قمرٌ جارح فوقَ سفحِ الغيومِ
يشقُّ قميصاً من الدمعِ
ثم يدثرني من شقائيْ
فأهتفُ: يا شارحَ الليل بالحزنِ
سقَّطَ لوزي وتينيْ،
وهرّ خريفُ بكائي!
أنا المتأبّد في الحزنِ
من دون جدوى
أحدّقُ في الأفقِ الطلقِ
مثلَ الغرابِ العجوز،
وأجتثّ من جذوةِ الريحِ
رَجْعَ حدائي!
يباكي أعالي المواويل صوتيْ الجريحُ،
ويرتدُّ نحوي صداي
أنا المتعثرُ بالدمعِ والقرويّ الحزينُ
بكتني أطلاليَ الموحشاتُ
وشيّعني للغروبِ رثائيْ
ثلاثينَ عاماً يكرّرُني الانتظارُ
على صخرهِ المرِّ،
والحزنُ يدفعني لاجتيازِ المتاهاتِ
ما من فتاةٍ تذكرني بالأمومةِ
أو أغنياتٍ تهزُّ سريري القديمَ
كأنيَ من أوّل العمرِ
ما زلتُ أعدو ورائيْ!!
أراكضُ في الريحِ حقلاً من القمحِ
خلفَ الغيومِ
وأصرخُ أماهُ!!
هذي العصافيرُ تشبهني بالزغاريدِ،
هلْ تهرمُ الطيرُ عندَ الخريفِ؟
لماذا إذنْ تتبعُ الشمسَ نحو المغيبِ
وتسقطُ في آخرِ الدكنةِ الداجيه؟
لماذا أجاهرُ في الروحِ هذا الغناءَ؟
وأصدو كناي النحيبِ
على سنةٍ آفلهْ!
لماذا تعودُ السنونو
إلى عشّها في المساءِ؟
وأرحلُ مثل الذئابِ
إلى وحشةِ الباديهْ!
سأحرقُ نفسيَ بالنارِ
ثم أجمّعُ هشّ الرمادِ
لأدفنهُ في تميمةِ صدركِ
أمّاهُ،
كي تبرأَ الروحُ من حزنها المريميّ،
ويضحلَ ماءُ العذابِ بمجرى الوريدِ
كأنْ يصبحَ العمرُ بيتاً من الطينِ..
جدٌّ حنونٌ، شتاءٌ،
طشاشينُ تهشلُ بين التكايا،
ومدفأةٌ صاديهْ
فتسمعُ شجوَ المواويلِ في شجرِ الليلِ
يُصدي أحنّ من الغفَيانِ
وتسمعُ قلبَ الربابِ الحزينِ
يعمّرُ كوخاً
ببيتِ عتابا
فتسألُ نفسكَ عن نفسها،
وتشدُّ عليكَ اللحافَ من البردِ
ما أدفأ البردَ!
ماأعذب المطرَ المتهالك بين المزاريب!
والشمس وهي تقشع غيم الكآبهْ!
لتَشْتُ إذن كل تلك الغيوم
ولتلسعِ الريح بالهذيان جبيني!
لِيتبعني أينما رحتُ طيرُ الحواكيرِ،
والسنبلُ الجبليُّ
لعلّي أرمّمُ ما حُتَّ من أمليْ
ويقيني
لتتبعني شدّةُ القمحِ صفراءَ،
زغرودةُ العرسِ بيضاءَ
كيما أعزّزَ من ندميْ،
وأرقّعَ بالقشّ ثوبَ سنينيْ
كأنْ كلّ ما مرَّ منّيْ على الأرضِ
محضُ غناءٍ على أملٍ ضاعَ!
والركضُ في الصيفِ خلفَ السحبْ
ولكنني الآنَ أشعرُ
ظفرَ الكهولةِ يحفرُ في الروحِ
أنفاقَهُ المظلماتِ،
وثعلبةَ الأربعينِ
تشقُّ أخاديدها عبرَ وجهي الحزين،
ويشتدّ حزنُ المهبْ
وحزنٍ تعودّتُ علقمَهُ الفجَّ
حتى وجدتُ عزائيَ في الحبّ
منحدراً من أعالي غنائي
إلى هوّة اليأسِ
أستدرجُ الروحَ نحو صداها البعيد،
وأُسقطها كالصراخِ
إلى قاعها المنتحبْ
بلا أيّ إثمٍ
أُسائلُ نفسيْ عن الريحِ:
أينَ ثياب الطفولة كيما أشمّ رياحينها،
والطيورُ التي رعرعتْ روحيَ المستهامَ
على رَجْعِ تغريدها
في هواءِ العنبْ؟
وأينَ مناديل أميْ لأربطها على شجرِ الكينياءِ؟
وأغفو بكاملِ روحيَ
تحتَ حفيف غصونِ القصبْ
كأنْ غابتِ الشمسُ إلا قليلا..
ولم يبقَ غيرُ خريفٍ
يلاطمُ أغصانَهُ بالعراءِ
ليرمي بها في ضريحِ الحطبْ
أنا الطفلُ
أوّل يومٍ رأيتُ نبيّاً
فشيخاً، فكهلاً
وراحت تدورُ بيَ الأرضُ
بينَ القبورِ
إلى أن رأيتُ وجودي قريباً
من الموتِ،
أطلقتُ تنهيدةَ الاحتضارِ الأخيرةَ
ثمّ انسللتُ إلى حجره
وأهلتُ عليّ ترابَ الحياةِ الأحبّْ