ترى المدرسة السلوكية في علم النفس ان الإنسان يأتي إلى الدنيا مثل الصفحة البيضاء، تتحكم به غرائزه الفطرية التي فطرها الله فيه، وهي التي تدفعه إلى قضاء حوائجه من تناول الغذاء والنوم والعمليات الإخراجية، يشعر بالسعادة والارتياح عند تحقيق حاجاته، فيعكس هذا الارتياح بابتسامة فطرية مثلا، أو يشعر بالضيق والألم عند عدم تحقيق هذه الحاجات، فيعكس هذا الضيق بالبكاء أو تقطيب الوجه. وهكذا تبدأ البيئة تدون ما تعتقده أو تؤمن به في هذه الصفحة البيضاء وبمرور الزمن يصبح هذا الإنسان نسخة من البيئة التي عاش فيها، وبالتالي فان الناس يختلفون في المعايير القيمية التي تربوا ونشئوا عليها، فتختلف معايير الأحكام طبقا لهذا الاختلاف والتباين، فما هو مرغوب أو مقبول لدى إنسان قد يكون غير مرغوب أو مقبول لدى إنسان آخر تختلف معاييره القيمية التي تربى عليها. ومن هذا المنطلق، فإن هذا الاختلاف في الدين أو القومية أو اللغة أو العادات أو التقاليد أو المعايير الاجتماعية بين الأمم والشعوب لا يعني وجود حالة سلبية أو مرفوضة، بل إنها حالة ايجابية، يسعى الإنسان من خلالها لمعرفة أخيه الإنسان الذي تربى ونشأ في بيئة مختلفة وقيم مختلفة، وبهذا تتكامل عناصر المعرفة والاكتشاف والابتكار بنوعيها الأدبي والعلمي في الفطرة البشرية التي فطرها الله سبحانه وتعالى في الإنسان ووفر إمكانياتها فيه من أجل الاكتشاف والابتكار والتطور والسعى لتوفير كل ما يجعل حياة الخليفه الذي اختاره الله في خلقه العظيم ليأخذ مكانته وموقعه الذي ارتضاه وحباه الخالق العظيم له على هذه الأرض. فمجموع الخبرات الإنسانية التي أفاده منها الإنسان في جميع العصور والمراحل التاريخية هي نتيجة هذا الاختلاف فيما بين الأمم. وخير ما يتمثل في هذا قوله تعالى في محكم آياته البينات ((يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)).
فالإنسان ابن بيئته كما يقول علماء التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع، فلا ضير من الاختلاف والتباين في التربية، بل الفائدة كل الفائدة فيما تضيفه التربية والتنشئة المختلفة للحضارة الإنسانية، طالما أنها تسعى في غايتها السامية لخدمة الإنسانية على الرغم من الاختلافات الموجودة فيها.
إن الطفل الإنساني يكاد أن يكون مخلوقا اتكاليا على والديه بمدة ليست بالقليلة بعد الولادة، إذ نلاحظ صغار بعض الحيوانات تبدأ الاعتماد على نفسها في وقت مبكر جدا قياسا بالطفل الإنساني. فعلى سبيل المثال تبدأ صغار اللبائن مثل الأبقار بعد مرور ساعات محدودة الوقوف على أرجلها والحركة واستكشاف المكان الذي يحيط بها، وهذا ما يمكنها من تحقيق الاستقلالية الفردية في وقت قصير جدا. وكلما انحدرنا إلى المراتب الأدنى في سلم التطور الحيواني نلاحظ ان مدة هذا الاستقلال تكون أكثر قصراً، فبعض صغار الحيوانات تسعى للبحث عن طعامها – وهذا يعني استقلالها واعتمادها على نفسها في زمن مبكر – فور ولادتها.
فإذا نظرنا مليا في الحكمة من هذا الأمر وجدناها عظيمة، إذ أن طول طفولة الإنسان والتي قد تمتد إلى أحدى عشرة سنة تقريبا، تمكن الأسرة التي ينشأ فيها الطفل من تلقينه التربية الأسرية من قيم دينية وعادات وتقاليد فضلا عن اللغة، وبالتالي تعتبر هذه الفترة فترة الإعداد الأولى للطفل قبل انخراطه في المجتمع الكبير الذي تنتمي إليه هذه الأسرة، والتي سيكتسب منها قيم واتجاهات تؤمن أو تعتقد بها الجماعة المرجعية التي تنتمي لها هذه الأسرة.
من خلال ذلك يمكن تفسير أسباب الاختلافات بين الأفراد من مجتمعات متعددة في اتجاهاتهم أو عاداتهم أو تقاليدهم أو دينهم أو لغتهم. وقد أشار الرسول الكريم (ص) إلى هذه الحقيقة بشكل واضح وجلي قبل ألف وأربعمائة سنة عندما قال (يولد الإنسان على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، أي أن البيئة الاجتماعية هي التي تصنع شخصية الإنسان بجميع محتوياتها ومنها الدين أو اللغة أو العادات أو التقاليد.
إن مبدأ تقبل الآخر كما هو من المبادئ الحضارية والمدنية الرائعة والجميلة التي يفضل على التربويين الالتفات لها في زمننا الحاضر بعد التطورات والتبدلات السريعة التي حدثت في جميع مناحي الحياة الإنسانية سواء في المجالات العلمية أو التكنولوجية أو وسائل الاتصال والإعلام الحديثة، مما جعل التقارب والتواصل بين شعوب وقوميات الكرة الأرضية في العقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة متيسرة وسريعة ومتداخلة إلى الدرجة التي جعلت البعض يصف عالم الإنسان اليوم بأنه عبارة عن قرية صغيرة. فالأخبار السياسية أو العلمية تنتقل من مشرق الأرض إلى مغربها أو من شمالها إلى جنوبها خلال دقائق أو ساعات معدودة، وليس كما كان في العهود الماضية، فضلا عن سعي الإنسان إلى اقتناء كل ما هو جديد وحديث في مختلف الجوانب الخدمية أو الكمالية التي تخص حياته. وبدلا ما ان يؤدي هذا التقارب والدنو بين الاقوام والشعوب المختلفة في أرجاء الأرض إلى التصارع والتطاحن وسيادة شريعة الغاب التي اراد الله سبحانه وتعالى عن طريق كتبه وأنبيائه ورسله أن يبعدها عن الطبيعة البشرية التي تميل في فطرتها إلى الاجتماع والائتلاف والتعاون مع الآخرين من جنس الإنسان، وهو ما يعبر عنه في علم النفس والاجتماع بالقول أن الإنسان كائن اجتماعي لا يمكن له أن يعيش وحيدا بمعزل عن أبناء جنسه الآخرين.
إن لغة تقبل المخالف والحوار والتصالح والالتقاء في جميع الجوانب التي تقود إلى خدمة الإنسانية جميعا يجب أن تكون هي السائدة، بدلا عن الحروب والصراعات والدمار والتخريب والتهميش ومحاولات القضاء على الآخر والتي لا تصب بأي شكل من الأشكال في خدمة الإنسان نفسه ورسالته السامية التي القاها على عاتقه خالق السموات والأرض وبديعهما تعالى الله علوا كبيرا عن مخلوقاته.
فلغة التسامح وتقبل الآخر والتفاهم معه والتعاون بما يحقق الهدف الإنساني العام سمة وصفة من الصفات التي ينبغي على التربويين والقائمين على العملية التربوية والمعنيين بها، ليس فقط من معلمين أو مشرفين أو واضعين للمناهج الدراسية فحسب، بل حتى من أئمة المساجد ورجال الدين والمصلحين الاجتماعيين والفلاسفة والسياسيين والعلماء في مختلف التخصصات الإنسانية والعلمية ورجال الاقتصاد والقانون. كل أولئك تقع عليهم مسؤولية تربية وإعداد وإرشاد وتوجيه وتوعية وإصلاح الأجيال الناشئة للمشاركة الفعالة في تطور ونمو ورقي الإنسانية.
إن تقبل الإنسان الآخر كما هي فطرة إنسانية التي فطرها الله سبحانه وتعالى عباده عليها، لاحظها الدارسون والباحثون لسلوك الأطفال منذ أمد ليس بالقليل، إذ لاحظ هؤلاء أن الأطفال في رياض الأطفال يميلون إلى التجمع واللعب الجماعي والمشاركة الجماعية الفعالة في النشاطات التي يكلفون بها، مما يعني أن المعتقدات الفكرية التي لم يكتسبها الطفل بعد من خلال سلسلة العمليات التربوية والتنشئة في الأسرة والمجتمع تؤثر بشكل أو آخر في وجود فجوات عدم تقبل الآخر، أو الاندماج والتعاون والتسامح معه، وبالتالي فإننا إذا ما أردنا ننمي فلسفة التسامح والتقبل والتفاعل مع الآخرين المخالفين سواء في العادات أو التقاليد أو المعتقدات الدينية أو الفكرية أو السياسية، لابد وأن نغرسها وننميها في الأطفال الصغار وفي عمر مبكر جدا كي نضمن إنشاء جيل يساهم مساهمة بناءة في خدمة مجتمعه الكبير بمختلف قومياته وأديانه ومذاهبه وإثنياته، وليس هداما تتمالكه النزعات والرغبات إلى محاربة ومقاتلة وإلغاء وتهميش الآخر مهما كان، وهذا ما يتعارض مع الفكرة الفلسفية الأصيلة التي أكدتها جميع الديانات السماوية وغير السماوية قبل أن تدخل ضمن طيات بعضها فلسفة الكره والرفض للمخالفين من قبل بعض المجتهدين الذين ذهبوا باجتهاداتهم وآرائهم بعيدا عن الأصول الحقيقية لسماحة الدين كما جاءت في عديد من النصوص السماوية والوضعية.
ويمكن للتربويين أن يؤسسوا لهذه الفلسفة التربوية إجرائياً عن طريق جملة من الإجراءات قد تتضمن:
1- تشجيع الأطفال على اللعب الجماعي والمشاركة الجماعية في النشاطات التربوية دون تمييز في الدين أو القومية أو المذهب أو اللون أو الجنس أو الحالة الاجتماعية للأسرة، هذا التشجيع من قبل التربويين للأطفال من شأنه أن ينمي لديهم احترام ومعرفة الآخر المخالف وتقبلهم دون تحفضات.
2- تثقيف الآباء على غرس فلسفة التسامح والتقبل في تشكيل شخصيات أطفالهم المستقبلية، وعدم حملهم المبدئي على كره أفكار الآخرين، بل توضيح الأمور لهم بشكل موضوعي وحقيقي بعيدا عن الأحكام الذاتية وغير الواقعية، لأنها تساهم في غرس الأفكار العدائية والتحقير والتصغير لمعتقدات الآخرين، وبالتالي تدفع هذه نحو التصادم بدل التعايش السلمي وهو المطلب الإنساني والتربوي الذي يسعى إليه جميع المخلصين والطيبين في هذا العالم.
3- إعداد مناهج تربوية تحث على ثقافة التقبل والتسامح في جميع المراحل الدراسية للأطفال في المرحلة الابتدائية، لاسيما في البلدان التي تحوي طيفا مختلفا من القوميات والديانات والمذاهب والمعتقدات السياسية المختلفة.
4- عقد حلقات ودورات ونشاطات تثقيفية باستخدام جميع الإمكانيات التقنية مثل السينما وشبكة الإنترنت وأجهزة الفيديو وأجهزة العرض المختلفة لعرض أفلام أو تسجيلات أو محاضرات أو معلومات مصورة عن عادات وتقاليد وأديان ولغات الشعوب والقوميات المختلفة لغرض تعريف الأطفال بها ومعرفة حقيقتها بأسلوب علمي موضوعي شيق وتربوي في ذات الوقت. وهناك إجراءات تربوية أخرى عديدة يمكن توظيفها لتؤدي ذات الغرض والهدف، وبما يناسب المراحل المختلفة من أعمار الأطفال.
إننا إذا أردنا أن نؤسس وننمي الفكرة التسامحية لتقبل المخالفين والمختلفين في الدين أو اللغة أو القومية أو العادات والتقاليد ودون المساس بالمعتقدات الأصلية المختلفة التي يؤمن بها هولاء الناس، فإن الأمر يتطلب منا أن نبدأ من الأساس، من الصغار الذين نربيهم ونعلمهم ونغرس فيهم مبادئ التسامح والتقبل والإنصات للآخرين المخالفين، ونبعد عنهم كل فكرة تقود إلى التصادم والتخالف والتقاتل مع المخالفين، وهو عكس ما أشارت إليه كثير من الآيات المحكمات في القران الكريم أو الأحاديث النبوية الشريفة أو سيرة أهل البيت عليهم السلام في ديننا الإسلامي مثلا، والأمر ينطبق أيضا على أتباع الديانات الأخرى كل بتاريخه وشواهده وأدلته التي لا يختلف عليها اثنان من أتباع ذلك الدين، فإذا نجحنا في تحقيق أي نسب من النجاح من الهدف السامي هذا، نكون قد ساهمنا مساهمة فعالة في تقدم ورقي ونمو الحضارة الإنسانية في فكرها وعلمها وتقدمها، ونكون أيضا أسسنا لتصالح الحضارات هذه بدلا عن تصادمها الذي قد يفضي إلى القتل والحرب والتدمير، مما يؤدي إلى دمار الحضارة الإنسانية وخرابها وتخلفها بدلا من تقدمها ورقيها كما أراد لها الله ورسله وأنبياؤه والصالحون والمصلحون من عباده في كل مكان وزمان وطوال عصور التاريخ التي مرت على هذه الأرض بصالحها وطالحها.