إلى غوغان
*
عم مساءً أيها الفردُ الصموتْ!
* * *
سأمٌ يملأُ قاعَ الروحِ بالوحشةِ
والأُفْقُ غرابٌ ناعبٌ يخفقُ
في العزلةِ
والليلُ حزينُ الملكوتْ!
أيَّ حزنٍ رعرعتهُ الريحُ
في عُهدةِ أشجاري،
ليغدو الحورُ في الأرضِ غريبيْ..
وخريفي لا يموتْ؟
لكأني مطرٌ يبكي على جذعِ الحواكيرِ
صدى أيلولهِ المرِّ..
وتعوي عند مشتاهُ الذئابُ.
لكأني جدولٌ ينحتُ في الصخرِ
مراياهُ؛
ليصغي لخرير الماءِ في أوردةِ
الموجِ
فيعروهُ اضطرابُ.
لكأني قمرٌ يغتالهُ
ليلٌ غرابُ.
وحداءٌ رجَّعَ الأعرابُ
عند الليلِ
مبكاهُ الإلهيَّ الحزينْ.
ليردّوا هاجسَ الموتِ اللعينْ.
كلما أغمضتُ جفنيْ سمعَ اللحنُ
حفيفاً
ولَهَتْ عن حزنهِ الأجراسُ،
وارتدَّ الربابُ.
عم مساءً أيها الضيفُ الغريب!
تعبَ الليلُ وأشجاكَ النحيبْ.
فوراء الأفقِ غيمٌ ضارعٌ
يسقطُ كالظلِّ على ليلِ المنافي،
ومناديلُ سوادٍ "تلطمُ الروحَ"..
وأسرابٌ من الغربانِ
تجثو فوق أخشابِ الصليبْ.
ووراء الأفقِ يُصْدِي
رَجْعُ إنجيل المغيبْ!
سأمٌ يملأُ قاعَ الروحِ
بالوحشةِ
والليلُ أناجيلُ مراثٍ،
ومواعيدُ قضتْ...
لا خمرَ كي تصحو دمائي من سباتيْ،
لا حساسينَ ليغري صوتُهَا
خلفَ الصباحاتِ صلاتيْ.
لكأني كالمرايا
هائمٌ في بحرِ ذاتي.
أستعيدُ الدمعَ من ثدي المناحاتِ،
وعن تنهيدةِ الريحِ أردُّ الروحَ...
لاشيءَ سوى ثعلبةِ الحزنِ،
ولونِ الندمِ الأسودِ
واليأسِ، وأصداءِ الرثاءْ!
فارقتْ أحبابها الأرضُ وغابتْ
من سيبكي في المغيب النايُ،
أم ركبُ الشقاءْ؟
... وأرى الناياتِ تبكي
في الصدى:
"مافي حدا"
لا ترجموا بالحزنِ قلبي!
إنهُ خِلُّ البكاءْ.
عم مساءً أيها الكهلُ الحزينْ..
ضارباً في وحشةِ البحرانِ
وحدكْ!
فارفعِ المرساةَ واضربْ بعصاكَ
الأرض،
واحفرْ في سوادِ الليلِ لحدكْ!
عبرَ شقِّ البابِ يبكي قمرُ الحزنِ،
وتنسابُ سنينْ.
وهناكَ امرأةٌ تجهشُ خلف السورِ
كالنايِ،
وقلب نائحٌ فوق ضريحِ الغائبين.
عم مساءً أيها الكهلُ الحزينْ!
وتراءى الغيمُ ليْ
لذعةَ حزنٍ أبديٍّ
فبكاني القمحُ والحورُ
وأفضيتُ لكأسيْ بعتابي.
قمرُ الليلِ حزينٌ لغيابي.
والمواويلُ التي غنّيتها يوماً
بكتني، ورَثَتْني..
فأنا في الأرضِ أيلولُ المساكينِ،
اصفرارُ العشبِ،
واليأسُ غُرابي.
عمْ مساءً أيها الكهلُ الكَهُوْلْ!
فاتحٌ كفّيكَ للريحِ
تنادي الشجرَ الهائلَ والشجوَ
وأشجانَ القفولْ!
فهناكَ امرأةٌ
ترقصُ كالعذراءِ فوقَ الصخرِ،
طيرٌ هائمٌ فوقَ الفيافي،
وأناشيدُ حدادٍ
وطبولْ.
ومواويلُ مقفَّاةٌ لحرَّاسِ الليالي،
ونحيبٌ هائلُ الحزنِ
تُصاديهِ الطلولْ!
عم مساءً
يا غريباً جالساً
يقرأُ توراةَ الأفولْ!