لابد من بعض المطر حتى تنتهى القصة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : حسان دهشان | المصدر : www.arabicstory.net

توقفت القصة فى شتاء عندما كان أحمد يفرك يداه من برودة يناير فوق رصيف شارع طلعت حرب ، السيارات ثابتة لا تتحرك لأنى لم آذن لها أن تتحرك ، إمرأة ترتدى قميص نوم فضى على جسد مكتنز و فى منتصف المسافة لغلق الشباك المطل على شارع طلعت حرب ، لم أشأ أن يغلق إلا قرب النهاية بقليل .المرأة سقطت إحداى حمالات قميصها عن كتف أبيض ينتظر القبل من رجل ينتظر إغلاق الشباك ، أعلم بوجود الرجل فى المشهد الثابت و لا أراه فهو شخصية ثانوية تماما ، لكن تخيل معى أنه يجلس على طرف السرير مثلا يدعى لنفسه أكبر قدر من الإشتهاء للمرأة التى تغلق الشباك ، بينما حقيقة هو قد ملها منذ سنوات .
لا يزال أحمد يفرك يداه من البرودة و أعرف أنه يريد أن أتركه يقرب فمه من أطراف أصابعه النحيلة الباردة حتى تدفئها أنفاسه لكنى أخاف أن يفلت منى المشهد كله ، فإذا سمحت له بالحركة فى العشرة سنتيمترات فستفلت العربات المتعجلة وستنجح المرأة فى غلق الشباك وتختفى من القصة الى الابد .
فى نفس القصة تقف سهام أمام رجل المكتبة العراقية . كانت قد طلبت منه أن تبدل كتاب الحضارة الأشورية فى العراق لأن غلافه ممزق و أحمد أباها يكره الأغلفة الممزقة للكتب . ولما كانت المكتبة توزع الكتاب مجانا لأغراض سياسية ولما كان أحمد قد اختار .لا إن كلمة إختار هنا خاطئة تماما ولا تعبر عن الموقف . لنقل اختطف النسخة الموضوعة على المنضدة غير مصدق أن الكتاب مجانى و خرج فارا بالكتاب من المكتبة خوفا أن يراجع الرجل العراقى الضخم نفسه ويقرر أن يدفع أحمد ثمن الكتاب .
قبل توقف القصة بخمس دقائق وقبل أن تقرر المرأة أن تغلق الشباك ، إكتشف أحمد أن الغلاف الأخير للكتاب ممزق ومجعد بصورة غير مقبولة تماما بالنسبة له . رغم أنى كمؤلف وبالطبع كقارئ لم أكن لتجعد غلاف الكتاب أى أهمية وقد يكون هذا لتعودى شراء الكتب المستعملة ، لكن أحمد يرى تجعد الكتاب جريمة ، ولأننى مؤلف ماهر و أدرك أن لكل شخصية منطقها ، فقد تركت بخبث إحساس الخيبة والضيق يصعد ليملئ جوف أحمد حتى يكون دافعا ليرسل سهام ذات الستة عشر ربيعا الى المكتبة حتى تغيير الكتاب وتنكسر أمام عيونها أسطورة الأب وتدرك أن أباها لا يقدر على المواجهة ، ورغم أنه ببساطة شديدة يستطيع العودة ويطلب تغيير الكتاب من الرجل العراقى الضخم العامل فى المكتبة .إلا أنه لم يفعل نظرا للمشاعر التي كانت تملؤه لحظة حصوله على الكتاب المجانى ، وإحساسه أنه بشكل ما قد خدع رجل المكتبة الذى لا يعلم بقيمة الكتاب الذى يوزعه مجانا ولا يدرك حجم الجهد المبذول فيه من تجميع للخرائط النادرة وصور لأثار أشورية لم تعد موجودة الآن .
تقف سهام أمام الرجل العراقى ليأذن لها بتغيير نسخة الكتاب بينما هو يفكر فى سخافة هؤلاء الذين يحصلون على الكتب المجانية ويرغبون أيضا أن تكون سليمة الغلاف ، وسهام تمتلئ حرجا وتستعيد صورة أبيها حينما عاد من الخارج وجلس على الكرسى الموجود خلف باب شقتهم ويده اليمنى يسيل منها الدم و أخذ يبكى .
تحت ضغط من أبطال المشهد الثابت فى شارع طلعت حرب سمحت بالصوت فإنتهز بعض الأوغاد من سائقى السيارات الفرصة ، خاصة خاصة أولئك الذين كانت أيديهم فوق زر ألة التنبيه ليطلقوا ضجة ضخمه فتصير القصة لا تطاق.
وإن كنت قد أطلقت الصوت فهذا حتى أزيد من إرتباك سهام فأنا أعلم أنها تكره صوت ألات التنبيه العالية ، لكن لم أكن أتصور أن تصل القصة لهذا الحد من الضجيج . كانت المرأة التى تغلق الشباك قد وصلت الى أخر درجة من الضيق وبدأت أثناء إنشغالى مع سائقى السيارات تحاول الإتصال بسهام فى المكتبة حتى تسقط إسطورة الأب وتغلق الشباك وتتفرغ للرجل الذى ينتظرها بشبق ، لم تعلم تلك الجاهلة أن دورها سينتهى تماما من القصة وأنه بمجرد غلق الشباك لن يوجد رجل شبق ينتظرها وستذهب الى العدم من حيث جاءت . لم تلتفت سهام الى محاولات تلك الجاهلة لانها كانت مشغولة بالابتسام برجاء للرجل العراقى المتأفف وتذكر أبيها الجالس خلف باب شقتهم بيده الدامية وهو يبكى لأن شابا يركب دراجة صدمه من الخلف أثناء سيره فى شارع الكوبرى فى بنها ، ونتيجة إحتكاك مقود الدراجة جرحت يد أحمد جرحا بليغا . لم يتوقف أحمد أو يعترض خوفا من أن يسبه الشاب أو يضربه بل إستمر فى سيره رغم الألم الصاعد من يده الى رأسه ، رغم وقوف الشاب ليعتذر ، إلا أن الشاب فوجئ بهذا الرجل النحيل القصير يواصل سيره كأن شيئا لم يحدث ، نظر بدهشة إلى أحمد الذى يهرب منه بعينيه وتابع سيره . عاد أحمد الى شقته ليجلس على الكرسي ليبكى ويطلب من سهام صبغة اليود المطهرة والقطن وهو يلعن أولئك الحمقى الذين يركبون الدرجات .
تنفست المرأة التى تغلق الشباك لإحساسها بقرب إنتهاء القصة ـ كنت قد سمحت بالأنفاس منذ قليل ـ أدركت سهام كم أباها هشا وضعيفا وفهمت أنه لا يملك سلطانا على أحد فى الدنيا سواها هى، خاصة بعد وفاة أمها بالفشل الكلوى . لا ، لما هذه الميلودراما ، لنجعلها طلبت الطلاق بعد أن غازلها رجل أمام زوجها والذى تجاهل ما حدث ولم ينطق كأن الموضوع لا يخصه . لا هذا أيضا فج جدا ، لا داعى لوجود الأم على الإطلاق لننس أنها وجدت فى هذه القصة .
عادت سهام وأعطت الكتاب لأبيها و أغلقت المرأة الشباك و إختفت و إنطلقت السيارات ، كان أحمد يتأمل غلاف الكتاب فرحا ، بينما سهام تسير رافعة رأسها فى كبرياء والمطر يهطل ، لقد قررت سهام أن لا تكن ضعيفة مثل أبيها