لَوْ كَاْنَ للعشَّاقِ يا فَيْرُوْزُ
حزنكِ في الأعاليْ!.
لو كانَ للعشَّاقِ يا فيروزُ
شبَّاكٌ على النسيانِ
ما مالوا على الأحزانِ
وانحازوا إلى رَجْعِ الخريفِ
ليتبعوا كالغنمِ غزلانَ الشمالِ! .
لو كانَ للعشّاقِ أن يتألمْوا
في الريحِ
راحتْ روحُهُمْ تجري على الأنهارِ
كالحَسَرَاتِ! ..
لكنَّ البياضَ نبيُّهمْ في اليتمِ،
والرمانَ سنبلةُ الخيالِ.
لو كانَ أنَّكِ دمعة
لتسابقوا كي يذرفوها
فوقَ هُدْبِ البيلسانِ..
ليزهرَ الرمانَ
في شباككِ العالي!،
فدليِّهمْ إلى الياقوتِ!
كي يتعمّدوا بعد الكسوفِ
بصوتكِ المذروف
فوقَ الأرض ثلجاً من حنانْ! .
وترفَّقي بنحيبهمْ فوقَ السفرجلِ!
إن صوتكِ لا يمدُّ صلاتَهُ
إلا لنحلِ الصبح..
هل نرعى مع النحلاتِ
دمعَ التوتِ
من أيقونةِ الآهاتِ!؟
كي نُصغي إليه بفطرةٍ أعلى،
ونسمعَ كالحساسينِ البريئةِ
رَجْعَةُ في الأرجوانْ.
لا بدَّ من نايٍ
لنعرفَ أننا للحزنِ والنسيان!
فابكينا طويلاً
خلفَ أشجارِ الجنوبِ!
ولوّحي بإزاركِ الصيفيّ
من أعلى الغروبِ
وأطلقي طيرَ الصنوبر خلفنا يبكي،
لنتركَ دمعنا للأقحوانْ! .
لا بدَّ من قمرٍ وأغنيةٍ
ليصبحَ عاشقانِ
سحابةً،
وتصيرَ روحَكِ أرجوانْ.
لا بد من قمر شآميَّ الغناءِ
ليعرفَ العشاقُ أنهمُ..
نوارسُ فوق مئذنةِ الشآم..
وساحلٌ للقمح يسكنهُ الحمامُ.. وأنّكِ
تحتَ السماءِ سماوةٌ أخرى،
وفوقَ الأرزِ في أعراسِ زرقتنا
سنونوةُ الكمانْ .
لَمْ نسمعِ الأنهارَ ترفعُ بيلسانَ
خريرها المجروحِ
قبل الآن،
والمزمارَ يبكي في السكينة
موجعاً سكرانَ..
لَمْ نسمعْ سوى نوحِ الشحاريرِ الحزينِ،
ونغمةٍ سوداءَ تلقيها السحابةُ
في القصبْ! .
لَمْ نسمعِ الأشجارَ تنشجْ في الخريفِ
ولَنْ نَعِيْ
أن الأيائلَ من حفيفٍ،
والغناءُ (توائمٌ) بيضاءُ
في أرواحنا ترعى
دُمَيْعاتِ العنبْ.
غَنِّي علينا واتركينا كالبلابل! ،
فوق سطح الليلِ
يشربُ عمرُنَا من مائكِ
فيطولُ
والأقمارُ تتبعُ حزنَكِ المتروكَ
في أقصى السهولِ..
وحينما يأتي المسيحُ إلى ضريحِ الخبزِ
نُصبح نائحينَ ذويْ ضراعهْ،
ونعدُّ فوقَ سلالم الذكرى
حمائمَ من ذهبْ.
غني إذن!
غني ليولدَ عاشقانِ
من الهديل ويكبرانْ..
لتشبّ من أضلاعنا التعبى
نسائِمُ سنديانْ..
وتصيرَ قريتنا مساقطُ للسحبْ.
أنتِ الحداءُ المرُّ
إن كبرتْ مراثينا على الأشجارِ
أنتِ الوردُ إن شَرَدَتْ أيادينا وراءَ سحابةٍ..
ومواسمُ التفّاحِ بعدَ القمحِ
أنتِ البليلُ الباكي على أيلولُ،
أجراسُ النواعيرِ التي
تَحْدُو على قمر الغيابْ.
أنتِ الأغاني الراحلهْ..
وربابةُ الأحزانِ قبلَ دخولها في اللحنِ
أو جسدُ الكآبةِ راحلاً
قبلَ انقشاعِ الغيمِ
عن سفرِ السحابْ
أنتِ كتابْ الحزنِ مطوياً
على أشعارنا الأولى
فدلِّينا على الأشعار!
كي نختارَ قافيةً
تلائم يأسنا في الأرضِ،
أغنية تلائمُ موتنا فنموتْ!! .
أنتِ السكينةُ فوق سفحِ الليلِ فاردة يديها للنجوم
وفوقَ زهرِ نعاسنا شالاتُهَا الزرقاءُ
هادلةً بأحلامِ السماءْ.
أنتِ الكآبةُ
فوقَ عرشِ الحزنِ! .
نائحةٌ على الطيّونِ
ناياتُ اغترابكِ في عراءِ الريحِ
غنّي كي نتوبَ!
بلا ذنوبٍ
للأناجيلِ التي ضاعتْ
ونرمي بالأصابعِ للسكاكينِِ
الجريحةِ
كلّما طابَ الغناءْ!!
ما أجملَ الكلماتِ
وهي تطيرُ خبزاً من يديكِ إلى الشتاءِ! ،
وما أحنّ خريفها في الروحِ!،
والقمرَ المعلقَ في الليالي!
***
اليوم رهبانُ الحدا
مرّوا على العالي!!
لم يكسروا جرساً على قلبي
ولا انتبهوا لموّالي!!
يا ليتهم قمحٌ
لأتبعهم إلى أقصى السهولِ!
وليتهم رَحَلُوا
ليخلعني قميصُ الوحشةِ البالي!! .
لو كانَ للعشاقِ يا فيروزُ
حزنكِ في الأعالي!
أغمضتُ أجفانيْ لأختارَ اليمامةَ،
وانتحبتُ على النخيلْ!
وطرقتُ بابَ الصيفِ كالحطّابِ
كي تجتثّنيْ من غُربتيْ صفصافةٌ
ووهبتُ أنثى اللوزِ أحزانيْ
لترضعني الهديلْ!!.
وبكيتْ في أيلولَ
يا أيلولُ يا أيلولُ!
إني راهبٌ للريحِ
جرّحني الصدى،
وحمامةُ الريحِ الحزينةُ في النواحِ
غناءُ من هذا الذي يبكي على الإيقاعِ
نورسُهٌ الجميلُ؟! ..
وكلّما ملْنَا مع الأجراسِ نحوَ النومِ
في حزنٍ يميلْ!
يبكي كما لو قلتَ أنْكَ راحلٌ
ومكثتَ تنتظرُ الرحيلْ!! .
غنّي إذن!
لنعودَ مجروحينَ بالنعناعِ
نحو بيوتنا البيضاءِ في أقصى النخيلْ.
كلماتنا في الحَبّ
تأكُلُها العصافيرُ البريئةَ
والنجومُ (أيائل) ترعى على أرواحنا
عشبُ الأصيلْ.
والقمحُ يا للقمحِ يا فيروزَ
لو أنّ السنابلَ لا تموت!
لكنتُ أسلمتُ الرياحَ ربابتيْ
ليَبُحَّ صوتُ جَرِيرِهَا ،
وتركتُ شريانيْ على القيثارْ!! .
وتبعتُ صوتَ الناي للهندِ البعيدةِ
كي أحطَّ على مآذنها العتيقة
وهي تتركُ للصلاةِ بياضها،
وتطيّرُ الأشعارْ.
وصرختُ باسمِ الصيفِ
من أعلى التلالِ
أيا حقولَ القمح دلّينيْ
على الأمطارِ دلينيْ!
لأتبعَ كالغُلامِ الغضِّ أحزانَ الغيومِ!
كأنني طفلُ المواويل الذي ضاعَ ..
انتهتْ أيّام حزنيّ بالصدى،
وبكانيَ المزمارْ!!.
والعاشقُ الولهانُ يا فيروزُ
كالمنصور(1) يقتل نَفْسُهُ
وتَصُوْتُ كالنّاياتِ رَاحَتُهُ
على قمرِ الأعالي،
كلَّما كبرُ الهلالُ على هضابِ الحزنِ
وانحدرَ الحمامُ كسورةٍ ثكلى
على الأيّامِ
والعشّاقُ يا فيروزُ
موّالونَ خلفَ النهرِ كلَ العمرِ
يتبعَهْم سحابُ النصفِ من أيّارَ
كالأشجارِ..
والأجراسُ تُقرَعُ من تَصَاديْهَا
على الأبراجِ
فيما يستحيل القمحُ ساقيةً من الريحانِ
والرمّانُ يهُدي القمحُ شَعْرَ حبيبهِ البريّ
لا ترمي إزاركِ عن تلالِ الصيفِ يا فيروزُ!
كي يجدَ المدى قدّيسةً
لتهزَّ مهدَ بكائهِ،
وتطيرَ فوق سمائه الثكلى
يماماتُ البيادرْ.
لا تخلعيهِ ليتبعَ العشاقُ!
مسْحَةَ حزنهِ للغيبِ
أو ليظلَّ حاديهمْ يخبُّ أمامهم..
يمشونَ مثل أيائلِ الأحزانِ في دربِ الغروبِ
كأنهم غيمُ الحياةِ
يرافقُ امرأةً
تكرّرُ حزنَهَا بين المقابرْ؟!.
لا تخلعي حُلَلَ الصلاةِ!
ففي ليالي الصيفِ يطلعُ وجهكِ المسحورَ
من قمر الغيابِ،
يضيءُ أجراسَ البساتينِ
التي صلّتْ
ويحْدُبُ كالسحابِ على الشآمْ.
يا شامُ عادَ الصيفُ
غابَ الصيفُ مكتئباً
ومن قلبي يخلْصهُ البكاء!
ويسجدُ الكروانُ
خلفَ مآذنِ الصفصافِ مسكوتَ الغناءِ
ويبكياهُ على ربى صدريْ
حمامٌ زاجلٌ وغروبُ!.
غابَ الصيفُ عن أسحارنا،
واستوحشَ الحسونُ
منسيْاً على ليمونةٍ صفراءَ
صيفٌ ناضج كالتينِ
يسقطُ في مياهِ الصبح كالقدّاح..
يمسحُ دمعه.. (نايٌ ونهرٌ عندليبُ).
ما أجملَ الزهراتِ تطفرُ كالحليب الطلِّ
من صدرٍ يطيبُ..!
فيروزُ يا فيروزُ!!
يعرفني غزالُ الصبحِ من حزني،
ويعرفكِ الغروبُ
* لمنصور: في لغة الصوفية شيخُ العطّارين