ما كنت أظن أبداً أنني سأضطر لمغادرة قريتي و الذهاب إلى المدينة بعد أن قرر أبي الاستقرار في العاصمة بصورة نهائية لمتابعة تجارته و أعمال في وسط حافل بالضجيج. و حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت ذهابنا إلى محطة القطار , لم أتخيل بأنني سأدع ديكي الملون الصغير و نعجتي البيضاء و سريري القديم و تلال الزهر و كروم العنب و سنابل القمح ..و أرحل إلى كتل الإسمنت الشاهقة و الألسنة الملتوية السوداء المزدحمة بالسيارات و الصفارات ..فقد كانت حياتي تبدأ مع شروق شمس كل نهار و كنت أفترش بساطاً أخضر ممتداً أحسبه لا ينتهي ...و أغط في نوم عميق ... و فجأة ...دون إنذار أعلن والدي قراره النهائي بالرحيل إلى بيت واسع و جميل في شارع لا يعرف الصمت ليلا أو نهارا ...لقد أخذنا أبي إليه قبل أسابيع لنراه جميعاً قبل أن يشتريه ...و لكني لم أقتنع أبداً بالذهاب و الاستقرار في المدينة لأدلف إلى كتل أسمنتية متراصة و أترك كل شيء ... أخذنا أبي إلى محطة القطار القريبة من القرية , و لم نكن نحمل إلا متاعا خفيفا لأن أبي نقل كل الأشياء الأساسية في بيتنا في القرية واعدا إيانا بالعودة في الإجازات ..وهكذا تأكدت أني فقدت كل أحلامي الصغيرة , و كل أشيائي الرائعة : فهذا طائر أعرفه من زقزقته ... و تلك أشجار أعرف طعم كل واحدة منها ..ولطالما جرحت نفسي و علقت بين أغصانها و أنا أحاول التقاط ثمارها ... أو لمجرد اللهو في منافسة مع الأصدقاء للفوز بأعلى مكان نصل إليه في أشجارنا الباسقة .. وهذه أزهار أعرف رائحتها من شكلها فكل شئ في قريتي مألوف عندي... لا يمكن أن أخطئه. و لأني مغرم بماء قريتي , ملأت زجاجة كبيرة بماء عذب من النبع القريبة ... سنذهب إلى المدينة ...القرار كان حاسماً و لا سبيل لمعارضته, ولو استشاروني لقلت لا ألف مرة ... نعم لقد بكيت و بكيت .. لكن القرار الصعب كان قد أبرم و لا رجعة عنه . فمصلحة أبي فوق كل شيء و لا مكان للعواطف, فهو ضحى بالكثير من أجلنا و علينا أن نضحي من أجله. و من بعيد .. لاح قطار السفر ..و سمعت الصفارة تزعق : أن أفسحوا الطريق ها أنا قد وصلت..استعدوا للرحيل !! هنا نظرت إلى أبي فوجدته يخفي دمعة سالت على خده.. فمسحها في عجل كي لا تراها أمي. و عندما صعدنا قطار السفر و تحرك هادرا باتجاه المدينة , مررنا قرب منزلنا الذي أغلقنا نوافذه و أبوابه بأحكام ...فنظرنا إليه بحسرة شديدة ..فلم يتمالك أبي ألما تصاعد من أحشائه .. و سمعته يقول : سامحني يا أبي ... وفرت من عينيه دموع لا أحصى عددها ... لقد كان قراره بالسفر تضحية من أجلنا مثلما يفعل دائما .. فسامحني أنت أولا يا أبي.
ما كنت أظن أبداً أنني سأضطر لمغادرة قريتي و الذهاب إلى المدينة بعد أن قرر أبي الاستقرار في العاصمة بصورة نهائية لمتابعة تجارته و أعمال في وسط حافل بالضجيج.
و حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت ذهابنا إلى محطة القطار , لم أتخيل بأنني سأدع ديكي الملون الصغير و نعجتي البيضاء و سريري القديم و تلال الزهر و كروم العنب و سنابل القمح ..و أرحل إلى كتل الإسمنت الشاهقة و الألسنة الملتوية السوداء المزدحمة بالسيارات و الصفارات ..فقد كانت حياتي تبدأ مع شروق شمس كل نهار و كنت أفترش بساطاً أخضر ممتداً أحسبه لا ينتهي ...و أغط في نوم عميق ... و فجأة ...دون إنذار أعلن والدي قراره النهائي بالرحيل إلى بيت واسع و جميل في شارع لا يعرف الصمت ليلا أو نهارا ...لقد أخذنا أبي إليه قبل أسابيع لنراه جميعاً قبل أن يشتريه ...و لكني لم أقتنع أبداً بالذهاب و الاستقرار في المدينة لأدلف إلى كتل أسمنتية متراصة و أترك كل شيء ...
أخذنا أبي إلى محطة القطار القريبة من القرية , و لم نكن نحمل إلا متاعا خفيفا لأن أبي نقل كل الأشياء الأساسية في بيتنا في القرية واعدا إيانا بالعودة في الإجازات ..وهكذا تأكدت أني فقدت كل أحلامي الصغيرة , و كل أشيائي الرائعة : فهذا طائر أعرفه من زقزقته ... و تلك أشجار أعرف طعم كل واحدة منها ..ولطالما جرحت نفسي و علقت بين أغصانها و أنا أحاول التقاط ثمارها ... أو لمجرد اللهو في منافسة مع الأصدقاء للفوز بأعلى مكان نصل إليه في أشجارنا الباسقة .. وهذه أزهار أعرف رائحتها من شكلها فكل شئ في قريتي مألوف عندي... لا يمكن أن أخطئه.
و لأني مغرم بماء قريتي , ملأت زجاجة كبيرة بماء عذب من النبع القريبة ...
سنذهب إلى المدينة ...القرار كان حاسماً و لا سبيل لمعارضته, ولو استشاروني لقلت لا ألف مرة ... نعم لقد بكيت و بكيت .. لكن القرار الصعب كان قد أبرم و لا رجعة عنه . فمصلحة أبي فوق كل شيء و لا مكان للعواطف, فهو ضحى بالكثير من أجلنا و علينا أن نضحي من أجله.
و من بعيد .. لاح قطار السفر ..و سمعت الصفارة تزعق : أن أفسحوا الطريق ها أنا قد وصلت..استعدوا للرحيل !!
هنا نظرت إلى أبي فوجدته يخفي دمعة سالت على خده.. فمسحها في عجل كي لا تراها أمي.
و عندما صعدنا قطار السفر و تحرك هادرا باتجاه المدينة , مررنا قرب منزلنا الذي أغلقنا نوافذه و أبوابه بأحكام ...فنظرنا إليه بحسرة شديدة ..فلم يتمالك أبي ألما تصاعد من أحشائه .. و سمعته يقول : سامحني يا أبي ... وفرت من عينيه دموع لا أحصى عددها ... لقد كان قراره بالسفر تضحية من أجلنا مثلما يفعل دائما .. فسامحني أنت أولا يا أبي.