كفٌّ بمفردها تحدّقُ في غروبِ الشمسِ
خافضةً على الليمونِ جنحَ عيونها المكسورَ،
والتفاحُ يسقطُ ذابلاً عند الأصيلْ!
* * *
عبرتْ سماءَ الحزنِ
سبعُ (حمائمٍ بيضاءَ)
فانحنتِ الفرسْ
لتشمَّ حزنَ الأرضِ فانفجرَ الصهيلْ.
كانتْ مرايا الوقت فاختةً
كأقمارِ الكآبةِ
والأذانُ العذبُ
يغرقُ في ضبابِ الأرخبيلْ!
وعلى هضابِ الفجرِ تسرحُ شهوةٌ
كالدمعِ جارحة العويل.
فتفقّدتْ أعضاءها الأرضُ الجريحةُ
في صلاةِ الصبحِ..
ألقتْ نظرةً خرساءَ
نحو أمومةِ الزيتونِ..
غاصتْ في حدادٍ غامضٍ
ثم استفاقتْ مثلَ أرملةٍ
لترفعَ قبضةً من مستحيلْ.
لا طفلَ كي يصغي إلى أثدائها الملأى
بطعم اللوزِ
لا رجلاً ليحصدَ شهوةَ الأقماحِ
عن بستانها الذاوي
ولا طيراً ليصغي لارتعاشات الهديلْ.
كُلٌّ يردّدُ اسمه الموروث
منتحراً على أجراسها الجوعى
شهيداً أو قتيلْ.
هيَ ذي العروسةُ في زفافِ الصبحِ
تلبسُ طرحةً بيضاءَ
فيما ترقصُ الأطيارُ حول ذراعها
بتمائمِ التغريدِ
والأولادُ جاؤوا حاملينَ حمامها
ليطيّروهُ، ويرسموا
بالحبر دائرةَ العروسْ.
هي ذي العروسُ
يزفّها الأطفالُ للقمرِ
الأشفِّ على كنائسها الصغيرةِ
كالكؤوسْ
غنّوا لها في الصبح:
آ و يها زرعنا شتلةَ الرمانِ،
آ و يها فزهّرَ قلبُها الحزنان،
آ و يها وراحَ الدمعُ يسقيها
وتذرفهُ الشموسْ.
هي ذي العروسُ ترتّلُ الأشعارَ
والزمارُ يزرعُ زغرداتِ الفجرِ
في الأريافِ
أيّ حمامةٍ
ستميلُ نحو الدمع في هذا الصباح،
وأيّ أغنيةٍ
ستهزجُ في سماء العرسِ آ و يها
ويا أسفيْ عليكْ؟!
رفعتْ غراسُ اللوزِ أذرعها المريضةُ
كي تُسَاقطَ زهرها الموؤودَ
في كفِّ الندامةِ
ثم صاحتْ يا محمدْ!
وتمايلتْ صفصافةٌ في الليلِ
باكيةً على أطلالِ معبْد!
تشرّعُ للخريفِ (جدائلاً) سوداءَ
كي ترثَ الكهولةَ من سواد الغيمِ
راميةً على الأحجارِ
شكلَ حدادها المشؤومَ،
صائحةً على طول المدى:
أنا زهرةُ الأيتامِ
ترفعها على كفِّ الرمالِ
رياحُ (أيلولٍ) مشرّدْ.
نَمْ يا محمدْ!
وأنا التي شهدتْ ولادة حزنها
من مدمعِ الزيتونِ
واحتطبتْ ملامحها بفأسِ الحزنِ
من شجرِ المناحاتِ الجريحْ!
وأنا التي فتحتْ ذراعيها
لتحتضنَ المراثي
مثلما فعلَ المسيحْ..
كي يصلبوني.
وأنا التي نظرَ السوادُ إلى دمي،
فأصابَهُ نُدميْ..
وأرضعتُ المراثي من شجوني!
أنا أوّلُ امرأةٍ رآها النيلُ
تجمعُ من حقولِ القطنِ
أزهاراً لحزنِ الروحِ،
كي تبكي على قمرِ السجونِ!
من أينَ يطلعُ ذلكَ القمر الحزين.
لكي يراهُ الآخرونَ
ولا يروني؟
أنا دمعةُ الزيتونِ تقطرها
بمعموديّةِ الأحزانِ
ريحٌ مرّةٌ
والليلُ يجهشُ (أسوداً)
والحزنُ أبعدْ!
لأصيرَ بَعدكَ زهرةً للمريماتِ السودِ،
أرملةَ المباكي الأمّ
في هذي البلادْ!،
وأدقَّ أجراس الحدادِ
على غيابكَ للأبدْ.
يا زهرةَ التفاحِ في وَحَمِ الجسدْ
لكنني ماذا أقولُ لشتلةِ الريحانِ
إن جاءتْ تفتّشُ عن يديكَ؟
وكيفَ أقنعها بأنكَ نائمٌ
فوقَ السوادْ؟
ماذا أقول لُبحّةِ الناي المهجّرِ
وهو يغرقُ في المراثي،
للكماناتِ التي شنقتْ أغانيها
على وترِ الحدادْ؟
ماذا أقولُ لشجرة الزيتونِ
إن ذرفتْ على قبر البلادْ:
زيتونها المخضرّ كالدمعاتِ
وانتظرتْ لتقطعَ جذعها من أصلهِ
في الصمتِ حشرجةُ الجرادْ؟
صاحتْ بناتُ الليلِ
في شجرِ المواويلِ الحزينةِ:
لَمْ يمتْ!
رفعتْ غيومٌ حزنها المبتلَّ
في وجهِ الشتاءِ
ولم تمتْ
وتطلّعَ الجسدُ الجميلُ
إلى حقولِ البرتقالِ..
رأى السنونو دامعَ العينينِ
يسبحُ في بحيراتِ الغروبِ
كشمعةٍ سوداءَ،
والأشجارَ ترفعُ أذرعاً خضراءَ
للصبح الذي يأتي على جنح الزغاريدِ
الصغيرةِ كالغناءْ.
كلُّ الزغاريدِ التي كانت
تزفُّ الشَّعرَ للحناءِ
والأشعارُ وهي تزفُّ قبّرةً لطيرِ السهلِ
صارتْ للرثاءْ!
فهناكَ خلفَ الليلِ
ذئبٌ طاعنٌ في القتلِ
بين جرودنا
يعوي على الأيتامِ
في أطلالِ معبدْ!
وهناكَ خلفَ ضفائرِ الزيتونِ
يخنقُ ثعلبُ الظلماتِ ساقيةً
ترقرقُها قلوبُ الحزنِ بِالدمعاتِ
والألمِ المجرّدْ!
وهناكَ خلفَ النهر
يكمنُ للغيومِ البيضِ شيطانٌ مؤبّدْ.
نَمْ في ضميرِ الناي
يا مولاي
تحرسكَ العيونُ السودُ،
تحرسُ موتكَ العالي أصابعُ وحشتيْ حزناً
ويمسحُ شعركَ الذاوي أسايْ!!
نَمْ تاركاً لخريفنا الأبديّ
نوحَ ربابةٍ، وحداد نايْ!