أولى الإسلام الشباب مكانة رفيعة ورعاهم رعاية خاصة انطلاقا من رؤيته للجيل الشاب أنه الجيل الفاعل والمؤسس الذي يملك طاقة البناء وقوة الفعل والتغيير، وقد كان رسول الله (ص) ينظر بأبوة خالصة للشباب ويقربهم إليه ويسددهم بالمواعظ والتوجيهات، ويكلفهم بالمهام الجسيمة التي تشعرهم بالمسؤولية، وقد أوصى الرسول الكريم بالشباب خيرا ودعا الأمة إلى صيانة هذه الطاقة الخلاقة واستثمارها:" أوصيكم بالشباب خيرا فإنهم أرقّ أفئدة، إن الله بعثني بالحق بشيرا ونذيرا فحالفني الشباب وخالفني الشيوخ." وعن حفيد الرسول الإمام الصادق (ع) قوله لأحد أصحابه: "عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلى كل خير."
وقد جاءت مواقف النبي (ص) وسيرته العملية لتجسد رؤية الإسلام لهذه الثروة الثمينة، فنقرأ في سيرته الشريفة أنه اختار في بداية الدعوة شابا فتيا يدعى مصعب بن عمير ليكون مبلغا وداعيا للإسلام وممهدا لهجرة النبي وأصحابه إلى يثرب التي أريد لها أن تكون مهدا لدولة الإسلام الكبرى، وما كان اختيار الرسول لمصعب إلا لثقته بأهليته وقدرته على القيام بهذه المهمة الخطيرة، وفي نفس الوقت تحفيزا للشباب واعترافا بوجودهم وإيمانا بمقدراتهم.
وفي خطوة لافتة في نفس الإتجاه نجد الرسول (ص) وقد مكنه الله تعالى من فتح مكة ونشر لواء التوحيد في ربوعها بعد رحلة عناء طويلة وصراع مرير مع قوى الشرك والضلال، نراه عندما أراد الرجوع إلى المدينة بعد رحلة الفتح يستخلف على مكة شابا في العشرين من عمره يدعى عتاب بن أسيد قائلا له: " يا عتاب أتدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله عز وجل، ولو أعلم لهم خيرا منك استعملته عليهم". وقد احتج بعض المسلمين على الرسول لتنصيبه هذا الشاب، فكان جوابه (ص): لا يحتج محتج منكم في مخالفته بصغر سنه، فليس الأكبر هو الأفضل بل الأفضل هو الأكبر ".
وفي شاهد ثالث يبين لنا اهتمام الإسلام بجيل الشباب وتعويله عليه، ففي أواخر العمر قرر رسول الله (ص) تعبئة المسلمين لمواجهة الروم حيث كانوا يشكلون عقبة أمام تقدم المسلمين وكانوا يشكلون قوة عظمى آنذاك، فأمر جميع أمراء جيش الإسلام من المهاجرين والأنصار وكبار العرب ورجالهم ووجهائهم لأن ينظموا إلى هذا الجيش وتحت راية الإسلام الموحدة، وقد طلب (ص) أسامة بن زيد بن حارثة ليعطيه راية هذا الجيش وقيادته، وقد كان أسامة آنذاك في الثامنة عشرة من عمره، ومن المؤكد أن النبي قد رأى في أسامة من الكفاءة والشجاعة وأهلية القيادة ما دفعه لتأهيله لهذا الدور العظيم. إلا أن البعض ممن كان يرى في نفسه الكفاءة والأهلية إما لكبر لسنه أو لصحبته للنبي (ص) طعن بهذا القرار وتعجب وانزعج وعبر عن قلقه واعتراضه، وتساءل عن سبب تنصيب هذا الشاب رغم وجود قادة عسكريين ذوي خبرة وتجربة طويلة، وقد انزعج رسول الله (ص) مما سمعه من طعن هؤلاء، وارتقى المنبر وبعد حمد الله وثنائه قال: " أيها الناس فما مقالة بلغني عن بعضكم في تأمير أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه قبله، وأيم الله أن كان للإمارة خليقا وان ابنه من بعده لخليق للإمارة وان كان لمن أحب الناس إلي فاستوصوا به خيرا فانه من خياركم ".
نعم فهؤلاء الشباب القادة كانوا طلابا في مدرسة رسول الله (ص) وقد تربوا على تعاليمه وأخلاقه ووصاياه وقد خالط الإيمان عقولهم وقلوبهم وأبدانهم، فكانوا أهلا لكل جهاد وإيثار وتضحية ومسؤولية، وقد كان النبي (ص) يحفزهم ويثني عليهم، و كان لثنائه على الشباب دور مهم ومؤثر في كسب المزيد منهم، والتفافهم حول الإسلام، فقد روي عن النبي(ص) قوله: " ما من شاب يدع لله الدنيا ولهوها، وأهرم شبابه في طاعة الله، إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صديقاً ". وعنه(ص) أيضاً أنه قال: " إن أحب الخلائق إلى الله عز وجل شاب حدث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول: هذا عبدي حقاً ". وقال (ص) أيضاً: " فضل الشاب العابد الذي تعبّد في صباه على الشيخ الذي تعبّد بعدما كبرت سنه كفضل المرسلين على سائر الناس ".
والى سيماهم وصفاتهم يرشدنا حديث الإمام الصادق (ع):" إن رسول الله (ص) صلى بالناس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرا لونه، وقد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه، فقال له الرسول (ص): كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول الله موقنا، فعجب رسول الله (ص) من قوله وقال له: إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال: أنا يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني انظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون، وعلى الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون وكأنني الآن أسمع زفير النار يدور في مسمعي، فقال رسول الله (ص) لأصحابه: هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان."
وهكذا على مرّ التاريخ الإسلامي الطويل كان للشباب الدور الرائد والفاعل في صناعة الأمجاد والبطولات والمآثر، وكان لهم شرف المشاركة في محطات خالدة ومشرقة وجهت مسار البشرية في الاتجاه الصحيح. واحدة من هذه المحطات العظيمة كانت كربلاء التي لا تغفل فيها مواقف الشباب إلى جانب الشيوخ، وقد رسموا بدمائهم الزكية أجمل لوحات الفداء والإيثار والحب في الله والرسول والأئمة (ع). واحد من هؤلاء الشباب علي الأكبر بن الإمام الحسين (ع) شاب يافع وفي أول ريعان الشباب وانفتاحه على الدنيا، ممتلئ بالحيوية والنشاط، ويمتلك القدرة الكافية للانخراط في الحياة الدنيوية بكل تفاصيلها، لكن من موقع كونه مؤمناً بالله سبحانه وتعالى، وملتزماً بأحكام الشريعة التي ملأت قلبه وعقله، فجعلته شاباً سوياً مستقيماً في سيرته وسلوكه، و قد تربى في حجر الإمام الحسين (ع) سبط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنهل من علوم آل محمد ما كان عوناً له على معرفة الصراط المستقيم في هذه الدنيا، فلم يعش الشباب لذةً ولهثاً وراء الشهوات والمغريات، وإنما عاشه التزاماً ووعياً وانفتاحاً على الله وعلى الحياة فصار بذلك قدوةً ونموذجاً للشباب المسلم المؤمن الرسالي الذي يعتبر أن الحياة هبةً ونعمة إلهية على الإنسان أن يتعامل معها من موقع المسؤولية والأمانة التي ائتمنه الله عليها، ولهذا لم يكن شبابه ولم تكن فتوّته وعنفوانه مانعاً عنده من الالتحاق بركب أبيه الإمام الحسين (ع) في طريقه لإصلاح الأمة الإسلامية وإنقاذها من الأخطار الكبيرة المحدّقة بها نتيجة الحكم الظالم الجائر المتسلط الذي كان بنو أمية يتسلّطون به على الأمة المقهورة المظلومة، وقد سار في ركب الجهاد لا بسبب أنه ابن الحسين(ع) وإنما بصفته ثائراً يريد أن يجاهد في سبيل الله من أجل تحرير أمثاله من الشباب الذين لم يدركوا أبعاد المؤامرة الأموية ضد الإسلام كدين وضد المسلمين كأمة.
بتلك الروحية الإيمانية الصلبة، وبذاك الوعي الرسالي المنفتح، وبالعزم المحمدي العلوي الحسيني انطلق إلى أرض المعركة مجندلاً الأبطال وقاهراً الفرسان، لم ترعبه كثرتهم ولم يخف من قوة سيوفهم، وظل يقاتل إلى أن سقط شهيداً في الميدان ففاضت روحه الشريفة شهيداً في سبيل دين الله وعظمة الإسلام، فصار خالداً بخلود كربلاء والحسين (ع) وكُتِبَ اسمه في ديوان الخالدين كرمز من الرموز الإلهية الكبيرة التي كلما مرَّ الزمان عليها كلما زادها تألُّقاً ووهجاً نورانياً يهتدي به السائرون في خط الجهاد، لأنه صار من موقع فتوته وعنفوان شبابه الحجة البالغة لله سبحانه وتعالى على كل الشباب من أمثاله الذين لا يرقون إلى مقامه العالي حسباً ونسباً وعلماً ووعياً وإدراكاً ويقيناً.
وبذلك اقترن اسمه بتلك المعركة الخالدة، فصار يذكر كلما ذُكِرَ الحسين (ع)، وليس بعد هذا الشرف شرف، ولا بعد تلك الكرامة كرامة.
بهذه الروح الكبيرة مضى علي الأكبر (ع) وسائر الشهداء من الشباب الذين عاشوا شبابهم قيمة ورسالة ترتقي بهم إلى مستوى العلاء والعظمة.
من خلال ما تقدم تتضح الرؤية الإسلامية للشباب، فالإسلام كرّم الشباب وقدمهم وأراد لهم أن يستثمروا طاقاتهم في كل ما ينفع، وأن يستغلوا هذه الفترة من أعمارهم في البناء والعطاء لأنفسهم ولأمتهم، وقد أكد الإسلام العظيم على ضرورة حماية هذه الطاقة، وصيانتها من الانحراف والسقوط في مهاوي الرذيلة والفساد، ودعا الأمم والشعوب إلى تسليح الشباب بالوعي والقيم التي تمكنه من مواجهة الأخطار المحدقة به من كل جانب، ولعل ما نلاحظه اليوم من هجمة إفسادية مركزة على جيل الشباب خير شاهد ودليل، وما كل هذه الدعاية والإعلام والإستثمار السيئ لوسائل التكنولوجيا والاتصال إلا أدوات في أيدي أعداء الإسلام الذين يريدون إفراغ الأمة من محتواها، وتجريدها من سلاحها، وتدمير أكبر عوامل القوة لديها وهم شبابها.
علينا أن نتنبّه جميعا إلى ثقل المسؤولية الملقاة على عواتقنا جميعا آباء، ومربين، ومسؤولين، وحكاما وأنظمة، وهي حفظ الشباب وتامين كل مستلزمات وشروط القوة والفعل له، ليكون شبابا ناجحا منتجا واعيا متخلّقا بالقيم والفضائل المثلى، وهذه المسؤولية تفوق أي مسؤولية أخرى، لأن صناعة الحجر والمادة على أهميتها لا تفوق صناعة الإنسان الذي كرمه الله تعالى وفضله على الخلق أجمعين..