*إلى الشاعر الراحل
محمد عمران .*
*
يَا لَيْلُ!
يا بَدْرَ النبوَّةِ في أعَاليْ الصيفِ!
يا مزمارَ راعيةِ النجومِ على صخور الليلِ!
يا حبْرَ الكتابةِ فوقَ أهدابِ القصيدِ!.
يا أوّلَ الأسرارِ
تهبط مِنْ فؤادِ الفجرِ فوقَ سكينتيْ!،
يا أوّلَ الصلواتِ
ترفعَهَا حساسينْ الفراتِ البيضُ! .
يا أيقونةً زَرْقاءَ
أخْفَتْ بلبلاً في وَحْيها
فاستيقظَ الفلاّحُ في الرّيفِ البعيدِ!...
أومَأْتُ للمزمارِ خُذْني!
مثلَ جنحِ الطيرِ للملاجةِ الخضراءِ،
وازرعْ في طريقِ سحابها الحاديْ نشيديْ! .
واتلَ صلاةَ سفوحِهَا في الصبحِ،
واتركني على الريحانِ مجروحاً! ،
ليسقي صدريَ الظمآنَ
عصفورُ البساتينِ الشريدِ
أومأتُ للنايِ اتبعيني
نحوَ زيتونِ الحمامِ، وتينهِ العالي
لتجرحني الربابة في وريديْ!
ووددتُ لو قلبيْ يماماً
كي أحلّق باتجاه البحرِ
كانَ البحرُ مفتوحاً على أيقونةٍ بيضاءَ
يجلسُ تحتها رَجُلُ الأغاني
صاحَ بيْ:
دَعْ طفلَ حزنكَ عندَ بابِ البحرِ!،
وافردْ راحتيكَ
فتولَدُ امرأةُ البعيدِ.
لكنّني يا سيّدي -سُقياً لسالفِ حزنكَ الأبديّ -
أرحلُ عن بحارِ العمرِ كالسكران
-دَعْ عصفورَ حزنكَ عندَ بابِ البحرِ! ..
كي تعلو بقلبكَ للغناءِ
رَسَوْلَةُ الوديانِ،
واذهبْ في طريقِ النبعِ!،
ترفعُ قلبكَ الظمآنَ
أجنحة الهديلِ،
ويمزجُ الصفصافُ روحكَ بالهبوب .
لكنّني يا سيّدي
طفلُ اليمامَاتِ اليتيمةِ في الظماءِ،
فَقيرِ صلاتِكَ البيضاءِ
فوقَ السفحِ
شرّدني النواحُ على قميصِ الصيفِ كالمِزْمَارِ
والأشعارُ
حَطّتني جريحاً كالعتابَا
فوق أوتارِ الغروبِ.
- خُذْ روحكَ البيضاءَ
-واذهَبْ في طريقِ القمحِ!
يتبعُ طيرُها أجراسَ حزنكَ للجنوبِ.
وادخلْ على ملاّجةِ الأسرارِ عُطلاً باكياً!
واقرأْ على زيتونها العالي السلامْ! .
-يا أمُّ قَدْ كَبُرَتْ رباباتيْ على الأحزانِ!
رديني صغيراً
كي أدبَّ على دروبكِ حافياً
فبدونِ قمحٍ لا أنامْ!
أنا طائرُ الينبوعِ تولدُ من حفيفٍ زرقتيْ،
وأنا المسمَّرُ بالطفولةِ فوقَ أبراجِ الحمامْ! .
أنا طائرُ الينبوعِ
طارتْ كلّ أجراسيْ
على أدراجِ موسيقى الغناءِ الغضّ
شلالاً من الماءِ
الأغاني كلّها ارتفعتْ على أقواسِ لوزِ الحزنِ
وارتفعَ البكاءُ على النواعيرِ!!
احمليني مثل كَسْرَاتِ الجرارِ
إلى فؤادكِ!
واتركيني فوقَ صدركِ كي أنامْ!.
لكنّ كهلَ الريحِ لم ينْصتْ إلى روحيْ،
ولمْ يذرفْ على حزنيْ الغمامْ! .
فَنَشَرْتُ شَاْلَ اللّيلِ
فوقَ ضريحِ أحزانِ المغيبِ
وقلتُ يا ملاجةُ
انكَسَرَتْ نواعيرُ الجنوبِ
فجئتُ أسأْلُ عن نواعيرِ الشمالْ!!
وقرأتْ حزنكِ بين طياتِ الغيومِ العاليهْ..
فَسَمِعْتُ صَوْتَ الشاعِرِ المتروكّ
يَشْردُ في الأعالي!..
يا سيدي
يا سيدي رفقاً!
أنا وترٌ جَريحُ العودِ
يبكي خلفَ أسوارِ الليالي!!
قَدّتْ فؤاديَ من بكاءِ الريحِ
راهبةَ الخريفِ!،
ويَمَّمُوْني شَطْرَ أحزانِ الجنوبِ السودِ
رهبانُ الضلالِ!!.
يا سيّدي!
يا سيّدي العالي!!
لّو كانَ جرحي وردة
لزرعتها إثماً على دربِ الهديلْ!! .
وتبعتُ أنثى الصيفِ كالزيتونِ
أعصرُ دمعتيْ زيتاً على أقدامها،
ورفعتُ فوقَ القمحِ أرملةَ النخيلْ!!
لكنَّ حزني مثل ثوبِ الريحِ
يَرْعى رَجْعَ أجراسِ الحدا
في وحشةِ الأبراجِ،
مثلَ قميصِ أيلولَ الجريحِ
وراءَ قلبِ النبع
مثلَ الغيمِ
متروكٌ على شَجَر الأصيلْ!! .
أومأتَ للنّاي اتبعيني بالأنينْ! .
لكنها ملاّجةَ الأسرارِ يا عمرانُ
نتركُ عُمْرَنَا يمشي إليها
ثمّ نرجع تائبينْ!! .
روحيْ سأتركَ حزنها طيراً على أشجارها
وأعيدها أنثى لتعشقها الحساسينُ الصغيرةُ
كلما ارتَفَعَ الخريفُ
إلى سكينةِ قلبها الشفّاف
وارتفعَ الكمانُ على نواح العاشقينْ!!!.
وأقولُ للمزمارِ خُذْني!
نحوَ سفحِ الليلَ
كي أرخي بكائي فوق بستان الصلاةِ
وردّني قمراً حزينْ!!.
لأضيءَ سَجْدَتَهَا الطويلةَ
وهي تركعَ فوقَ صدرِ البحرِ
نادبةُ كراهبةِ الحداءِ المرّ
صَلْصَالَ السنينْ!!!.
هيَ آخر امرأةٍ زرعنا دربَهَا بالقمحِ
كي نمشي على رجعِ الغروبِ
وحينما عُدْنَا
وَجَدْنَا القمحَ ينبتُ مِنْ حجارةِ
حزنِهَا السوداءِ
زيتوناً وتينْ!!!.
وهي الخريفُ مسوَّراً بالذكرياتِ،
وزهرةَ الدفلى التي نشتمّ قبلَ الموتِ!
يا أحلى الإوزاتِ التي طارتْ
لتصرخَ كالأراملِ في الردى
وا مَاْلِكَ البحرِ الحزينْ!!!
هل كانَ حقٌّ أن تموتَ؟!!
وما تزال ضفائري الخضراءَ
راخيةً سنابلها
على صَوْتِ الخريرِ،
وما يزال محدّقاً في الصيف عصفورُ الدوالي،
والقرى مكسورة فوقَ السريرِ
تهزّ في رفقٍ
صغارَ غنائكَ الباكينْ!!! .
كلّ الذينَ نُحِبَهمْ رَحَلَوا!!
كأنْ لا مهدَ إلا الموتُ
نتركُ روحَنَا لتنامَ
في ملكوتهِ الهادي كتمثالِ السكينةِ
كلما كَبُرَ الغناءُ على الغناءِ
وصارَ طيرُ النبعِ دمعةَ ياسمينْ! .
كلَّ الذينَ نُحبهُمْ. ..
إلا صدى كلماتهمْ في البالِ
يا صلصالُ
عذّبنا!!
وشكّلنا كما تهواكَ عذراءُ الطفولةِ
إننا قومٌ نُرَبّي البيلسانَ
على ضريح غيابنا حزناً،
ونعشقْ في خريفِ العمر وجهَ الغائبينْ!!!!.