الحلقة الثانية من تمشيخ الحدث: شبهات وردود

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : ياسر محمد بابطين | المصدر : www.almurabbi.com

ولربما يحتجُ الحدثُ على ما يقول: بما رُوي أن الشافعي قال: "كنتُ يتيماً في حِجْر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلِّم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام". [حلية الأولياء 9/73].
وقال أبو بكر الأعين: "كتبنا عن البخاري على باب الفريابي وما في وجهه شعرة".  [الجامع 1/325، السير 12/401].
وقال الجنيد: "كنتُ أفتي في حلقة أبي ثور الكلبي ولي عشرون سنة". [السير 14/67].
يقول ابن عبد البر: "واستشهد بعضهم بأن عبد الله بن عباس رضي الله عنه كان يُستفتَى وهو صغير، وأن معاذ بن جبل وعتّاب بن أسيد رضي الله عنهما كانا يفتيان وهما صغيران، وولاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم الولايات مع صغر أسنانهما، ومثل هذا في العلماء كثير". [الجامع 1/618].
وحتى لا نطيل من جهة، ولا نُملّ من جهة أخرى، ولأنه ليس لنا أن ننتزع هذه الروايات من سياقاتها؛ نكتفي بإشارات، نَزِنُ من خلالها المسألة، ومِن الله نستلهم الرشاد:
الأولى: مِن أين كانت تغترف تلك الدلاء؟! وأي شيءٍ بلغه هؤلاء الأفذاذ الأحداث فحدثوا وأفتوا؟!
قال الشافعي: "حفظتُ القرآن وأنا ابن سبع سنين، وقرأتُ الموطأ وأنا ابن عشر سنين". [السير 10/11].
أما البخاري: - ومن يطيق ما أطاق؟ - يقول عن بداياته: "أُلهمتُ حِفظ الحديث وأنا في الكُتّاب، فقيل: كم كان سِنُّك؟ فقال: عشرَ سنين أو أقل، ثم خرجتُ من الكُتّاب بعد العشر، فجعلتُ أختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يوماً فيما كان يقرأ للناس: (سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم) فقلتُ له: إن أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم. فانتهرني، فقلتُ له: ارجع إلى الأصل. فدخل فنظر فيه ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلتُ: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم. فأخذ القلمَ مني وأحكم كتابَه، وقال: صدقتْ. قيل: ابنَ كم كنتَ حين رددتَ عليه؟ قال: ابن إحدى عشرةَ سنة. فلما طعنتُ في ست عشرة سنة، كنتُ قد حفظتُ كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفتُ كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي إلى مكة، فلما حججتُ رجع أخي بها، وتخلفتُ في طلب الحديث".
وكم يا تُرى كانت كتبُ ابن المبارك التي حفظها وحفظ معها كتب وكيع؟ عن إبراهيم قال: "كانت كتب ابن المبارك التي حدّث بها عشرين ألفاً أو أحد وعشرين ألفاً". [طبقات الحنفية، ص531، والمقصود بهذا العدد والله أعلم الأجزاء الحديثية].
قال سليم بن مجاهد: "كنتُ عند محمد بن سلام، فقال: لو جئت قبلُ لرأيت صبياً يحفظ سبعين ألف حديث - يريد البخاري - قال: فخرجتُ في طلبه حتى لحقته، قلتُ: أنت الذي يقول إني أحفظ سبعين ألف حديث! قال: نعم، وأكثر! ولا أجيئك بحديث من الصحابة والتابعين؛ إلا عرّفتك مولد أكثرِهم ووفاتَهم ومساكنَهم، ولستُ أروي حديثاً من حديث الصحابة أو التابعين، إلاّ ولي من ذلك أصلٌ أحفظه حفظاً من كتاب الله وسنة رسول الله". [السير 12/393].
أما ثالثهم وهو الجنيد فيقول: "كنتُ بين يدي السَرِي ألعبُ وأنا ابن سبع سنين، فتكلموا في الشكر، فقال: يا غلام ما الشكر؟ قلتُ: أن لا يعصى الله بنعمه. فقال: أخشى أن يكون حظُك من الله لسانُك. قال الجنيد: فلا أزال أبكي على قوله".
ومن مثل هؤلاء؟!.
لئن عجز الأحداثُ أن يكون على شاكلتهم، فما الأشياخ بأقل عجزاً!! لكنّ الذي نريده ههنا شيء آخر... نتساءل: هل يتكلم من يتكلم بعلم؟ هل يقول ما ينبغي قوله؟ وهل يُبلِّغ المقالة كما قيلت؟ وأي شيءٍ تَعملُ أو يريدُ أن تعملَ عظته في سامعيها؟
ثم - وهذه الثانية- : من الذي زكّى الفكرةَ وصاحبَها ليشقا طريقهما إلى قلوب الناس؟! من أعطاه الإشارة ليبدأ؟ إنه لا بد للحدث من شيخٍ أو أستاذٍ يوجهه ويقوِّمه ويسدده. لا يَحسُن بالحدث أن يخوض فيما لا يُحسن، أو فيما لا يُقبل فيه دعوى أنه يُحسن! لِمَ لا ِيتكلم فيما لا نزاع فيه، في المحكمات الواضحات، وفي كلِّ ما يسوغ أن يأتي من مثله!.
لماذا يأنف الحدث من هذا الأسلوب؟ ويتبرم من هذه الوصاية؟ أو يخاف مصادرة الفكرة، وخروجها غيرَ معزوّةٍ إلى فضيلته؟! إننا حين نربي أنفسنا على مثل الذي وجد الشافعيُ في نفسه وهو يقول: "وددتُ أن الخلق يتعلمون هذا العلم ولا يُنسب إلي منه شيء!". [حلية الأولياء 9/ 118]. حينها لن نجد غضاضةً في أن نُكلِّم ذوي السن مِنّا فيما سكتوا عنه من حق؛ ليُجلّوا موقفَهم، أو يتداركوا تقصيرَهم، فإن خالفونا طلبنا الحق عند أهله، فإن لم نجد لنا فيه سنداً، فلنراجع أنفسنا فثمة خللٌ فيما ندعيه حقاً!.
الثالثة: حين تكون بلوانا -أحداثاً وأشياخاً- قلةُ حظنا من العلم، وضعفُ ما في أيدينا منه؛ فلا أقل من أن يتصدر القومَ أمثلُهم طريقة، وأرشدهم عقلاً، وأحسنهم رأياً. ثم يستند فيما يُحدِّث به إلى كلام العلماء الربانيين، فعنهم يصدر، وإليهم يرجع، قال ابن شاقلا: "لما جلستُ في جامع المنصور، رويتُ عن أحمد أن رجلاً سأله فقال: إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيهاً؟! قال: لا. قال: فمائتي ألف حديث؟ قال: لا. قال: فثلاثمائة؟! قال: لا. قال: فأربعمائة؟! فقال: بيده هكذا وحركها (يعني: لا] . فقال لي رجل: فأنتَ تحفظُها؟ فقلتُ: إن لم أحفظها فإني أفتي بقول من يحفظها وأكثرَ منها". [المقصد الأرشد 2/291].

وللمقالة صلة في حلقة أخرى بإذن الله تعالى