أحزان الأعالي

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

لَوْ كَاْنَ للعشَّاقِ يا فَيْرُوْزُ‏

حزنكِ في الأعاليْ!.‏

لو كانَ للعشَّاقِ يا فيروزُ‏

شبَّاكٌ على النسيانِ‏

ما مالوا على الأحزانِ‏

وانحازوا إلى رَجْعِ الخريفِ‏

ليتبعوا كالغنمِ غزلانَ الشمالِ! .‏

لو كانَ للعشّاقِ أن يتألمْوا‏

في الريحِ‏

راحتْ روحُهُمْ تجري على الأنهارِ‏

كالحَسَرَاتِ! ..‏

لكنَّ البياضَ نبيُّهمْ في اليتمِ،‏

والرمانَ سنبلةُ الخيالِ.‏

لو كانَ أنَّكِ دمعة‏

لتسابقوا كي يذرفوها‏

فوقَ هُدْبِ البيلسانِ..‏

ليزهرَ الرمانَ‏

في شباككِ العالي!،‏

فدليِّهمْ إلى الياقوتِ!‏

كي يتعمّدوا بعد الكسوفِ‏

بصوتكِ المذروف‏

فوقَ الأرض ثلجاً من حنانْ! .‏

وترفَّقي بنحيبهمْ فوقَ السفرجلِ!‏

إن صوتكِ لا يمدُّ صلاتَهُ‏

إلا لنحلِ الصبح..‏

هل نرعى مع النحلاتِ‏

دمعَ التوتِ‏

من أيقونةِ الآهاتِ!؟‏

كي نُصغي إليه بفطرةٍ أعلى،‏

ونسمعَ كالحساسينِ البريئةِ‏

رَجْعَةُ في الأرجوانْ.‏

لا بدَّ من نايٍ‏

لنعرفَ أننا للحزنِ والنسيان!‏

فابكينا طويلاً‏

خلفَ أشجارِ الجنوبِ!‏

ولوّحي بإزاركِ الصيفيّ‏

من أعلى الغروبِ‏

وأطلقي طيرَ الصنوبر خلفنا يبكي،‏

لنتركَ دمعنا للأقحوانْ! .‏

لا بدَّ من قمرٍ وأغنيةٍ‏

ليصبحَ عاشقانِ‏

سحابةً،‏

وتصيرَ روحَكِ أرجوانْ.‏

لا بد من قمر شآميَّ الغناءِ‏

ليعرفَ العشاقُ أنهمُ..‏

نوارسُ فوق مئذنةِ الشآم..‏

وساحلٌ للقمح يسكنهُ الحمامُ.. وأنّكِ‏

تحتَ السماءِ سماوةٌ أخرى،‏

وفوقَ الأرزِ في أعراسِ زرقتنا‏

سنونوةُ الكمانْ .‏

لَمْ نسمعِ الأنهارَ ترفعُ بيلسانَ‏

خريرها المجروحِ‏

قبل الآن،‏

والمزمارَ يبكي في السكينة‏

موجعاً سكرانَ..‏

لَمْ نسمعْ سوى نوحِ الشحاريرِ الحزينِ،‏

ونغمةٍ سوداءَ تلقيها السحابةُ‏

في القصبْ! .‏

لَمْ نسمعِ الأشجارَ تنشجْ في الخريفِ‏

ولَنْ نَعِيْ‏

أن الأيائلَ من حفيفٍ،‏

والغناءُ (توائمٌ) بيضاءُ‏

في أرواحنا ترعى‏

دُمَيْعاتِ العنبْ.‏

غَنِّي علينا واتركينا كالبلابل! ،‏

فوق سطح الليلِ‏

يشربُ عمرُنَا من مائكِ‏

فيطولُ‏

والأقمارُ تتبعُ حزنَكِ المتروكَ‏

في أقصى السهولِ..‏

وحينما يأتي المسيحُ إلى ضريحِ الخبزِ‏

نُصبح نائحينَ ذويْ ضراعهْ،‏

ونعدُّ فوقَ سلالم الذكرى‏

حمائمَ من ذهبْ.‏

غني إذن!‏

غني ليولدَ عاشقانِ‏

من الهديل ويكبرانْ..‏

لتشبّ من أضلاعنا التعبى‏

نسائِمُ سنديانْ..‏

وتصيرَ قريتنا مساقطُ للسحبْ.‏

أنتِ الحداءُ المرُّ‏

إن كبرتْ مراثينا على الأشجارِ‏

أنتِ الوردُ إن شَرَدَتْ أيادينا وراءَ سحابةٍ..‏

ومواسمُ التفّاحِ بعدَ القمحِ‏

أنتِ البليلُ الباكي على أيلولُ،‏

أجراسُ النواعيرِ التي‏

تَحْدُو على قمر الغيابْ.‏

أنتِ الأغاني الراحلهْ..‏

وربابةُ الأحزانِ قبلَ دخولها في اللحنِ‏

أو جسدُ الكآبةِ راحلاً‏

قبلَ انقشاعِ الغيمِ‏

عن سفرِ السحابْ‏

أنتِ كتابْ الحزنِ مطوياً‏

على أشعارنا الأولى‏

فدلِّينا على الأشعار!‏

كي نختارَ قافيةً‏

تلائم يأسنا في الأرضِ،‏

أغنية تلائمُ موتنا فنموتْ!! .‏

أنتِ السكينةُ فوق سفحِ الليلِ فاردة يديها للنجوم‏

وفوقَ زهرِ نعاسنا شالاتُهَا الزرقاءُ‏

هادلةً بأحلامِ السماءْ.‏

أنتِ الكآبةُ‏

فوقَ عرشِ الحزنِ! .‏

نائحةٌ على الطيّونِ‏

ناياتُ اغترابكِ في عراءِ الريحِ‏

غنّي كي نتوبَ!‏

بلا ذنوبٍ‏

للأناجيلِ التي ضاعتْ‏

ونرمي بالأصابعِ للسكاكينِِ‏

الجريحةِ‏

كلّما طابَ الغناءْ!!‏

ما أجملَ الكلماتِ‏

وهي تطيرُ خبزاً من يديكِ إلى الشتاءِ! ،‏

وما أحنّ خريفها في الروحِ!،‏

والقمرَ المعلقَ في الليالي!‏

***‏

اليوم رهبانُ الحدا‏

مرّوا على العالي!!‏

لم يكسروا جرساً على قلبي‏

ولا انتبهوا لموّالي!!‏

يا ليتهم قمحٌ‏

لأتبعهم إلى أقصى السهولِ!‏

وليتهم رَحَلُوا‏

ليخلعني قميصُ الوحشةِ البالي!! .‏

لو كانَ للعشاقِ يا فيروزُ‏

حزنكِ في الأعالي!‏

أغمضتُ أجفانيْ لأختارَ اليمامةَ،‏

وانتحبتُ على النخيلْ!‏

وطرقتُ بابَ الصيفِ كالحطّابِ‏

كي تجتثّنيْ من غُربتيْ صفصافةٌ‏

ووهبتُ أنثى اللوزِ أحزانيْ‏

لترضعني الهديلْ!!.‏

وبكيتْ في أيلولَ‏

يا أيلولُ يا أيلولُ!‏

إني راهبٌ للريحِ‏

جرّحني الصدى،‏

وحمامةُ الريحِ الحزينةُ في النواحِ‏

غناءُ من هذا الذي يبكي على الإيقاعِ‏

نورسُهٌ الجميلُ؟! ..‏

وكلّما ملْنَا مع الأجراسِ نحوَ النومِ‏

في حزنٍ يميلْ!‏

يبكي كما لو قلتَ أنْكَ راحلٌ‏

ومكثتَ تنتظرُ الرحيلْ!! .‏

غنّي إذن!‏

لنعودَ مجروحينَ بالنعناعِ‏

نحو بيوتنا البيضاءِ في أقصى النخيلْ.‏

كلماتنا في الحَبّ‏

تأكُلُها العصافيرُ البريئةَ‏

والنجومُ (أيائل) ترعى على أرواحنا‏

عشبُ الأصيلْ.‏

***‏

والقمحُ يا للقمحِ يا فيروزَ‏

لو أنّ السنابلَ لا تموت!‏

لكنتُ أسلمتُ الرياحَ ربابتيْ‏

ليَبُحَّ صوتُ جَرِيرِهَا ،‏

وتركتُ شريانيْ على القيثارْ!! .‏

وتبعتُ صوتَ الناي للهندِ البعيدةِ‏

كي أحطَّ على مآذنها العتيقة‏

وهي تتركُ للصلاةِ بياضها،‏

وتطيّرُ الأشعارْ.‏

وصرختُ باسمِ الصيفِ‏

من أعلى التلالِ‏

أيا حقولَ القمح دلّينيْ‏

على الأمطارِ دلينيْ!‏

لأتبعَ كالغُلامِ الغضِّ أحزانَ الغيومِ!‏

كأنني طفلُ المواويل الذي ضاعَ ..‏

انتهتْ أيّام حزنيّ بالصدى،‏

وبكانيَ المزمارْ!!.‏

***‏

والعاشقُ الولهانُ يا فيروزُ‏

كالمنصور(1) يقتل نَفْسُهُ‏

وتَصُوْتُ كالنّاياتِ رَاحَتُهُ‏

على قمرِ الأعالي،‏

كلَّما كبرُ الهلالُ على هضابِ الحزنِ‏

وانحدرَ الحمامُ كسورةٍ ثكلى‏

على الأيّامِ‏

والعشّاقُ يا فيروزُ‏

موّالونَ خلفَ النهرِ كلَ العمرِ‏

يتبعَهْم سحابُ النصفِ من أيّارَ‏

كالأشجارِ..‏

والأجراسُ تُقرَعُ من تَصَاديْهَا‏

على الأبراجِ‏

فيما يستحيل القمحُ ساقيةً من الريحانِ‏

والرمّانُ يهُدي القمحُ شَعْرَ حبيبهِ البريّ‏

لا ترمي إزاركِ عن تلالِ الصيفِ يا فيروزُ!‏

كي يجدَ المدى قدّيسةً‏

لتهزَّ مهدَ بكائهِ،‏

وتطيرَ فوق سمائه الثكلى‏

يماماتُ البيادرْ.‏

لا تخلعيهِ ليتبعَ العشاقُ!‏

مسْحَةَ حزنهِ للغيبِ‏

أو ليظلَّ حاديهمْ يخبُّ أمامهم..‏

يمشونَ مثل أيائلِ الأحزانِ في دربِ الغروبِ‏

كأنهم غيمُ الحياةِ‏

يرافقُ امرأةً‏

تكرّرُ حزنَهَا بين المقابرْ؟!.‏

لا تخلعي حُلَلَ الصلاةِ!‏

ففي ليالي الصيفِ يطلعُ وجهكِ المسحورَ‏

من قمر الغيابِ،‏

يضيءُ أجراسَ البساتينِ‏

التي صلّتْ‏

ويحْدُبُ كالسحابِ على الشآمْ.‏

يا شامُ عادَ الصيفُ‏

غابَ الصيفُ مكتئباً‏

ومن قلبي يخلْصهُ البكاء!‏

ويسجدُ الكروانُ‏

خلفَ مآذنِ الصفصافِ مسكوتَ الغناءِ‏

ويبكياهُ على ربى صدريْ‏

حمامٌ زاجلٌ وغروبُ!.‏

يا شامُ عادَ الصيفُ‏

غابَ الصيفُ عن أسحارنا،‏

واستوحشَ الحسونُ‏

منسيْاً على ليمونةٍ صفراءَ‏

صيفٌ ناضج كالتينِ‏

يسقطُ في مياهِ الصبح كالقدّاح..‏

يمسحُ دمعه.. (نايٌ ونهرٌ عندليبُ).‏

ما أجملَ الزهراتِ تطفرُ كالحليب الطلِّ‏

من صدرٍ يطيبُ..!‏

فيروزُ يا فيروزُ!!‏

يعرفني غزالُ الصبحِ من حزني،‏

ويعرفكِ الغروبُ‏

* لمنصور: في لغة الصوفية شيخُ العطّارين