتراف لكل إنسان بالحق المتساوي مع الغير ـ دونما ضغط أو توجيه أو تقييد يخل بمضمون تلك الحرية ـ في الاستقلال الشخصي أو الانفراد بتكوين القناعة الداخلية لنفسه إزاء قضية معينة وبغض النظر عن طبيعتها وسواء صادفت قناعته تلك ما يماثلها لدى غيره من الأفراد أم خالفتهم .
ويعبر المنفلوطي عن المعنى السابق في عبارة بليغة بقوله: أنا لا أقول إلا ما أعتنقه، ولا أعتقد إلا ما أسمع صداه من جوانب نفسي، فربما خالفت الناس في أشياء يعلمون منها غير ما أعلم، ومعذرتي إليهم في ذلك أن الحق أولى بالمجاملة منهم، وأن في رأسي عقلا أجله عن أن أنزل به إلى أن يكون سيقة للعقول، وريشة في مهب الأغراض والأهواء .
وعلى ذلك يتوجب على المدرسة ــ في ضوء ما للمتعلم من حق حرية التفكير ــ إتاحة الفرصة الكاملة أمام المتعلمين لإعمال عقولهم ، وتربيتهم في الوسط المدرسي على تحرر السؤال، وانفتاح التأويل، ويقظة الشك، وانفجار الحوار .. أي أنها ملتزمة بالسماح في ضوء هذا الحق للمتعلم أن يشك ويتسائل وينتقد المعارف والوقائع، وإعداده ليكون باحث عن المعارف وليس مستقبلا لها فقط ، ويمارس مختلف العمليات العقلية وليس التذكر وحسب .
وداخل الفصل تحديداً، يتوجب على المعلم أن يتيح للمتعلمين الفرصة كاملة لشرح وجهة نظرهم قبل أن يعرض آرائه حتى ولو كانت تختلف معهم.. وأن يترك الفرصة للطلاب كي يستنبطوا المفاهيم والمعلومات من خلال معارفهم وخبراتهم الخاصة قبل الإجابة على أسئلته ، فليس من الضروري عرض كل شئ أمام الطلاب ، بل يجب ترك الفرصة أمامهم للتفكير ثم استنباط ما وصلوا إليه فيما يتعلق بموضوع التعلم ، كما يتوجب على المعلم زيادة قدرة طلابه على التفكير النقدي والتحليلي، وإتاحة المجال أمامهم لاستخدامهما في بعض المواقف الخيالية، مما يساعدهم لاحقا على المشاركة في مواقف الحياة الحقيقية .
وأن يشجع على المناقشة في كل الشئون التعليمية التي تحتاج للتفكير ووجهات النظر المختلفة داخل المجتمع المدرسي ؛ مثل محتويات المناهج ، والقيادة ، وأساليب تقويمهم ... كأن يسألهم عن ماهية التعليم؟ وما هي اهتمامهم؟ ما الذي يقلقهم من المدرسة؟ ما الذي يتمنوا أن يغيروه في المدرسة إذا أتيحت لهم الفرصة ؟ ما هي أفكارهم لجعل المدرسة مكاناً أكثر تعليماً ؟ ويستمع لإجاباتهم ومنحهم الفرصة لتنمية وتطوير تلك الأفكار.
وعلاوة على ما سبق، يتوجب على المعلم كذلك أن يبتعد عن الطريقة التلقينية في التدريس .. وهى الطريقة التي تساهم في خلق أناس ليس لديهم حساً نقدياً ، ولا يمتلكون القدرة على الرفض، لأن هذا النوع من التعليم القائم على طريقة تدريس متسلطة ، لا تحترم الديمقراطية ، تقتل الطاقات الإبداعية ، وتساعد في تكوين عقول خامدة ، ومن ثم يختفي الحوار والنقاش والإبداع والحرية الفكرية .
وأخيرا يجب التأكيد على أن المتعلم بالمدرسة حين ممارستة لحق التفكير، واعتباره ذات حرة مستقلة تمارس شكها وسؤالها ونقدها يتحتم عليه بالضرورة أن ينظر للآخرين كذلك على أنهم ذوات حرة ومستقلة لها نفس الحق، ... حتى وإن كان لذلك نتائج مغايرة ومخالفة، وفي ذلك يكمن حق الاختلاف وقبول الآخر، وشيوع التسامح بدلاً من التعصب والنفي الدائم للآخر .. ولا يخفى أبدا أنه حين تلتزم المدرسة بتلك الواجبات التي يمليها حق المتعلم في ممارسة الحرية الفكرية ، نكون قد نجحنا إلى حد بعيد في إنتاج البشر ذوي العقول الحرة التي يمكنها أن تجعل مستقبلنا آمنا إلى حد بعيد .