معارك المسلمين في أوربا 1
الناقل :
elmasry
| الكاتب الأصلى :
ابن رشد المصري
| المصدر :
www.egyptsons.com
(1) فتوحات الرشيد
"من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام".
كانت شهرة هارون الرشيد قبل الخلافة تعود إلى حروبه وجهاده مع الروم، فلما ولي الخلافة استمرت الحروب بينهما، وأصبحت تقوم كل عام تقريبًا، حتى إنه اتخذ قلنسوة مكتوب عليها غاز وحاج.
قام الرشيد بتنظيم الثغور المطلة على بلاد الروم على نحو لم يعرف من قبل، وعمرها بالجند وزاد في تحصيناتها، وعزل الجزيرة وقنسرين عن الثغور، وجعلها منطقة واحدة، وجعل عاصمتها أنطاكية، وأطلق عليها العواصم، لتكون الخط الثاني للثغور الملاصقة للروم، ولأهميتها كان لا يولي عليها إلا كبار القادة أو أقرب الأقربين إليه، مثل "عبد الملك بن صالح" ابن عم أبي جعفر المنصور أو ابنه "المعتصم".
وعمّر الرشيد بعض مدن الثغور، وأحاط كثيرًا منها بالقلاع والحصون والأسوار والأبواب الحديدية، مثل: قلطية، وسميساط، ومرعش، وكان الروم قد هدموها وأحرقوها فأعاد الرشيد بناءها، وأقام بها حامية كبيرة، وأنشأ الرشيد مدينة جديدة عرفت باسم "الهارونية" على الثغور.
وأعاد الرشيد إلى الأسطول الإسلامي نشاطه وحيويته، ليواصل ويدعم جهاده مع الروم ويسيطر على الملاحة في البحر المتوسط، وأقام دارًا لصناعة السفن، وفكّر في ربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، وعاد المسلمون إلى غزو سواحل بحر الشام ومصر، ففتحوا بعض الجزر واتخذوها قاعدة لهم، مثلما كان الحال من قبل، فأعادوا فتح "رودس" سنة (175هـ= 791م)، وأغاروا على أقريطش "كريت" وقبرص سنة (190هـ= 806م).
واضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة، فعقدت "إيريني" ملكة الروم صلحًا مع الرشيد، مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة (181هـ= 797م)، وظلت المعاهدة سارية حتى نقضها إمبراطور الروم، الذي خلف إيريني في سنة (186هـ = 802م)، وكتب إلى هارون: "من نقفور ملك الروم إلى ملك العرب، أما بعد فإن الملكة إيريني التي كانت قبلي أقامتك مقام الأخ، فحملت إليك من أموالها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك، وإلا فالحرب بيننا وبينك".
فلما قرأ هارون هذه الرسالة ثارت ثائرته، وغضب غضبًا شديدًا، وكتب على ظهر رسالة الإمبراطور: "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام".
وخرج هارون بنفسه في (187 هـ= 803م)، حتى وصل "هرقلة" وهي مدينة بالقرب من القسطنطينية، واضطر نقفور إلى الصلح والموادعة، وحمل مال الجزية إلى الخليفة كما كانت تفعل "إيريني" من قبل، ولكنه نقض المعاهدة بعد عودة الرشيد، فعاد الرشيد إلى قتاله في عام (188هـ= 804م) وهزمه هزيمة منكرة، وقتل من جيشه أربعين ألفا، وجُرح نقفور نفسه، وقبل الموادعة، وفي العام التالي (189هـ=805م) حدث الفداء بين المسلمين والروم، ولم يبق مسلم في الأسر، فابتهج الناس لذلك.
غير أن أهم غزوات الرشيد ضد الروم كانت في سنة ( 190 هـ= 806م)، حين قاد جيشًا ضخماً عدته 135 ألف جندي ضد نقفور الذي هاجم حدود الدولة العباسية، فاستولى المسلمون على حصون كثيرة، كانت قد فقدت من أيام الدولة الأموية، مثل "طوانة" بثغر "المصيصة"، وحاصر "هرقلة" وضربها بالمنجنيق، حتى استسلمت، وعاد نقفور إلى طلب الهدنة، وخاطبه بأمير المؤمنين، ودفع الجزية عن نفسه وقادته وسائر أهل بلده، واتفق على ألا يعمر هرقلة مرة أخرى.
ذاع صيت الرشيد وطبق الآفاق ذكره، وأرسلت بلاد الهند والصين وأوروبا رسلها إلى بلاطه تخطب وده، وتطلب صداقته، وكانت سفارة "شارلمان" ملك الفرنجة من أشهر تلك السفارات، وجاءت لتوثيق العلاقات بين الدولتين، وذلك في سنة ( 183هـ= 779م)؛ فأحسن الرشيد استقبال الوفد، وأرسل معهم عند عودتهم هدايا قيمة، كانت تتألف من حيوانات نادرة، منها فيل عظيم، اعتبر في أوروبا من الغرائب، وأقمشة فاخرة وعطور، وشمعدانات، وساعة كبيرة من البرونز المطلي بالذهب مصنوعة في بغداد، وحينما تدق ساعة الظهيرة، يخرج منها اثنا عشر فارسًا من اثنتي عشرة نافذة تغلق من خلفهم، وقد تملك العجب شارلمان وحاشيته من رؤية هذه الساعة العجيبة، وظنوها من أمور السحر.
يوسف بن تاشفين .. أرعبهم بجنده وضمن أندلساً اسلامية اربعمائة عام من بعده.
(2) معركة الزلاقة
"اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيرا ًوصلاحاً للمسلمين فسهل علي جواز هذا البحر ، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا أجوزه"
سقطت طليطلة التي كان يحكمها بنو ذو النون – الذين حكموها في فترة ملوك الطوائف بالأندلس مدة 78سنة – في يد ألفونسو ملك قشتالة النصراني عام 478هـ بمعاونة المعتمد ابن عباد صاحب إشبيلية ، بعد أن حكمهـا المسلمون ثلاثمائة واثنين وسبعين عاماً ، وأحدث سقوطها دوياً عنيفاً ، واشتدت وطأة المسيحيين على المسلمين وتوحدت جهود ألفونسو السادس ملك قشتالة الذي كان يحكم جليقية وجزءا ًمن البرتغال ، مع سانشو الأول ملك أراجون ونافارا ، والكونت برنجار ريموند حاكم برشلونة وأورجل ، وساروا بجيش مشترك وحاصروا مدناً وقلاعاً واحتلوا قرى وأحرقوا أراضي كثيرة ، وانتبه ابن عباد لخطئه بمعاونة النصارى فاجتمع مع أمراء الأندلس الآخرين في إشبيلية ثم في قرطبة واتفقوا على أن يرسلوا سفيراً إلى يوسف بن تاشفين سلطان دولة المرابطين في المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا يلتمسون عونه وغوثه وهنا كانت الاستغاثة الصحيحة بالمسلمين وهنا لم يتوانى المسلمون في نصرة إخوانهم فجاءت وفود شعبية كثيرة لمدينة مراكش لنفس الغرض ، فاستشار ابن تاشفين مجلسه الاستشاري فوافقوا شرط أن يعطيه الأندلسيون الجزيرة الخضراء يجعل فيها أثقاله وأجناده وجهاده، وتكون حصناً له ، وليكون بها على اتصال بإفريقية .
ومع شدة ضغط ألفونسو على المسلمين في الأندلس دفع الأمراء الجزية له ، أو سلموا حصوناً له ، وسلم ابن عباد الجزيرة الخضراء للمرابطين ، وقال لابنه : ( أي بني ، والله لا يسمع عني أبداً أنني أعدت الأندلس دار كفر ولا تركتها للنصارى ، فتقوم علي اللعنة في منابر الإسلام مثل ما قامت على غيري ) ، وقال : ( إن دهينا من مداخلة الأضداد لنا فأهون الأمرين أمر الملثمين – لقب المرابطين - ، ولأن يرعى أولادنا جمالهم أحب إليهم من أن يرعوا خنازير الفرنج ) ،" وكان الدافع في أن يقول المعتمد بن عباد ذلك خوفا منه من أن يوسف بن تاشفين قد يستولى هو على الحكم إن نصرة الله ولكن ليست هي أخلاق المجاهدين الموحدين فكان المعتمد قد أخطأ الاعتقاد في هذه الكلمات " وقال لبعض حاشيته لما خوفوه من ابن تاشفين : ( تالله إنني لأوثر أن أرعى الجمال لسلطان مراكش على أن أغدو تابعاً لملك النصارى وأن أؤدي له الجزية ، إن رعي الجمال خير من رعي الخنازير) .
وعندما شرع بن تاشفين في عبور البحر المتوسط بجنوده وبينما هم في عرض البحر وما كادت السفن تنشر قلاعها حتى هاج البحر فصعد إلى مقدمة السفينة ، ورفع يديه نحو السماء ، ودعا الله مخلصاً : ( اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيرا ًوصلاحاً للمسلمين فسهل علي جواز هذا البحر ، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا أجوزه ) ، فهدأ البحر ، وجازت السفن سراعاً ، ولما وصلت إلى شاطئ الأندلس سجد لله شكراً .
وتسلم ابن تاشفين الجزيرة الخضراء ، وأمر بتحصينها أتم تحصين ، ورتب بها حامية مختارة لتسهر عليها ، وشحنها بالأقوات والذخائر لتكون ملاذاً أميناً يلتجئ إليه إذا هزم .
ولبث ابن تاشفين في إشبيلية ثمانية أيام حتى يرتب القوات وتتكامل الأعداد ، وكان صائم النهار قائم الليل ، مكثراً من أعمال البر والصدقات ، ثم غادر إشبيلية إلى بطليوس، في مقدمة الجيش الفرسان يقودهم أبو سليمان داود بن عائشة ، وعددهم عشرة آلاف ، ثم قوات الأندلس عليهم المعتمد بن عباد ، ثم سار بعدهم - بيوم واحد - جيش المرابطين ، ولما وصلوا إلى بطليوس أقام هناك ثلاثة أيام .
ولما سمع ألفونسو بمقدم المرابطين وكان محاصراً سرقسطة تحالف مع ملك أراجون ، والكونت ريموند ، فانضما إليه ، وانضم إليه كذلك فرسان من فرنسا ، وجاءته الإمدادات من كل صوب من ملوك أوروبا ، وعمل الباباوات دوراً كبيراً في توجيه النصارى وحثهم على القتال .
وكان جيش المسلمين ثمانية وأربعين ألفاً نصفهم من الأندلسيين ونصفهم من المرابطين ، أما جيش ألفونسو فقد كان مائة ألف من المشاة وثمانين ألفاً من الفرسان ، منهم أربعون ألفاً من ذوي العدد الثقيلة ، والباقون من ذوي العدد الخفيفة .
وعسكر الجيشان قرب بطليوس في سهل تتخلله الأحراش ، سماه العرب الزلاقة ، وفرق بين الجيشين نهر صغير ، وضرب ابن تاشفين معسكره وراء ربوة عالية ، منفصلاً عن مكان الأندلسيين ، وعسكر الأندلسيون أمام النصارى ، ولبث الجيشان أمام بعضهما ثلاثة أيام راسل فيها ابن تاشفين النصارى يدعوهم للإسلام أو الجزية أو القتال فاختاروا الثالثة .
وتكاتب القائدان ، ومما كتبه ألفونسو: ( إن غداً يوم الجمعة وهو يوم المسلمين ، ولست أراه يصلح للقتال ، ويوم الأحد يوم النصارى ، وعلى ذلك فإني أقترح اللقاء يوم الاثنين ، ففيه يستطيع كل منا أن يجاهد بكل قواه لإحراز النصر دون الإخلال بيوم ) ، فقبل ابن تاشفين الاقتراح ، ومع هذا تحوط المسلمون وارتابوا من نيات ملك قشتالة ، فبعث ابن عباد عيونه لترقب تحركات معسكر الصليبيين ، فوجدوهم يتأهبون للقتال ، فارتدوا مسرعين لابن عباد بالخبر ، فأرسل الخبر إلى ابن تاشفين يعرفه غدر ألفونسو ، فاستعد ، وأرسل كتيبة لتشاغل ألفونسو وجيشه .تهيأ الطرفان للمعركة ، وسير ألفونسو القسم الأول من جيشه بقيادة جارسيان ورودريك لينقض بمنتهى العنف على معسكر الأندلسيين الذي يقوده المعتمد ، آملاً في بث الرعب في صفوف المسلمين ، ولكنهم وجدوا أمامهم جيشاً من المرابطين قوامه عشرة آلاف فارس بقيادة داود بن عائشة أشجع قادة ابن تاشفين ، ولم يستطع ابن عائشة الصمود لكثرة الصليبيين وعنف الهجوم ، لكنه استطاع تحطيم عنف الهجمة ، وخسر كثيراُ من رجاله في صد هذا الهجوم .
ولما رأى الأندلسيون كثرة الصليبيين هرب بعض أمرائهم ، بيد أن فرسان إشبيلية بقيادة أميرهم الشجاع المعتمد بن عباد استطاعوا الصمود وقاتلوا قتال الأسود الضواري ، يؤازرهم ابن عائشة وفرسانه .
وأيقن ألفونسو بالنصر عندما رأى مقاومة المعتمد تضعف ، وفي هذه اللحظة الحرجة وثب الجيش المرابطي المظفر إلى الميدان ، وقد كان مختبأ خلف ربوة عالية لا يرى ، وأرسل ابن تاشفين عدة فرق لغوث المعتمد ، وبادر بالزحف في حرسه الضخم ، واستطاع أن يباغت معسكر ألفونسو الذي كان يطارد ابن عباد حتى بعد قدوم النجدات التي أرسلها ابن تاشفين .
وفي تلك اللحظة يرى ألفونسو جموعاً فارة من الصليبيين ، وعلم أن ابن تاشفين قد احتوى المعسكر الصليبي ، وفتك بمعظم حرسه ، وغنم كل ما فيه ، وأحرق الخيام ، فتعالت النار في محالهم ، وما كاد ألفونسو يقف على هذا النبأ حتى ترك مطاردة الأندلسيين ، وارتد من فوره لينقذ محلته من الهلاك ، وليسترد معسكره ، وقاتلوا الجيش المرابطي بجلد ، وكان ابن تاشفين يحرض المؤمنين على الجهاد ، وكان بنفسه يقاتل في مقدمة الصفوف يخوض المعركة في ذروة لظاها ، وقد قتلت تحته أفراس ثلاث ، وقاتل المسلمون قتال من يطلب الشهادة ويتمنى الموت .
ودام القتال بضع ساعات ، وسقطت ألوف مؤلفة وقد حصدتهم سيوف المرابطين ، وبدأت طلائع الموقعة الحاسمة قبل حلول الظلام ، فقد لاحظ ابن عباد وابن عائشة عند ارتدادهما في اتجاه بطليوس أن ألفونسو قد كف عن المطاردة فجأة ، وسرعان ما علما أن النصر قد مال إلى جانب ابن تاشفين ، فجمعا قواتهما وهرولا إلى الميدان مرة أخرى ، و أصبح ألفونسو وجيشه بين مطرقة ابن عباد وسندان ابن تاشفين .
وكانت الضربة الأخيرة أن دفع يوسف ابن تاشفين بحرسه وقوامه أربعة آلاف إلى قلب المعركة ، واستطاع أحدهم أن يصل إلى ملك قشتالة ألفونسو وأن يطعنه بخنجر في فخذه طعنة نافذة ، وكانت الشمس قد أشرفت على المغيب ، وأدرك ألفونسو وقادته أنهم يواجهون الموت ، ولما جن الليل بادر ألفونسو في قلة من صحبه إلى التراجع والاعتصام بتل قريب ، ولما حل الليل انحدر ومن معه تحت جنح الظلام إلى مدينة قورية .
ولم ينج من جيش القشتاليين مع ملكهم سوى أربعمائة أو خمسمائة فارس معظمهم جرحى ، ولم ينقذ البقية من جيش ألفونسو سوى حلول الظلام حيث أمر ابن تاشفين بوقف المطاردة ، ولم يصل إلى طليطلة فيما بعد من الفرسان سوى مائة فارس فقط .
كل ما سبق كان في 12 رجب من سنة 479هـ ، وقضى المسلمون ليلهم في ساحة القتال يرددون أناشيد النصر شكراً لله عز وجل ، فلما بزغ الفجر أدوا صلاة الصبح في سهل الزلاقة ، ثم حشدوا جموع الأسرى ، وجمعوا الأسلاب والغنائم ، وأمر ابن تاشفين برؤوس القتلى فصفت في سهل الزلاقة على شكل هرم ، ثم أمر فأذن للصلاة من فوق أحدها ، وكان عدد الرؤوس لا يقل عن عشرين ألف رأس .
وذاع خبر النصر وقرئت البشرى به في المساجد وعلى المنابر ، وغنم المسلمون حياة جديدة في الأندلس امتدت أربعة قرون أخرى .
السلطان التركي الذي ساد العالم دون منازع في زمنه فاستغاست به فرنسا وركع تحت أقدامه ملوك المانيا والنمسا والمجر ودخلت جيوشه كامل أراضي أوربا الوسطي بما فيها صربيا ويوغسلافيا وسويسرا وبلجراد.
"كانت البداية حينما أرسل سليمان رسولاً الي ملك المجر يعلنه أنه سلطان العثمانيين الجديد فما كان من الملك المجري الا أن قتل الرسول!"
احترت كثيراً في كيفية عرض مواقع ومعارك هذا الرجل العظيم .. هارون الرشيد التركي
مواقعه كثيرة للغاية، وكلها متصل ببعضه ويصعب معها الفصل في أكثر من فقرة .. ولأني ملتزم بسيرة الرجل الجهادية في موضوعي فسأوضيكم بالبحث عن سيرته الشخصية أيضاً فسيرته درامية للغاية .. أحب امرأة ألبانية وتزوجها فقتلت صديق عمره ووزيره المخلص خوفاً علي اياب الخلافة اليه من بعده وتسببت في مقتل ابنه الأكبر للسبب ذاته ثم ماتت لتتركه مهموم حزين قضي بقية عمره في جهاده حتي مات في خيمته وهو مجاهداً.
كانت الدولة العثمانية بفضله قوة ترعب كل خصومها وكانت دولة عظمي أو دولة كونية مثلما نشهد أمريكا الأن .. ارتعبت الدولة الصفوية الشيعية منها وارتعبت أوربا وروسيا منها.
تولى السلطان سليمان القانوني عرش الدولة العثمانية بعد موت والده السلطان سليم الأول، وكانت سنة تولية سليمان عام 926 هـ (1520 م) وحكم الدولة العثمانية مدة ست وأربعين سنة وهي أطول مدة حكم فيها سلطان عثماني.
كان عهد القانوني قمة العهود العثمانية سواء في الحركة الجهادية أو في الناحية المعمارية والعلمية والأدبية والعسكرية، كان هذا السلطان يؤثر في السياسة الأوربية تأثيرا عظيماً وبمعنى أَوضح كان هو القوة العظمى دوليا في زمنه، نعمت الدولة الإسلامية العثمانية في عهده بالرخاء والطمأنينة.
التمرد علي السلطان
ابتلي سليمان في السنوات الأولى من عهده بأربع تمردات شغلته عن حركة الجهاد، إذ أتاح موت سليم الأول ، ثم جلوس ابنه على العرش وهو صغير السن، أتاح هذا الفرصة لكي يظن الولاة الطموحون للاستقلال أنهم قادرين على ذلك، فلما وصل خبر تولية سليمان العرش، إلى الشام وكان جان بردى الغزالي واليا عليها من قبل الدولة العثمانية، تمرد وأشهر العصيان على الدولة.
جان بردى الغزالي هذا، قائد مملوكي كان تعاون مع سليم الأول في حربه ضد المماليك، كان هذا أَميراً طموحا وأودى به طموحه إلى أن ينقلب على المماليك ويتعاون مع سليم، حتى أن بعض المؤرخين العثمانيين يرون أن معركة غزة التي قادها ضد طلائع الجيش العثمانـي الزاحف على مصر إنما كان بالدرجة الأولى لعبة سياسية قصد منها إخفاء دوره في التعاون مع الجيش العثماني.
لما تولى سليمان أرسل الغزالي من الشام رسالة إلى خاير بك النائب العثماني على مصر أوضح فيها الأول للثانـي أن حان الوقت لإعادة الدولة المملوكية وبعثها من جديد، إلا أن والي مصر العثماني أرسل الرسالة هذه إلى العاصمة العثمانية ليطلع عليها السلطان سليمان، وهذه الرسالة موجودة الآن في متحف طوبقبو سرايي - قسم الأرشيف.
كما أن جان بردى الغزالي، كان - وهو وال للدولة على الشام- يراسل أكبر عدو للدولة العثمانية، ألا وهي الدولة الشيعية في إيران وكان يتزعمها الشاه إسماعيل الصفوي والوثيقة رقم 5469 بقسم الأرشيف بمتحف طوبقبو عبارة عن رسالة من جان بردى الغزالي إلى الشاه إسماعيل الصفوي تقول بأن جان بردى كان على تعاون سري بعيد المدى مع الفرس وأن الغزالي طلب من الصفوي حضوره شخصيا إلى بلاد الشام أو تقديم مساعدة عسكرية ضخمة له – أي إلى الغزالي- ولم يكن سليم على علم بهذا إذ أن رسول الغزالي كان وصل بهذه الرسالة سراً إلى كاشيان لمقابلة الشاه إسماعيل، وفى هذه الرسالة عرض من الغزالي بتقديم تبعيته وخالص عبوديته للشاه إسماعيل الصفوي.
فإذا ما مات سليم وتولى سليمان العرش إذا بالغزالي يفور ويثور وقام للاستيلاء على حلب وفشل في ذلك، وأمر السلطان سليمان بقمع الفتنة فقمعت وأرسل رأس الثائر إلى استانبول دلالة على انتهاء التمرد.
أما التمرد الثاني فقام به أحمد باشا الخائن في مصر وكان هذا عام 930 هـ= 1524 م. وكان هذا الباشا يطمح أن يكون صدرا أعظما ولم يفلح في هذا، لذلك طلب إلى السلطان أن يعينه واليا على مصر فقبل السلطان، وما أن وصل مصر حتى حاول استمالة الناس وأعلن نفسه سلطانا مستقلاً، لكن أهل الشرع في مصر وكذلك جنود الإنكشارية لا يعرفون إلا سلطانا واحدا خليفة لكل المسلمين هو السلطان سليمان القانوني، لذلك ثار أهل الشرع والجنود ضد هذا الوالي المتمرد وقتلوه، وظل اسمه في كتب التاريخ مقرونا باسم الخائن.
والتمرد الثالث ضد خليفة المسلمين هو تمرد شيعـي علوي قام به بابا ذو النون عام 1526 م في منطقة يوزغاد حيث جمع هذا البابا ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف ثائر وفرض الخراج على المنطقة، وقويت حركته حتى أنه استطاع هزيمة بعض القواد العثمانيين الذين توجهوا لقمع حركته، وانتهت فتنة الشيعة هذه بهزيمة بابا ذو النون وأرسلت رأسه إلى استانبول.
والتمرد الرابع ضد الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني كان تمرداً شيعيا علويا أيضا، وكان على رأسه قلندر جلبي في منطقتي قوينه ومرعش وكان عدد أتباعه 000ر30 شيعي قاموا بقتل المسلمين السنيين في هاتين المنطقتين، ويقول بعض المؤرخين أن قلندر جلبي جعل شعاره أن من يقتل مسلماً سنيّاً ويعتدي على امرأة سنية يكون بهذا قد حاز على أكبر ثواب.
توجه بهرام باشا لقمع هذا العصيان فقتله العصاة، ثم نجحت الحيلة معهم إذ أن الصدر الأعظم إبراهيم باشا قد استمال بعض رجال قلندر جلبى، فقلت قواته وهزم وقتل.
بعد هذا هدأت الأحوال في الدولة العثمانية وبدأ السلطان سليمان في التخطيط لسياسة الجهاد في أوربا.
فتوحاته في أوربا
بلجراد والمجر اسلاميتان
بدأ العثمانيون في عصر سليمان فتوحاتهم في أوربا بفتح أهم مدن البلقان وهي بلغراد، التي كان المجريون يتولون حمايتها، وكانت علاقة العثمانيين بالمجريين في هذا الوقت متوترة إذ كان سليمان قد أرسل إلى ملك المجر رسولا يعلنه بتولي سليمان عرش العثمانيين، فقتل الملك المجري رسول سليمان ويدعي بهرام جاووش، فأعلن السلطان العثماني الحرب على المجر، وحاصرت القوات العثمانية بلغراد من البر ومن النهر وسلّمت بلغراد بعد شهر واحد من الحصار (عام 1521 م) واتخذها العثمانيون قاعدة حربية تنطلق منها قواتهم في فتوحاتهم الأوربية، وأثناء حرب بلغراد هذه استولى العثمانيون أيضا على قلاع هامة في منطقة بلغراد مثل صاباج وسلانكامن وزملين.
وبعد خمس سنوات فقط من هذه الحرب التي أخذ فيها العثمانيون بلغراد أخذ ملك المجر لايوش يجمع القوى الأوربية لقهر العثمانيين، كتب ملك المجر إلى كل من شرلكان الإمبراطور الألماني وإلى فرديناند الأرشيدون النمسوي يطلب منهما التحالف معه لقهر العثمانيين، وفي ذلك الوقت كان سليمان يعد العدة للحرب ضد المجر.
في تلك الفترة أيضاً قامت حرب محدودة بين شرلكان وبين ملك فرنسا فرانسوا الأول، انتصر شرلكان وأخذ فرانسوا أسيراً، فقامت أم الملك الفرنسي ثم ابنها بعد ذلك بإرسال خطابات نجدة إلى سليمان العثماني يطلبان منه تأييده ضد أعداء فرنسا، فوعد سليمان خيرا، وفي ربيع 1526 تحرك الجيش العثماني في أكثر من ستين ألف جندي من استانبول حتى وصل إلى سهول المجر، وفي صحراء موهاج بالمجر دارت معركة ضخمة من المعارك الإسلامية المسيحية دارت في يوم 29 أغسطس من نفس العام واستمرت ساعتين، وبخطة موفقه من العثمانيين هزم الجيش المجري وكان من أرقى الجيوش الأوربية ومشهور بفرسانه المدرعين، ولعبت المدفعية العثمانية المتقدمة تكنولوجيا دورها في هذا النصر السريع الخاطف الذي أحرزه الجيش العثماني بعد قطعه لمسافات طويلة، مات من الجنود المجريين الكثير، وفر أيضا عدد كبير من ميدان المعركة، وكان من ضمن هؤلاء الذين فروا إلى المستنقعات ملك المجر القائد الأعلى للقوات المسيحية لايوش وهو نفسه الملقب بالملك لويس الثاني ملك بلاد المجر، وإن كان الملك المجري لم يلق حتفه عل على يد سيف عثماني، فقد لاقاه عند هربه إلى المستنقعات إذ قد مات غرقا فيها، ورفعت الرايات العثمانية فوق العاصمة المجرية بشت ولم تكن قد صارت بعد باسمها المعروف الآن بودابست.
من بودابست أعلن السلطان سليمان القانوني خضوع مملكة المجر للحماية العثمانية، ثم أصدر أمراً بتعيين أحد المجريين ملكا عليها وكان هذا الملك هو جون زابوليا أمير منطقة أردل وهو الذي تعرفه المصادر الشرقية باسم الملك يانوش، وعاد سليمان إلى استانبول بجيوشه.
حرب النمسا
بعد ثلاث سنوات من الحملة العثمانية لفرض الحماية الإسلامية على مملكة المجر جاءت رسالة إلى سليمان من يانوش ملك المجر يقول فيها بأن أرشيدوق النمسا فرديناند يستعد لأخذ المجر منه بعد أن قام الكثير من أمراء المجر بتأييده ملكا على المجر بدلا من يانوش، واستولى فرديناند بالفعل على مدينة بودين من الملك المجري التابع للعثمانيين.
وفى مايو من عام 1529 م تحركت الجيوش العثمانية من استانبول إلى المجر واستعاد سليمان القانوني مدينة بودين مرة أخرى وفي احتفال مهيب توّج القانوني جون زابوليا ملكا على المجر.
ورغم حماس كل من فرديناند وشرلكان ورغم توقع أن يتحركا للحصول على بودين من العثمانيين وإنزال ضربة بالقوات العثمانية، إلاّ أن شيئا من هذا لم يحدث فقد استولى عليهما الرعب والخوف من سليمان.
أصر السلطان سليمان القانوني على محاربة فرديناند، فحاصرت القوات العثمانية في سبتمبر 1529 م مدينة فيينا عاصمة النمسا، واشترك في الحصار مائة وعشرون ألفا جندي وثلاثمائة مدفع، وقبل الحصار خرج ملك النمسا من عاصمته وانسحب بعيدا عنها، وقامت معارك كبيرة في أمام أسوار فيينا لكن الجيش العثماني لم يتمكن من فتحها، إذ جاء الشتاء وبدأت المواد الغذائية تنقص، وأثناء حصار فيينا أرسل العثمانيون قوات (المغيرين) وهي وحدات خاصة في الجيش العثماني، إلى داخل ألمانيا حيث شنوا الغارات وأخذوا الغنائم وأسروا الكثير وعادت القوات العثمانية جميعا دون التمكن من فتح فيينا.
غير أن مؤرخين أخريين يذكروا أن السبب في ترك فيينا هو مهاجمة الصفويين لأملك الدولة العثمانية، حتي أنه في عام 1524 تولى الحكم في الدولة الصفوية الشاه طهماسب بن الشاه إسماعيل. بدأ طهماسب نشاطه ضد الدولة العثمانية بأن رغب في التحالف مع القوى الأوربية لحصر العثمانيين بين القوتين والقضاء على دولتهم، فأرسل طهماسب إلى شرلكان سفيراً يطلب منه التحالف بين الاثنين.
رحل سليمان القانوني عن فيينا وهو متأكد أنه سيعود اليها مرة أخري وأنه سيسقطها غير أن الموت حال بينه وبين ذلك.. احتفل النمساوييون كثيراً بهذا النصر وكانت بالنسبة لهم أول مرة يقف فيها الأوربيون أمام قوة الأتراك الهائلة والزاحفة باضطراد علي أوربا.
وقد وُصف الجيش التركي حينها بأنه لم تتمكن أية دولة حتى ذلك التاريخ من أن تجمع جيشا مثله، وتسبب ذلك في قلق العالم المسيحي في أوروبا وعلى رأسه ألمانيا.
حرب ألمانيا
وبعد ثلاث سنوات من بداية الحملة على المجر وحصار فيينا، بدأ السلطان سليمان القانوني القيام بحرب ألمانيا (1532 م).
سبب حملة سليمان على ألمانيا هو أن أرشيدوق النمسا فرديناند أرسل إلى السلطان العثماني سفيرا يطلب منه الإعتراف به ملكا على المجر، ولم يكتف فرديناند بذلك بل جرّد حملة وحاصر بها مدينة بودين، وقامت الحامية العثمانية في هذه المدينة مع القوات المجرية المحلية بالدفاع عن المدينة. على هذا كان قرار سليمان بحملته على ألمانيا، أما لماذا سمّيت بالحملة العثمانية على ألمانيا فذلك لأن سليمان كان يقصد بها دحر قوات شرلكان الألماني أكثر منها حملة على فرديناند.
وصل السلطان العثمانـي إلى النمسا مارا بيوغوسلافيا والمجر، كانت القوات العثمانية المشتركة في هذه الحملة تقدر بمائتي ألف، لم يحاصر العثمانيون فيينا هذه المرّة بل توجه لتأديب أسرة هابسيرج العريقة لكن آل هابسيرج وقوادهم خافوا عندما علموا بوصول سليمان العثماني وخشوا مواجهته، ولما لم يتحركوا للحرب، أرسل سليمان إلى فرديناند رسالة كلها احتقار دفعاً لحماسه إلى الحرب، لكن آل هابسبرج لم يتحركوا وصدرت للمغيرين أوامر بالقيام بعمليات عسكرية سريعة في داخل ألمانيا غنموا فيها وأسروا وانتصروا، وعندما حل الشتاء عادت الحملة العثمانية بأكملها إلى استانبول.
أسفرت الحملة العثمانية على ألمانيا عن خوف فردياند وإيمانه بأن لا قوة في أوربا تستطيع التصدي لسليمان العثمانـي، فاضطر فرديناند إلى طلب الصلح وهو صاغر، ووافق السلطان القانوني على الصلح بشرط أن يعترف فرديناند بأنه ليس نداً للسلطان العثماني وأنه مجبر في معاهدة الصلح هذه على الإعتراف بيانوش ملكا على المجر تحت الحماية العثمانية، ووافق فرديناند صاغرا على دفع 000ر30 دوقا ذهبية جزية للدولة العثمانية.
فرنسا مستغيسة من جديد
وفى الجبهة الأوربية: مات يانوش عام 1540م ولم يكن له إلا ولداً طفلاً فقامت الملكة إيزابيلا بالكتابة إلى السلطان العثمانـي تقول له أنها تريد أن يكون ابنها هو الملك بديلا عن أبيه، وكانت تدرك أن فرديناند ارشيدوق النمسا يطمع في ملك المجر بل وتحرك وحاصر بودين فعلا، وسريعا ما تحرك جيش العثمانيين بقيادة السلطان سليمان القانوني نحو بودين، وما أن سمع النمساويون بقرب القوات العثمانية حتـى تركوا حصار المدينة وهربوا، وعند أنسحابهم كانت بعض وحدات العثمانيين بقيادة الوزير محمد باشا تلحق بهم الخسائر الفادحة أثناء انسحابهم.
وفى عام 1541 دخل السلطان بودين وأمر بتحويل أضخم كنائسها إلى جامع للمسلمين كما أمر بإلحاق هذه المنطقة الهامة من المجر بالدولة العثمانية تحت اسم ولاية بودين، وأمر بتعيين سيجسموند الابن الطفل لملك المجر يانوش، أميرا على إمارة أردل التي كان يحكمها أبوه قبل أن يصبح ملكا على المجر، ثم عاد السلطان إلى العاصمة.
جهاد أوربا المقدس ضد العثمانيين
لم يسكت فرديناند فقد أقنع البابا بول الثالث بضرورة تكوين حملة صليبية قوية لكي تستريح أوربا من العثمانيين بالتخلص منهم والقضاء عليهم. فأخذت الحرب بين العثمانيين والألمان طابع الحرب بين الإسلام والمسيحية، حيث وعد الملك الفرنسي لويس الرابع عشر بتقديم قوات فرنسية للألمان للقتال إلى جانبهم، وساندت إنجلترا ألمانيا ضد العثمانيين وكذلك هولندا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال، ووجه بابا روما دعوة إلى كافة المسيحيين للجهاد المقدس ضد العثمانيين، فانضمت بولونيا والبندقية والدانمارك إلى هذا التحالف المقدس.وتحركت هذه الحملة إلى بودين عام 1542، وحاصرتها حصارا محكما، لكنها فشلت في الاستيلاء عليها، ولما وصلت أخبار هذه الحملة إلى السلطان سليمان، تحرك مرة أخرى عام 1543 إلى أوربا واستولى على أهم القلاع المجرية التي كانت في يد النمسويين وهما استركون، واستولني بلغراد.
توسل الملكان المرموقان في أوربا في ذلك الوقت إلى السلطان سليمان عن طريق السفراء أن يعفوا عنهما، وسامحهما سليمان بشرط أن تدفع النمسا سنوياً مبلغ ... ,.3 ذهبا عن أراضي المجر التي في يدها، ولم تستمر هذه المعاهدة طويلاً إذ اعتدى النمساويون على أردل، لذلك قام الوزير قره أحمد باشا مع أمير أمراء الروملي صقوللو محمد باشا عام 1552 م بحصار قلعة طمشوار وكانت في أيدي النمسويين وأخذها فتحا، وتحرك علي باشا الخادم من بودين ودخل الأراضي المجرية التي تسيطر عليها النمسا وفتح كثيرا من قلاعها وغنم وأسر، وحاول أحمد باشا بقواته أن يستولي على قلعة أيرى فلم يوفق.
اجتمع مجلس شعب إمارة أردل ورفض الحكم النمسوي ووقع المجلس مع العثمانيين معاهدة وطلبوا من سليمان أن يصبح سيجسموند بن يانوش والموجود في بولندا ملكا عليهم فقبل العثمانيون هذا وأصبحت أردل مملكة يحكمها سيجسموند تحت الحماية العثمانية عام 1559 م، ولم يكن مناص من أن ترسل النمسا سفارة إلى سليمان العثمانـي ترجوه فضّ حالة النزاع وعقد معاهدة سلام، ولما وافق سليمان العثماني على ذلك وقعت المعاهدة عام 1562 م إعترفت فيها النمسا بعدم أحقيتها في أردل وأنها تقبل دفع مبلغ 30000 ذهبا وسار الحال هادئا حتى مات فرديناند وخلفه مكسميليان الذي اعتدى على الأراضي العثمانية فخرج سليمان العثمانـي ليؤد به، إلاّ أن السلطان توفي وهو يحاصر إحدى القلاع في هذه الحرب.
أما ما كان من أمر السلطان مع فرنسا فقد بدأت أول ما بدأت أثناء حروب القانوني في المجر، فقد لبى السلطان طلب الدعم الذي تقدم به فرانسوا الأول ملك فرنسا وأمه، وأنقذ السلطان فرانسوا من ضغوط شرلكان عليه.
لماذا صالح الفرنسيين؟
أما لماذا قبل السلطان سليمان القانوني أن يساعد فرنسا، فذلك لأن الأوربين كانوا ينظمون حملات صليبية على الدولة العثمانية وعلى العالم الإسلامي ولا يكلّون من هذا رغم هزائمهم المتكررة فانتهز القانوني النزاع بين شرلكان وبين فرانسوا ملك المجر وفكر في نزع فرنسا من أوربا بمعنى أبعادها عن المعسكر المسيحي واتخاذها مانعا أوربيا ضد أي تجمع صليبي ضد العثمانيين.
ولما كان سليمان القانونـي في حملته لاستعادة بغداد من الصفويين تقدم إليه السفير الفرنسي جون دي لافوريت ليهنئ السلطان بانتصاراته، وعندما عاد القانوني إلى استانبول وقع مع فرنسا معاهدة 1535 م منح بموجبها السلطان لفرنسا بعض الإمتيازات التجارية مثل إعطاء تخفيض جمركي خاص للسفن الفرنسية التي تصل الموانئ العثمانية، وتم الإتفاق على أن هذه المعاهدة تسرى طالما الحاكمين على قيد الحياة، لكن الفرنسيون نجحوا في تجديدها كلما جد سلطان جديد حتى وصل الأمر على تثبيت هذه الإمتيازات رسميا عام 1740 م.
كان القانوني معوانا لفرنسا فقد أمدها بمعونات عسكرية فقد أرسل قباطنته العظام مثل خير الدين برباروس وطورغود رئيس، وتحت إمرتهما الأساطيل العثمانية إلى فرنسا لمؤازرتها.
غزوات السلطان المنتصر في البحر مثلما كانت في البر
في عهد القانوني تم فتح جزيرة رودوس عام 1522 م. ورودوس ذات موقع استراتيجي هام بالنسبة للأناضول والدولة العثمانية، وكان انتصاراً باهراً على فرسان القديس يوحنا، انتصاراً كلف الدولة كثيرا واشترك الأسطول العثماني مع تدعيم بحري من مصر، قلعة رودوس كانت أقوى قلعة بحرية في العالم في ذلك الوقت، لكنها خضعت للمسلمين العثمانيين ووقف الأوربيين أمام خبر سقوطها مذهولين.
ومن المواقع البحرية الخالدة في التاريخ الإسلامي الحديث معركة برَوَزَة البحرية، وقد حدثت عام 1538 م، وقصتها أيضا مرتبطة بالصراع الإسلامي المسيحي في القرن السادس عشر الميلادي، فقد دعا البابا بول الثالث، الجيوش الأوربية للإتحاد ضد العثمانيين، وتكون تحالفا صليبيا بحريا ضم ثلاثمائة قطعة بحرية مسيحية، كان يقودها أشهر قائد بحري عالمي في هذا القرن وهو أندريا دوريا، أما أسطول العثمانيين فقد كان يتكون من 120 قطعة بحرية يقودها خير الدين برباروس. والتقى الأسطولان في يوم 28 سبتمبر عام 1538 م أمام بروزه.
وضع خير الدين برباروس أسطوله على شكل هلال عين على رأس جناحه الأيمن صالح رئيس، وعلى رأس جناحه الأيسر سيدي علي رئيس، وقاد خير الدين بنفسه الجناح الأوسط وأمر طورغود رئيس بأن يقود احتياطي الأسطول ويبقى في الخلف.
بدأ برباروس بإطلاق نيران مدفعيته على سفن العدو، وعلى حين غرة وعندما لم يكن أسطول الصليبيين يتوقع الهجوم إذا بخير الدين برباروس ينطلق إلى مقدمة الأسطول المسيحي الذي أختل نظامه بفعل المباغته وما لبث أن تفرق وإذا بالقائد أندريا دوريا يهرب نجاة بحياته، ولقد كان انتصار العثمانيين في هذه المعركة انتصارا يدين للمباغته والهجوم الغير متوقع من خير الدين برباروس، وجعل هذا النصر، العزة في البحر المتوسط للعثمانيين.
ولم يستطع شرلكان تحمل أنباء هذه الهزيمة الأوربية، فقاد بنفسه أسطولا أوربيا قويا وهجم به على الجزائر العثمانية عام 1541 م، ولكن حسن أغا المسؤول عن أمن الجزائر والذي كان خير الدين باشا يتبناه، دافع بشجاعة عن الجزائر أجبر بها شرلكان على الإنسحاب خاسرا.
كانت طرابلس الغرب في هذا العهد تحت حكم فرسان مالطة وهم من المسيحيين، ونظرا لأن أهل طرابلس الغرب من المسلمين فقد وجه السلطان سليمان القانوني أمره إلى قبطان البحر العثماني طورغود رئيس بتخليص طرابلس الغرب من النفوذ المسيحي، فقام هذا القبطان بأسطوله بمحاصرة طرابلس الغرب حصاراً شديدا إلى أن اضطر حاميتها المسيحية إلى التسليم وكان ذلك عام 1551 م، وعين القانوني طورغود رئيس عينه واليا على طرابلس الغرب، وكان طورغود بطلا مسلما بحريا كبيرا، وقد استشهد بعد ذلك عام 1565 م أثناء حصار العثمانيين لجزيرة مالطة.
ثم اتجهت أنظار العثمانيين إلى استخلاص جزيرة صاقير وهي جزيرة هامة في بحر ايجه في مواجهة إزمير، وكانت في يد البنادقة وبالفعل فتحها العثمانيون عام 1566 م على يد بياله باشا.
ولم تقتصر أعمال العثمانيين الجهادية ضد الأوربيين في أوربا والبحر المتوسط فقط بل أخذ العثمانيون يناضلون ضد البرتغاليين في المحيط الهندي.
عندما فتح العثمانيون مصر في عهد السلطان سليم والد سليمان، كان البرتغاليون قد اكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح ووصلوا إلى الهند، وما لبثوا أن قاموا باعتداءات وحشية على مسلمي الهند، فاستنجد حاكم كجرات بالخليفة العثماني سليمان القانوني، وكان طبيعيا أن يلبي الخليفة هذا الإستنجاد فقامت القوات البحرية العثمانية بأربع حملات بحرية لتأديب البرتغاليين كانت الأولى عام 1538 م وكانت بقيادة سليمان باشا الخادم والي مصر العثماني وكانت نتائجها: الإستيلاء على عدن وأجزاء من اليمن ومحاصرة قلعة ديو في الهند، والثانية عام 1551 م وكان قائدها هو بيري رئيس صاحب بحرية، والثالثة عام 1552 وكانت بقيادة مراد رئيس، والرابعة بقيادة سيدي علي رئيس صاحب كتاب مرآة الممالك.
والأن وبعد أن قرأتم سيرة هذا الخليفة المسلم التركي الجهادية، ألا تتفقوا معي أن الدولة العثمانية ظلمناها نحن العرب تاريخياً جداً؟؟ (علماً بأني اكتفيت بالحديث عن جهاده مع الأوربيين دون الحديث عن معاركه مع الصفويين)
__________________
(4) فتح مدينة الاسلام "القسطنطينية"
* "ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشئ الخارق، محمد الفاتح يحول الأرض الي بحار، وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الاسكندر الأكبر" .. مؤرخ بيزنطي
* في 16 جمادي الأولي 857هـ الموافق 25 مايو 1453م حمل أهل المدينة تمثالاً للسيدة مريم العذراء وأخذوا يتجولون به في ضواحي المدينة يدعونه ويتضرعون الي العذراء أن تنصرهم علي أعدائهم، وفجأة سقط التمثال من أيديهم وتحطم فرأوا في ذلك شؤماً وفي اليوم الثاني الموافق 26 مايو هطلت أمطار مصحوبة ببعض الصواعق ونزلت احدي الصواعق علي كنيسة آيا صوفيا أكبر كنائس أوربا في ذلك الوقت فتشائم البطريرك وذهب الي الامبراطور وأخبره أن الله تخلي عنهم وأن المدينة ستسقط في يد المجاهدين العثمانيين فتأثر الامبراطور حتي أغمي عليه.
* "حسناً عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر" .. محمد الفاتح
كانت القسطنطينية واحدة من أهم مدن العالم، لما له من موقع عالمي فريد بين البر والبحر، حتي قيل عنها "لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها" .. بناها الامبراطور البيزنطي قسطنطين الأول عام 330م وكانت الحجر العثرة الذي امتنع عن فتوحات المسلمين زيادة على 800 سنة فحمت أوربا طويلاً بل اني أذهب لما هو أكثر وأدعي أنه لو سقطت هذه المدينة مبكراً لكانت أوربا بكاملها مسلمة الأن.
غير أن أهم ما حث الخلفاء المسلمين علي مر الزمان ما سبق وأن بشر به الرسول في غزوة الخندق حين قال "لتفتحن القسطنطينية علي يد رجل فلنعم الأمير أمرها ولنعم الجيش ذلك الجيش"
محاولات سابقة:
بدأت أولي الحملات الاسلامية علي القسطنطينية منذ أيام معاوية بن أبي سفيان سنة 44 هـ وقد تكررت حملات أخري في عهده حظيت بنفس النتيجة.
كما قامت الدولة الأموية بمحاولة أخري تمت في أيام سليمان بن عبد الملك سنة 98 هـ وكانت أقوي الحملات الأموية واستمرت بعدها المحاولات في العصر العباسي الذي شهد جهاد مكثف ضد الدولة البيزنطية ولكنها لم تتمكن من الوصول الي القسطنطينية نفسها وتهددها مع أنها هزتها وأثرت علي الأحداث داخلها وبخاصة الحملة التي حدثت أيام هارون الرشيد سنة 190هـ.
قامت بعد ذلك دويلات اسلامية في آسيا الصغري اقتربت من العاصمة البيزنطية أهمها دولة السلاجقة التي امتدت سلطتها الي أسيا الصغري حتي ان زعيمها ألب أرسلان استطاع أن يهزم امبراطور الروم ديونوس في موقعة ملاذ كرد وأسره وضربه وسجنه قبل أن يطلق سراحه ذليلاً صاغراً مضيعاً بذلك هيبة بيزنطة ومبشراً بمد اسلامي جارف.
وبعد ضعف دولة السلاجقة الكبري ظهرت عدة دول سلجوقية كان أهمها سلاجقة الروم في آسيا الصغرى التي مدت سلطانها الى سواحل بحر ايجه غرباً.
وفي مطلع القرن الثامن الهجري خلف العثمانيون السلاجقة وتجددت المحاولات لفتح القسطنطينية وكانت البداية في أيام السلطان بايزيد الذي حاصرها بقوة سنة 796هـ وأخذ يفاوض امبراطورها لتسليم المدينة بينما راوغ الأخر وماطل محاولاً طلب المساعدات من أوربا، وفي الوقت ذاته دخل المغول الأراضي العثمانية مما استدعي عودة السلطان بايزيد حيث دارت معركة أنقرة الشهيرة التي انتهت بأسره ثم موته بعد ذلك في الأسر.
تلا ذلك محاولات أخري في أيام السلطان مراد الثاني حتي جاء السلطان الفاتح ليضع نهاية للقسطنطينية كشوكة في الخصر الاسلامي ليفتح لمن بعده الأبواب الي أوربا سهلة يسيرة.
الإعداد للفتح:
تحاط القسطنطينية بالمياه البحرية في ثلاث جبهات، مضيق البسفور، وبحر المرمرة، والقرن الذهبي الذي كان محمياً بسلسلة حديدية ضخمة تتحكم في دخول السفن إليه، وبالإضافة إلى ذلك فإن خطين من الأسوار كانت تحيط بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة إلى القرن الذهبي، يتخللها نهر ليكوس، وكان بين السورين فضاء يبلغ عرضه 60 قدماً ويرتفع السور الداخلي منها 40 قدماً وعليه أبراج يصل ارتفاعها إلى 60 قدماً، وأما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه قرابة خمس وعشرين قدماً وعليه أبراج موزعة مليئة بالجند، وبالتالي فإن المدينة من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصيناً، لما عليها من الأسوار والقلاع والحصون إضافة إلى التحصينات الطبيعية، وبالتالي فإنه يصعب اختراقها، ولذلك فقد استعصت على عشرات المحاولات العسكرية لاقتحامها ومنها إحدى عشرة محاولة إسلامية سابقة.
وقد اعتنى السلطان محمد الفاتح بإقامة قلعة (روملي حصار) في الجانب الأوروبي على مضيق البسفور في أضيق نقطة منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر الآسيوي، وقد حاول الإمبراطور البيزنطي ثني السلطان الفاتح عن بناء القلعة مقابل التزامات مالية تعهد به إلا أن الفاتح أصر على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع ، حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة ، وصل ارتفاعها إلى 82 متراً، وأصبحت القلعتان متقابلتين ولا يفصل بينهما سوى 660م تتحكمان في عبور السفن من شرقي البسفور إلى غربيه وتستطيع نيران مدافعهما منع أي سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة (طرابزون ) وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة.
التسلح:
اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الأسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع التي أخذت اهتماماً خاصاً منه حيث أحضر مهندساً مجرياً يدعى (أوربان) كان بارعاً في صناعة المدافع فأحسن استقباله ووفر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية، وقد تمكن هذا المهندس من تصميم وتنفيذ العديد من المدافع الضخمة كان على رأسها المدفع السلطاني المشهور، والذي ذكر أن وزنه كان يصل إلى مئات الأطنان وأنه يحتاج إلى مئات الثيران القوية لتحريكه، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها.
الأسطول:
ويضاف إلى هذا الاستعداد ما بذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يكمل حصارها دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة ،وقد ذكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثر من أربعمائة سفينة.
عقد المعاهدات:
كما عمل الفاتح قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة (غلطة) المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بينهما مضيق (القرن الذهبي) ، كما عقد معاهدات مع (المجد) و (البندقية) وهما من الأمارات الأوروبية المجاورة ، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية ، حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن القسطنطينية مشاركة لبني عقيدتهم من النصارى متناسين عهودهم ومواثيقهم مع المسلمين.
في هذه الأثناء التي كان السلطان يعد العدة فيها للفتح استمات الإمبراطور البيزنطي في محاولاته لثنيه عن هدفه ، بتقديم الأموال والهدايا المختلفة إليه ، بمحاولة رشوة بعض مستشاريه ليؤثروا على قراره ولكن السلطان كان عازماً على تنفيذ مخططه ولم تثنه هذه الأمور عن هدفه ، ولما رأى الإمبراطور البيزنطي شدة عزيمة السلطان على تنفيذ هدفه عمد إلى طلب المساعدات من مختلف الدول والمدن الأوربية وعلى رأسها البابا زعيم المذهب الكاثوليكي ، في الوقت الذي كانت فيه كنائس الدولة البيزنطية وعلى رأسها القسطنطينية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية وكان بينهما عداء شديد ، وقد اضطر الإمبراطور لمجاملة البابا بأن يتقرب إليه ويظهر له استعداده للعمل على توحيد الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية لتصبح خاضعة له ، في الوقت الذي لم يكن الأرثوذكس يرغبون في ذلك ، وقد قام البابا بناءً على ذلك بإرسال مندوب منه إلى القسطنطينية ، خطب في كنيسة آيا صوفيا ودعا للبابا وأعلن توحيد الكنيستين ، مما أغضب جمهور الأرثوذكس في المدينة ، وجعلهم يقومون بحركة مضادة لهذا العمل الإمبراطوري الكاثوليكي المشترك ، حتى قال بعض زعماء الأرثوذكس : ( إنني أفضل أن أشاهد في ديار البيزنط عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللاتينية).
الهجوم:
كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها ، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها ، وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها إلى القسطنطينية ، وقد تحركت المدافع من أدرنة إلى قرب القسطنطينية ، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم من الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 26 ربيع الأول 857هـ الموافق 6 أبريل 1453م ، فجمع الجند وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي ، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة ، وذكرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء ، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك ، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره ، وما في فتحها من عز الإسلام والمسلمين ، وقد بادر الجيش بالتهليل والتكبير والدعاء.
وكان العلماء مبثوثين في صفوف الجيش مقاتلين ومجاهدين مما أثر في رفع معنوياتهم حتى كان كل جندي ينتظر القتال بفارغ الصبر ليؤدي ما عليه من واجب.
وفي اليوم التالي قام السلطان بتوزيع جيشه البري أمام الأسوار الخارجية للمدينة، مشكلاً ثلاثة أقسام رئيسية تمكنت من إحكام الحصار البري حول مختلف الجهات، كما أقام الفاتح جيوشاً احتياطية خلف الجيوش الرئيسية، وعمل على نصب المدافع أمام الأسوار، ومن أهمها المدفع السلطاني العملاق الذي أقيم أمام باب طب قابي، كما وضع فرقاً للمراقبة في مختلف المواقع المرتفعة والقريبة من المدينة، وفي نفس الوقت انتشرت السفن العثمانية في المياه المحيطة بالمدينة، إلا أنها لم تستطع الوصول إلى القرن الذهبي بسبب وجود السلسلة الضخمة التي منعت أي سفينة من دخوله بل وتدمر كل سفينة تحاول الدنو والاقتراب، واستطاع الأسطول العثماني أن يستولي على جزر الأمراء في بحر مرمرة.
وكانت المدفعية العثمانية تطلق مدافعها من مواقع مختلفة نحو المدينة، وكان لقذائفها ولصوتها الرهيب دور كبير في إيقاع الرعب في قلوب البيزنطيين، وقد تمكنت من تحطيم بعض الأسوار حول المدينة، ولكن المدافعين كانوا سرعان ما يعيدون بناء الأسوار وترميمها.
ولم تنقطع المساعدات المسيحية من أووربا، ووصلت إمدادات من (جنوة ) مكونة من خمس سفن وكان يقودها القائد الجنوي ( جستنيان) يرافقه سبعمائة مقاتل متطوع من دول أوربية متعددة، واستطاعت سفنهم أن تصل إلى العاصمة البيزنطية العتيقة بعد مواجهة بحرية مع السفن العثمانية المحاصرة للمدينة، وكان لوصول هذه القوات أثر كبير في رفع معنويات البيزنطيين، وعين قائدها ( جستنيان ) قائداً عاماً للقوات المدافعة عن المدينة.
وقد حاولت القوات البحرية العثمانية تخطي السلسلة الضخمة التي تتحكم في مدخل القرن الذهبي والوصول بالسفن الإسلامية إليه ، وأطلقوا سهامهم على السفن الأوروبية والبيزنطية ولكنهم فشلوا في تحقيق مرادهم، لم يكل القس ورجال الدين النصارى، فكانوا يطوفون بشوارع المدينة، وأماكن التحصين ويحرضون المسيحيين على الثبات والصبر، ويشجعون الناس على الذهاب إلى الكنائس ودعاء المسيح والسيدة والعذراء أن يخلصوا المدينة، وأخذ الإمبراطور قسطنطين يتردد بنفسه على كنيسة أيا صوفيا لهذا الهدف.
طلب تسليم المدينة:
تسليم المدنية تسليماً، وأنه في هذه الحالة لن يتعرض أحد من أهلها ولا كنائسها للأذى، وكان مضمون الرسالة: ( فليسلم لي إمبراطوركم مدينة القسطنطينية وأقسم بأن جيشي لن يتعرض لأحد في نفسه وماله وعرضه، ومن شاء بقي في المدينة وعاش فيها في أمن وسلام، ومن شاء رحل عنها حيث أراد في أمن وسلام أيضاً).
كان الحصار لا يزال ناقصاً ببقاء مضيق القرن الذهبي في أيدي البحرية البيزنطية، ومع ذلك فإن الهجوم العثماني كان مستمراً دون هوادة حيث أظهر جنود الانكشارية شجاعة فائقة، وبسالة نادرة، فكانوا يقدمون على الموت دون خوف في أعقاب كل قصف مدفعي، وفي يوم 18 أبريل تمكنت المدافع العثمانية من فتح ثغرة في الأسوار البيزنطية عند (وادي ليكوس) في الجزء الغربي من الأسوار، فاندفع إليها الجنود العثمانيون بكل بسالة محاولين اقتحام المدينة من الثغرة، كما حالوا اقتحام الأسوار الأخرى بالسلالم التي ألقوها عليها، ولكن المدافعين عن المدينة بقيادة (جستنيان) استماتوا في الدفاع عن الثغرة والأسوار، واشتد القتال بين الطرفين، وكانت الثغرة ضيقة وكثرت السهام والنبال والمقذوفات على الجنود المسلمين ، ومع ضيق المكان وشدة مقاومة الأعداء وحلول الظلام أصدر الفاتح أوامره للمهاجمين بالانسحاب بعد أن أثاروا الرعب في قلوب أعدائهم متحينين فرصة أخرى للهجوم.
وفي اليوم نفسه حاولت بعض السفن العثمانية اقتحام القرن الذهبي بتحطيم السلسلة الحاجزة عنه، ولكن السفن البيزنطية والأوروبية المشتركة، إضافة إلى الفرق الدفاعية المتمركزة خلف السلسلة الضخمة من المدافعين عن مدخل الخليج، استطاعوا جميعاً من صد السفن الإسلامية وتدمير بعضها، فاضطرت بقية السفن إلى العودة بعد أن فشلت في تحقيق مهمتها.
بعد هذه المعركة بيومين وقعت معركة أخرى بين البحرية العثمانية وبعض السفن الأوروبية التي حاولت الوصول إلى الخليج، حيث بذلت السفن الإسلامية جهوداً كبيرة لمنعها، أشرف الفاتح بنفسه على المعركة من على الساحل وكان قد أرسل إلى قائد الأسطول وقال له: (إما أن تستولي على هذه السفن وإما أن تغرقها، إذا لم توفق في ذلك فلا ترجع إلينا حياً) لكن السفن الأوروبية نجحت في الوصول إلى هدفها ولم تتمكن السفن العثمانية من منعها، رغم الجهود العظيمة المبذولة لذلك، وبالتالي غضب السلطان محمد الفاتح غضباً شديداً فعزل قائد الأسطول بعد ما رجع إلى مقر قيادته واستدعاه وعنف محمد الفاتح قائد الأسطول ( بالطه أوغلي ) وعنفه واتهمه بالجبن، وتأثر( بالطة أو غلي ) لهذا قال: (إني استقبل الموت بجنان ثابت، ولكن يؤلمني أن أموت وأنا متهم بمثل هذه التهمة. لقد قاتلت أنا ورجالي بكل ما كان في وسعنا من حيلة وقوة، ورفع طرف عمامته عن عينه المصابة). أدرك محمد الفاتح عند ذلك أن الرجل قد أعذر، فتركه ينصرف واكتفى بعزله من منصبه، وجعل مكانه حمزة باشا.
عبقرية حربية فذة:
لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في (بشكطاش) إلى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطرق البري الواقع بين الميناءين مبتعداً عن ( حي غلطة ) خوفاً على سفنه من الجنوبيين ، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلاثة أميال ، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة.
جمع محمد الفاتح أركان حربه وعرض عليهم فكرته، وحدد لهم مكان معركته القادمة، فتلقى منهم كل تشجيع، وأعربوا عن إعجابهم بها.
بدأ تنفيذ الخطة، وأمر السلطان محمد الثاني فمهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها انزلاج السفن وجرها، وكان أصعب جزء من المشروع هو نقل السفن على انحدار التلال المرتفعة ، إلا أنه بصفة عامة كانت السفن العثمانية صغيرة الحجم خفيفة الوزن.
وجرت السفن من البسفور إلى البر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال ، حتى وصلت إلى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي ، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو ، بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك ، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته.
وقد تم كل ذلك في ليلة واحدة ، واستيقظ أهل المدينة البائسة صباح يوم 22 أبريل على تكبيرات العثمانيين المدوية ، وهتافاتهم المتصاعدة ، وأناشيدهم الإيمانية العالية ، في القرن الذهبي ، وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي ، ولم يعد هناك حاجز مائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين ، ولقد عبر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال : (ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق ، محمد الفاتح يحول الأرض إلى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج ، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الإسكندر الأكبر).ظهر اليأس في أهل القسطنطينية وكثرت الإشاعات والتنبؤات بينهم، وانتشرت شائعة تقول: ستسقط القسطنطينية عندما ترى سفن تمخر اليابسة.
وكان لوجود السفن الإسلامية في القرن الذهبي دور كبير في إضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن الأسوار الأخرى لكي يتولوا الدفاع عن الأسوار الواقعة على القرن الذهبي إذ أنها كانت أضعف الأسوار، ولكنها في السابق تحميها المياه، مما أوقع الخلل في الدفاع عن الأسوار الأخرى.
وقد حاول الإمبراطور البيزنطي تنظيم أكثر من عملية لتدمير الأسطول العثماني في القرن الذهبي إلا أن محاولاته باء جميعها بالفشل.
استمر العثمانيون في دك نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع ، وحاولوا تسلق أسوارها ، وفي الوقت نفسه انشغل المدافعون عن المدينة في بناء وترميم ما يتهدم من أسوار مدينتهم ورد ا لمحاولات المكثفة لتسلق الأسوار مع استمرار الحصار عليهم مما زاد في مشقتهم وتبعهم وإرهاقهم وشغل ليلهم مع نهارهم وأصابهم اليأس.
حتي ان العثمانيون وضعوا مدافع خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي، أخذت تدمر السفن البيزنطية والمتعاونة معها في القرن الذهبي والبسفور والمياه المجاورة مما عرقل حركة سفنهم وأصابها بالشلل تماماً.
الحرب نفسية أيضاً:
شرع السلطان محمد الفاتح في نصب المدافع القوية على الهضاب الواقعة خلف (غلطة)، وبدأت هذه المدافع في دفع قذائفها الكثيفة نحو الميناء وأصابت إحدى القذائف سفينة تجارية فأغرقتها في الحال ، فخافت السفن الأخرى واضطرت للفرار ، واتخذت من أسوار (غلطة) ملجأ لها ، وظل الهجوم العثماني البري في موجات خاطفة وسريعة هجمة تلوى الأخرى، وكان السلطان محمد الفاتح يوالي الهجمات وإطلاق القذائف في البر والبحر دون انقطاع ليلاً ونهاراً من أجل إنهاك قوى المحاصرين ، وعدم تمكينهم من أن ينالوا أي قسط من راحة وهدوء بال ، وهكذا أصبحت عزائمهم ضعيفة ونفوسهم مرهقة كليلة ، وأعصابهم متوترة مجهدة تثور لأي سبب.
اضطر الإمبراطور ( قسطنطين )إلى عقد مؤتمر ثاني، اقترح فيه أحد القادة مباغتة العثمانيين بهجوم شديد عنيف لفتح ثغرة توصلهم بالعالم الخارجي وبينما هو في مجلسهم يتدارسون هذا الاقتراح، قطع عليهم أحد الجنود اجتماعهم وأعلمهم بأن العثمانيين شنوا هجوماً شديداً مكثفاً على وادي( ليكونس )، فترك قسطنطين الاجتماع ووثب على فرسه، واستدعى الجند الاحتياطي ودفع بهم إلى مكان القتال ، واستمر القتال إلى آخر الليل حتى انسحب العثمانيون.
لجأ العثمانيون إلى طريقة عجيبة في محاولة دخول المدينة حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الأرض من مناطق مختلفة إلى داخل المدينة وسمع سكانها ضربات شديدة تحت الأرض أخذت تقترب من داخل المدينة بالتدريج، فأسرع الإمبراطور بنفسه ومعه قواده ومستشاروه إلى ناحية الصوت وأدركوا أن العثمانيين يقومون بحفر أنفاق تحت الأرض، للوصول إلى داخل المدينة، فقرر المدافعون الإعداد لمواجهتها بحفر أنفاق مماثلة مقابل أنفاق المهاجمين دون أن يعلموا، حتى إذا وصل العثمانيون إلى الأنفاق التي أعدت لهم ظنوا أنهم وصلوا إلى سراديب خاصة وسرية تؤدي إلى داخل المدينة ثم سرعان ما يقابلهم الروم بالنفط المحترق والمواد الملتهبة.
لكن هذا الفشل لم يفت في عضد العثمانيين، فعاودوا حفر أنفاق أخرى، وفي مواضع مختلفة، من المنطقة الممتدة بين (أكرى فبو) وشاطئ القرن الذهبي وكانت مكاناً ملائماً للقيام بمثل هذا العمل، وظلوا على ذلك حتى أواخر أيام الحصار، وقد أصاب أهل القسطنطينية من جراء ذلك خوف عظيم وفزع لا يوصف حتى صاروا يتوهمون أن أصوات أقدامهم وهو يمشون إن هي أصوات خفية لحفر يقوم به العثمانيون ويملئون المدينة ، فكانوا يتلفتون يمنة ويسرة ، ويشيرون هنا وهناك في فزع ويقولون : (هذا تركي ، … هذا تركي) ويجرون هرباً من أشباح يحسبونها أنها تطاردهم، وكثيراً ما كان يحدث أن تتناقل العامة اشاعة فتصبح كأنها حقيقة رآها أحدهم وهكذا دخل سكان القسطنطينية فزع شديد أذهب وعيهم، فريق يجري وفريق يتأمل السماء ومجموعة تتفحص الأرض والبعض ينظر في وجه البعض الأخر في عصبية وتوتر.
لم تكن الأنفاق ونقل السفن براً هي الفكرة الجديدة في مثل هذه الحروب وحسب فقد لجأ العثمانيون إلى أسلوب جديد في محاولة الاقتحام وذلك بأن صنعوا قلعة خشبية ضخمة شامخة متحركة تتكون من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من الأسوار، وقد كسيت بالدروع والجلود المبللة بالماء لتمنع عنها النيران، وأعدت تلك القلعة بالرجال في كل دور من أدوارها، وكان الذين في الدور العلوي من الرماة يقذفون بالنبال كل من يطل برأسه من فوق الأسوار، غير أنها لم تفي بغرضها كاملاً اذ استمر عبرها بعض القتال قبل أن يدفعها المدافعون ويسقطونها عن الأسوار.
المفاوضات الأخيرة بين الفاتح وقسطنطين:
أيقن محمد الفاتح أن المدينة على وشك السقوط، ومع ذلك حاول أن يكون دخولها بسلام، فكتب إلى الإمبراطور رسالة دعاه فيه إلى تسليم المدينة دون إراقة دماء ، وعرض عليه تأمين خروجه وعائلته وأعوانه وكل من يرغب من سكان المدينة إلى حيث يشاؤون بأمان ، وأن تحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى ويكونوا بالخيار في البقاء في المدينة أو الرحيل عنها ، ولما وصلت الرسالة إلى الإمبراطور جمع المستشارين وعرض عليهم الأمر ، فمال بعضهم إلى التسليم وأصر آخرون على استمرار الدفاع عن المدينة حتى الموت ، فمال الإمبراطور إلى رأي القائلين بالقتال حتى آخر لحظة ، فرد الإمبراطور رسول الفاتح برسالة قال فيها : (إنه يشكر الله إذ جنح السلطان إلى السلم وأنه يرضى أن يدفع له الجزية أما القسطنطينية فإنه أقسم أن يدافع عنها إلى آخر نفس في حياته فإما أن يحفظ عرشه أو يدفن تحت أسوارها) ، فلما وصلت الرسالة إلى الفاتح قال : (حسناً عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر).
سقوط المدينة:
عمد السلطان بعد اليأس من تسليم المدينة صلحاً إلى تكثيف الهجوم وخصوصاً القصف المدفعي على المدينة، حتى أن المدافع السلطاني الضخم انفجر من كثرة الاستخدام، وقتل المشتغلين له وعلى رأسهم المهندس المجري( أوربان )الذي تولى الإشراف على تصميم المدفع، ومع ذلك فقد وجه السلطان بإجراء عمليات التبريد للمدافع بزيت الزيتون، وقد نجح الفنيون في ذلك، وواصلت المدافع قصفها للمدينة مرة أخرى، بل تمكنت من توجيه القذائف بحيث تسقط وسط المدينة بالإضافة إلى ضربها للأسوار والقلاع.
وفي مساء اليوم نفسه أوقد العثمانيون ناراً كثيفة حول معسكرهم وتعالت صيحاتهم وأصواتهم وبالتهليل والتكبير، حتى خيل للروم أن النار قد اندلعت في معسكر العثمانية، فإذا بهم يكتشفون أن العثمانيين يحتفلون بالنصر مقدماً، مما أوقع الرعب في قلوب الروم، وفي اليوم التالي 28 مايو كانت الاستعدادات العثمانية على أشدها والمدافع ترمي البيزنط بنيرانها ، والسلطان يدور بنفسه على المواقع العسكرية المختلفة متفقداً موجهاً ومذكراً بالإخلاص والدعاء والتضحية والجهاد.
وبعد أن عاد الفاتح إلى خيمته ودعا إليه كبار رجال جيشه أصدر إليهم التعليمات الأخيرة، ثم ألقى عليهم الخطبة التالية: "إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث من أحاديث رسول الله ومعجزة من معجزاته، وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً، أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغراء نصب عينيه فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسوها بأذى ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون.
وتوجه قسطنطين نحو صورة للمسيح معلقة في أحد الغرف فركع تحتها وهمهم بعض الدعوات ثم نهض ولبس المغفر على رأسه وخرج من القصر نحو منتصف الليل مع زميله ورفيقه وأمينه المؤرخ( فرانتزتس) ثم قاما برحلة تفقدية لقوات النصارى المدافعة ولا حظوا حركة الجيش العثماني النشطة المتوثبة للهجوم البري والبحري.
وفي الساعة الواحدة صباحا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 مايو 1435م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن أصدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار ، وخاف البيزنطيون خوفا عظيما ، وشرعوا في دق نواقيس الكنائس والتجأ إليها كثير من النصارى ، وكان الهجوم النهائي متزامنا بريا وبحرياً في وقت واحد حسب خطة دقيقة أعدت بإحكام ، وكان المجاهدون يرغبون في الشهادة ، ولذلك تقدموا بكل شجاعة وتضحية وإقدام نحو الأعداء ونال الكثير من المجاهدين الشهادة ، وكان الهجوم موزعا على كثير من المناطق ، ولكنه مركز بالدرجة الأولى في منطقة وادي ليكوس ، بقيادة السلطان محمد الفاتح نفسه ، وكانت الكتائب الأولى من العثمانيين تمطر الأسوار والنصارى بوابل من القذائف والسهام محاولين شل حركة المدافعين ، ومع استبسال البيزنطيين وشجاعة العثمانيين كان الضحايا من الطرفين يسقطون بأعداد كبيرة .
وبعد أن انهكت الفرقة الأولى الهجومية كان السلطان قد أعد فرقة أخرى فسحب الأولى ووجه الفرقة الثانية ، وكان المدافعون قد أصابهم الإعياء ، تمكنت الفرقة الجديدة ، من الوصول إلى الأسوار وأقاموا عليها مئات السلالم في محاولة جادة للاقتحام ، استمرت تلك المحاولات المستميتة وبعد ساعتين من تلك المحاولات أصدر الفاتح أوامره للجنود لأخذ قسط من الراحة ، بعد أن أرهقوا المدافعين في تلك المنطقة ، وفي الوقت نفسه أصدر أمرا إلى قسم ثالث من المهاجمين بالهجوم على الأسوار من نفس المنطقة ، وفوجئ المدافعون بتلك الموجة الجديدة بعد أن ظنوا أن الأمر قد هدأ وكانوا قد أرهقوا ، في الوقت الذي كان المهاجمون دماء جديدة معدة ومستريحة وفي رغبة شديدة لأخذ نصيبهم من القتال .
كان كل ذلك يحدث بالتوازي مع قتال في المنطقة البحرية مما شتت قوات المدافعين وأشغلهم في أكثر من جبهة في وقت واحد ، ومع بزوغ نور الصباح أصبح المهاجمون يستطيعون أن يحددوا مواقع العدو بدقة أكثر ، وشرعوا في مضاعفة جهودهم في الهجوم ، وكان المسلمون في حماسة شديدة وحريصين على إنجاح الهجوم ، ومع ذلك أصدر السلطان محمد الأوامر إلى جنوده بالانسحاب لكي يتيحوا الفرصة للمدافع لتقوم بعملها مرة أخرى حيث أمطرت الأسوار والمدافعين عنها بوابل من القذائف ، واتبعتهم بعد سهرهم طوال الليل ، وبعد أن هدأت المدفعية جاء قسم جديد من شجعان الإنكشارية (جنود الصاعقة وكانوا خيرة جنود العالم في ذلك الوقت) يقودهم السلطان نفسه تغطيهم نبال وسهام المهاجمين التي لا تنفك عن محاولة منع المدافعين عنها ، وأظهر جنود الإنكشارية شجاعة فائقة وبسالة نادرة في الهجوم واستطاع ثلاثون منهم تسلق السور أمام دهشة الأعداء ، ورغم استشهاد مجموعة منهم بمن فيهم قائدهم فقد تمكنوا من تمهيد الطريق لدخول المدينة عند ( طوب قابي ) ورفعوا الأعلام العثمانية مما زاد في حماس بقية الجيش للاقتحام كما فتوا في عضد الأعضاء .
وفي نفس الوقت أصيب قائد المدافعين( جستنيان ) بجراح بليغة دفعته إلى الانسحاب من ساحة المعركة مما أثر في بقية المدافعين ، تولى الإمبراطور قسطنطين قيادة المدافعين بنفسه محل جستنيان الذي ركب أحد السفن فاراً من أرض المعركة ، وقد بذل الإمبراطور جهودا كبيرة في تثبيت المدافعين الذين دب اليأس في قلوبهم من جدوى المقاومة ، في الوقت الذي كان فيه الهجوم بقيادة السلطان شخصياً على أشده، محاولاً استغلال ضعف الروح المعنوية لدى المدافعين.
وقد واصل العثمانيون هجومهم في ناحية أخرى من المدينة حتى تمكنوا من اقتحام الأسوار والاستيلاء على بعض الأبراج والقضاء على المدافعين في باب أدرنة ورفعت الأعلام العثمانية عليها ، وتدفق الجنود العثمانيون نحو المدينة من تلك المنطقة ، ولما رأى قسطنطين الأعلام العثمانية ترفرف على الأبراج الشمالية للمدينة ، أيقن بعدم جدوى الدفاع وخلع ملابسه حتى لا يعرف ، ونزل عن حصانه وقاتل حتى قتل في ساحة المعركة.
وكان لانتشار خبر موته دور كبير في زيادة حماس المجاهدين العثمانيين وسقوط عزائم النصارى المدافعين ، وتمكنت الجيوش العثمانية من دخول المدينة من مناطق مختلفة وفر المدافعون بعد انتهاء قيادتهم ، وهكذا تمكن المسلمون من الاستيلاء على المدينة ، وكان الفاتح رحمه الله مع جنده في تلك اللحظات يشاركهم فرحة النصر ، ولذة الفوز بالغلبة على الأعداء من فوق صهوة جواده ، وكان قواده يهنئونه وهو يقول : (الحمد لله ليرحم الله الشهداء ويمنح المجاهدين الشرف والمجد ولشعبي الفخر والشكر).
تسامح الفاتح مع المسيحيين:
وفي ظهيرة ذلك اليوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 857هـ الموافق 29 من مايو 1453م ، كان السلطان الفاتح في وسط المدينة يحف به جنده وقواده وهم يرددون ما شاء الله ، فالتفت إليهم وقال : لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية الذي أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنأهم بالنصر ونهاهم عن القتل والنهب والسلب، وأمرهم بالرفق بالناس والإحسان إليهم ، ثم ترجل عن فرسه واستقبل القبلة وسجد لله على الأرض شكراً وحمداً وتواضعاً لله تعالى.
توجه محمد الفاتح إلى كنيسة( آيا صوفية ) وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم ، وعندما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفاً عظيماً ، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان ، فأطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة ، فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم ، وصلى فيها الفاتح صلاة العصر ، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة إلى مسجد وأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة ، وقد أخذ العمال يعدون لهذا الأمر ، فأزالوا الصلبان والتماثيل وطمسوا الصور بطبقة من الجير وعملوا منبراً للخطيب ، وقد يجوز تحويل الكنسية إلى المسجد لأن البلد فتحت عنوة والعنوة لها حكمها المختلف في الشريعة الإسلامية.
ثم أمر بدفن الإمبراطور بما يليق بمكانته ، وقد أعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدينة ، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع.
لقد حاول المؤرخ الإنجليزي ( ادوارد شيبرد كريسي ) في كتابة (تاريخ العثمانيين الأتراك ) أن يشوه صوره الفتح العثمانية للقسطنطينية، ووصف السلطان محمد الفاتح بصفات قبيحة حقداً منه وبغضاً للفتح الإسلامي المجيد ، وسارت الموسوعة الأمريكية المطبوعة في عام 1980م في حمأة الحقد الصليبي ضد الإسلام ، فزعمت أن السلطان محمد قام باسترقاق غالبية نصارى القسطنطينية ، وساقهم إلى اسواق الرقيق في مدينة دارنة حيث تم بيعهم هناك.
إن الحقيقة التاريخية الناصعة تقول : إن السلطان محمد الفاتح عامل أهل القسطنطينية معاملة رحيمة وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى و الرفق بهم ، وافتدى عدداً كبيراً من الأسرى من ماله الخاص وخاصة أمراء اليونان ، ورجال الدين ، واجتمع مع الأساقفة وهدأ من روعهم ، وطمأنهم إلى المحافظة على عقائدهم وشرائعهم وبيوت عبادتهم ، وأمرهم بتنصيب بطريرك جديد فانتخبوا ( أجناديوس) بطريكا ، وتوجه هذا بعد انتخابه في موكب حافل من الأساقفة إلى مقر السلطان ، فاستقبله السلطان محمد الفاتح بحفاوة بالغة وأكرمه أيما تكريم ، وتناول معه الطعام وتحدث معه في موضوعات شتى ، دينية وسياسية واجتماعية ، وخرج البطريريك من لقاء السلطان ، وقد تغيرت فكرته تماماً على السلاطين العثمانيين وعن الأتراك ، بل والمسلمين عامة ، وشعر أنه أمام سلطان مثقف صاحب رسالة وعقيدة دينية راسخة وإنسانية رفيعة ، ورجولة مكتملة ، ولم يكن الروم أنفسهم أقل تأثراً ودهشة من بطريقهم ، فقد كانوا يتصورون أن القتل العام لا بد لاحقهم ، فلم تمض أيام قليلة حتى كان الناس يستأنفون حياتهم المدنية العادية في اطمئنان وسلام.
حتي ان التاريخ سجل للأتراك أن ملل النصاري حصلت علي جميع حقوقها في الحكم العثماني وكان لكل ملة رئيس ديني لا يخاطب غير حكومة السلطان مباشرة.
وهكذا فتحت مدينة الروم ، وكان عمر الفاتح آنذاك الخامسة والعشرين عاماً ، وبعد حصار دام خمسين يوماً ، وهي المدينة التي حوصرت تسعاً وعشرين مرة ، وكان بها من السكان آنذاك أزيد من 300 ألف نسمة .
كان لمحمد الفاتح شيخ ومعلم هو الشيخ آق شمس الدين وكان من خيرة علماء عصره في الدين والدنيا .. أرسل ليستدعيه ليكن بجانبه أثناء الهجوم لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليه أحد الخيمة فمنع حراس الخيمة رسول السلطان، غضب محمد الفاتح وذهب بنفسه الي خيمة الشيخ ليستدعيه فمنع الحراس سلطانهم فأخذ الفاتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ليجد شيخه ساجداً لله سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من علي رأسه وشعره ولحيته البيضاوان متدليان علي الأرض ثم رأي السلطان شيخه يقوم من سجدته والدموع تنحدر علي خديه فقد كان يناجي ربه ويدعوه بانزال النصر ويسأله الفتح القريب.
عاد السلطان عقب ذلك الي مقر قيادته فوجد جنوده قد أحدثوا ثغرات بالسور بدأوا يتدفقوا خلالها ففرح السلطان وقال"ليس فرحي لفتح المدينة انما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني.
فتحت القسطنطينية وصارت اسلام بول أو مدينة الاسلام وراسل الفاتح أمصار الأرض وجميع بلاد المسلمين بذلك الخبر فابتهج الجميع وأقيمت الأفراح في مصر والشام والحجاز، وهكذا كانت سنة الله دوماً مع قادتنا العظام .. فلا وجود لفاتح مغوار الا اذا كان حوله علماء ربانيون لتعليمه وارشاده بداية من عبد الله بن ياسين مع يحيي بن ابراهيم في دولة المرابطين مروراً بالقاضي الفاضل مع صلاح الدين الأيوبي وأيضاً آق شمس الدين مع محمد الفاتح فرحمة الله عليهم أجمعين.