أفكار تربوية من الأبناء إلى الآباء (2)

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمد الدويش | المصدر : www.yanabeea.net


الـتـــعلــيم:

أعتقد يا أبت أن التربية أبعد مدىً من مجرد الأمر بالصلاة، والنهي عن المنكرات، والتي حتى لانسمعها إلا بلغة أعلنت المقاطعة التامة مع الرفق والحكمة. أليس من حقي يا أبت عليك أن تأخذ بيدي في وصية بالغة، أو موعظة، أو تذكير، أو تعليم مسألة من المسائل.
لقد قرأت يا أبت في كتاب الله عن لقمان الذي آتاه الله الحكمة وصيته الجامعة الفذة لابنه؛ وكم كنت أتمنى أن أتلقى منك مثل هذا التوجيه والتعليم.
يا أبت أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر : " اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت.... "
قال مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : كان سعد يعلمنا خمساً يذكرهن عن النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر " رواه البخاري.
قال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص : كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول يابَني إنها شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها.
يا أبت : قال ابن سحنون في كتابه آداب المعلمين عن القاضي الورع عيسى بن مسكين أنه كان يقرئ بناته وحفيداته. قال عياض: فإذا كان بعد العصر دعا ابنتيه، وبنات أخيه ليعلمهن القرآن والعلم، وكذلك كان يفعل قبله أسد بن الفرات بابنته أسماء التي نالت من العلم درجة كبيرة.
لقد كان السلف يا أبت يعنون بتعليم أبنائهم وتوجيههم ومن ثم حفظ لنا التاريخ الوصايا الكثيرة التي تلقوها من آبائهم. روى الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع أن إبراهيم بن الحبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي : ائت الفقهاء والعلماء وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلي من كثير من الحديث.
وحين سافرت يأبت مع أستاذي في رحلة مدرسية عشت فيها جواً أستذكر طيفه وخياله كل يوم، فكنت أسمع التوجيه، والموعظة، والتأديب، والفائدة من أستاذي بلغة التعليم، والتربية. مما كنت لا أسمعه من أبي وللأسف. ومما حفظته في المدرسة يا أبت :_
عود بنيك على الآداب في الصغر ***كيــما تقر بهم عيناك في الكـــبر
فإنما مثل الآداب تجمعهـــــا*** في عنفوان الصبا كالنقش في الحجـر

 


يصلح إذا كبر:

كنت أقدم الشاي يوماً للضيوف وأسمع بالطبع مايدور بينكم من نقاش كان يهمني بدرجة كبيرة لأنه حديث عنا معشر الأبناء. وصدمت بتعليقك : ( يكبر حين يصلح... هكذا الشباب... وقد كنا نحن في الصغر كذلك حتى هدانا الله... ) وقلت في نفسي نعم تقول كنا كذلك لأنك للأسف يا أبت لم تعلم ماذا نصنع، ولاتدري ماذا نمارس، ولو علمت بذلك كان لك منطق آخر ولغة أخرى، وقد تساءلت بمرارة يا أبت عن هذا المنطق يكبر حين يصلح، فمن يضمن ذلك، ولم لايكون البديل يزداد إيغالاً في السوء والانحراف؟ ثم هل تضمن له أن يكبر يا أبت ؟. أتذكر قبل شهرين حين توفي اثنين من زملائي تغمدهم الله برحمته، وبعدهم بأسبوعين توفي اثنان كذلك، ولم تتصور أن ابنك لن يكون كهؤلاء فيتخطفه الأجل قبل الموعد الموهوم الذي تنتظر أن يتوب فيه.

 


أزمة الثقة:

أجد يا أبت فرقاً شاسعاً بين ما ألقاه منك من تعامل حين أكون مع الناس، وبين مافي الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام:" أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟" فقال الغلام : لا والله يارسول الله لاأوثر بنصيبي منك أحداً، فتله – أي وضعه – رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الشيخان يا أبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه : " من الشجر شجرة لايسقط ورقها ومثلها مثل المسلم فحدثوني ماهي؟" فذهب الناس في شجر البوادي وكان ابن عمر أصغر القوم فاستحيا أن يقول إنها النخلة، وحين أخبر أباه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له : لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا.
يا أبت لقد تجرأ ابن عمر رضي الله عنه أن يحدث أباه بعد ذلك بما دار في نفسه، وشجعه أبوه رضي الله عنه على أن يكون قالها، وفي الوقت نفسه لم يعاتبه ويوبخه على عدم قوله لها.
كنت أقرأ في التاريخ يا أبت عن سيرة أسامة بن زيد رضي الله عنه، وعبدالله بن عمر، والأرقم بن الأرقم، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من شباب الصحابة الذين كانت لهم أدوار محمودة في تاريخ أمتهم، وفكرت يوماً من الأيام أن أتطلع لأكون مثلهم، وأقتدي بهم. لكني وجدت أن أبي قد رباني على أني لست مؤهلاً إلا لإيصال الأهل للسوق، وإحضار الخبز للمنزل؛ حتى الفاكهة لست مؤهلاً لشرائها من السوق، فضلاً عن الذبيحة، ومع ذلك لست مؤهلاً لاستقبال الضيوف، أو الجلوس معهم إلا حين أقوم بتقديم القهوة والشاي فقط.
ألا ترى يا أبت أن هذا قد أدى إلا طمس الثقة بنفسي حتى أصبحت أشعر أني لست مؤهلاً لأي دور في الحياة.

 


مشاعري غالية يا أبت:

أتذكر يا أبت حين كان الضيوف لديك فأحضرت الشاي، وتعثرت في الطريق، أتذكر كلمات التأنيب أمام عمومتي وأقاربي؟ إن كنت نسيتها فإن الصافع ينسى مالاينساه المصفوع، وهل تتصور أني نسيت يا أبت حين قدمت إليك وقد أخفقت في امتحان الدور الأول في حين نجح إخوتي وفي مجلس قريب من المجلس نفسه فلقيت من الانتقاد والسخرية منك ما لقيت؟ وهل تريدني أن أنسى ذاك التأنيب القاسي الذي وجهته لي أمام زملائي وأصحابي؟
بل أحياناً يا أبت تحملني ما لم أتحمل؛ ففي ذات مساء أمرتني أن أحضر الطيب للضيوف فذهبت إلى أمي فوجدته لم ينته بعد وعدت إليك، ألم يكن لديك بديل عن التأنيب لي ولأمي ؟ أو ليس الأولى أن تقدر في نفسك أنه لما ينته بعد؟ وهب أنه تأخر لدقائق وما ذا في الأمر؟ أعتذر لك يا أبت عن الاستطراد في هذه الأمثلة لأقول لك بعد ذلك ألا تتصور أني إنسان أحمل مشاعر وأحتاج كغيري للاحترام والاعتراف بشخصيتي ؟
لقد حفظت يا أبت في عمدة الأحكام أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتذر لأحد أصحابه حين أهدى له صيداً وهو محرم، فلما رأى مافي وجهه دعاه، واعتذر له وقال:" لم نرده عليك إلا أنا حرم".

 


أعطني جزءاً من وقتك يا أبت :

كم هما شخصيتان متخلفتان يا أبت، شخصية أبي حين يكون مع أصحابه وزملائه يتحدث وإياهم بكل انبساطة وسعة بال، وقد علته ابتسامة مشرقة، والشخصية الثانية لأبي نفسه حين يجلس معنا فلا نراه إلا على وجبة الطعام، والسكوت قد خيم على الجميع لايقطعه إلا الأوامر التي ترد منه تارة وتارة. أما أن يصحبنا في نزهة، أو يباسطنا الحديث، أو يسأل عن أحوالنا فهذا ما لايمكن. إني حين أراك يا أبت مع أقرانك يؤسفني أن أقول إني أحدق النظر فيك، وأعيده مرة وأخرى. أهذا هو أبي فعلاً. لقد كنت أشعر أني يتيم حين حفظت في المدرسة :-
لـيس اليتيم من انتهى أبواه من *** هم الحياة وخلفاه ذليـــلاً
إن اليتيم الذي تلقى لــــــه*** أماً تخلت أو أبا مشغــولاً
يا أبت أقترح عليك أن تمسك ورقة وقلماً وتسجل فيه كم ساعة تقضيها في العمل الرسمي من وقتك ؟ ثم كم ساعة للراحة ؟ وكم ساعة للزملاء ؟ وكم ساعة لمشاغلك الخاصة ؟ وأخيراً كم ساعة لتربية أبنائك ؟ أخشى أن تجد إجابة مزعجة يا أبتك أخبرك عنها سلفاً لأني أعرفك جيداً. ستجد أن وقت التربية - إن استطعت أن تحسبه - لايمثل إلا نسبة تافهة من وقتك لاتسحتق الذكر. هل فكرت ياأبي أن تقرأ كتاباً أو تسمع شريطاً عن التربية وأسسها. أهكذا قدر أبنائك عندك ؟ وقيمتهم لديك ؟
يا أبت لقد دعاني ذلك أن أمنح زملائي الثقة المفرطة، وأن أستأمنهم على مشكلاتي، وأستشيرهم في أموري، وأستأمرهم في قراراتي، مع أنني أدرك أن أبي أكثر خبرة، وأصدق لهجة، وأعمق نصحاً من زملائي، لكني لاأجد الوقت المناسب له لأفاتحه الحديث، ولو وجدت الوقت لكانت أمامي العقبة الآتية:

 


المصارحة يا أبت :

لقد حدثتني نفسي مرة يا أبت أن أصارحك ببعض مشكلاتي ومعاناتي حين كنت وإياك على مائدة الطعام وقد سيطر عليها الصمت المطبق كالعادة، ولكني لم أستطع لأني أعرف أن الجواب سيأتيني قبل أن أكمل حديثي، لأني أعرف أني لن أعطى الفرصة للحديث، ناهيك عن أن تناقش مشكلتي بهدوء وتجرد وبموضوعية بعيدة عن التشنج والغضب.
يا أبت ألا توافقني أن الابن يحتاج إلى أن يفتح الأب له صدره، حتى يفضي له بما يريد، ويشكو له مما يعاني؟ وأن لغة النقد والتشنج تقضي على كل حماسة منه للمصارحة يدفعه لها حرارة المشكلة؟

 


الواقعية يا أبت:

كم مرة يا أبت دعوتني وأنا خارج من المنزل لتكلفني بإيصال أهلي، أو إحضار طلب معين لك، فأخبرك أني على موعد مع أصحابي، فأطلب فرصة للاعتذار منهم على الأقل، أو أطلب تأخير طلبك لوقت آخر وهو قابل للتأخير. فلا ألقى منك إلا الزجر والتأنيب.
يا أبت : لاشك أن من حقك أن لاأتردد في تلبية أمرك، وأن لاأقدم عليك أحداً؛ لكن ألا توافقني يا أبت أنك لو كنت تعاملني بمرونة أكثر فتخبرني بطلبك قبل وقت كاف، وتسألني عن الوقت المناسب لي، وتؤخر لي أحياناً ما يحتمل التأخير، ويبقى قدر بعد ذلك لايتسع له هذا المجال يمكن أن أضحي فيه، أما أن يكون هذا هو القاعدة فقديماً قيل إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، ألا ترى يا أبت أن هذا الأسلوب يشعرني بالاحترام والتقدير، ويشعرني بالثقة في النفس، ويدعوني لأداء ماتطلبه بنفس راضية مطمئنة؟

 


الخوف والجبن:

إننا يا أبت أمة رسالة، أمة جهاد في سبيل الله، والجهاد ماض إلى يوم القيامة، ومن لم يغز أو يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق، أليس من حقي عليك يا أبت أن تربي لدي الشجاعة، وعدم الخوف مما سوى الله سبحانه وتعالى؟
أترى أن أساليب التخويف في الصغر من الهر.... من اللص.... من العفاريت.... من عامل النظافة...- ولايتغير حين يتقدم بي السن إلا الأسلوب فقط - أترى أن هذه الأساليب تخرج شاباً مؤهلا ً لحمل الرسالة، والجهاد في سبيل الله والتضحية لأجله سبحانه؟ وهل تظن يا أبت أنت أو أمي أن مثل ذلك سيخرج أمثال خالد بن الوليد، أو صلاح الدين، أو نور الدين الشهيد؟
لقد كانت الشجاعة مضرباً للمثل في الثناء والمدح عند العرب، يربون أبناءهم عليها، ويغرسونها فيهم، ويعير أحدهم بالجبن. أفينكل عنها من اختارهم الله ليكونوا حملة الدين والرسالة؟

 


كيف يعالج الخطأ:

الخطأ يا أبت لايخلو منه بشر فهو صفة ملازمة للإنسان، فكيف بالشاب الصغير؟ ومن واجب الأب أن يصحح خطأ ابنه، وأن يوقفه على أخطائه، والجميع يوافقه بل ينتظر منه ذلك.
ولكن ألا تشعر يا أبت أن أسلوبك في معالجة الخطأ يحتاج إلى بعض المراجعة فهل يسوغ أن لاتترك صغيرة أو كبيرة إلا واجهتني بها؟ ثم لماذا تعالج الأخطاء بالقسوة دائماً؟ كثيرة هي المرات يا أبت التي أتلقى فيها ضرباً مبرحاً، أو لوماً عنيفاً، أو صداً وإعراضاً، والسبب خطأ تافه لايستحق مجرد الوقوف عنده، بل يا أبت إن بعض المواقف لاأكتشف خطئي فيها، أو لاأقتنع أن مافعلته خطأ فضلاً عن أن يصل إلى حد العقوبة.
ما رأيك يا أبت لو تم علاج الخطأ من خلال المناقشة الهادئة، والإشارة، والتلميح، والتغاضي عن بعض الأخطاء أحياناً، ألا تتصور يا أبت أن هذا أولى؟
وأود أن تطرح على نفسك هذا التساؤل : هل المقصود من الإجراء الانتقام لأني أخطأت ؟ أم المقصود التخلص من الخطأ وتجاوز آثاره ؟. وعلى ضوء الإجابة يتحدد الأسلوب الأمثل في معالجته. ويؤسفني يا أبت إن قلت لك إني مع يقيني أن مقصودك علاج الخطأ. إلا أن أسلوبك يشعرني أن المقصود هو الأول.

 


القسوة والغلظة يا أبت :

وتصور يا أبت أن بعض الآباء يسجن ابنه في دورة المياه أعزك الله، والآخر قد جهز غرفة في المنزل لسجن ابنه حين يقع في الخطأ، والثالث قد أعد لسلة من الحديد يربط فيها ابنه حين يقع في الخطأ.
أما الضرب المبرح والقاسي فهو لايخفى عليك سنة يمارسها الكثير من الآباء.
إنك توافقني يا أبت أن هذا السلوك ينتج ابناً عدوانياً، متبلد الإحساس، ينظر إلى والده نظرة الكراهية والاشمئزاز، ويتمنى فراقه بأي وسيلة ولو كانت الوفاة يا أبت.
والبديل لذلك يا أبت ليس هو التدليل وترك الحبل على الغارب كما لايخفى عليك يا أبت.

 


الرحمة والحنان يا أبت:

لست أدري أين يذهب هؤلاء عن قول معلم البشرية ومربي الأمة " إنما يرحم الله من عباده الرحماء "وقوله: "من لايرحم لايرحم "وقوله: " الراحمون يرحمهم الرحمن "وقوله: " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً بهم فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ".
وقوله في الثناء على النساء :" خير نساء ركبن الابل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده ".
حفظت يا أبت في عمدة الأحكام أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامه بنت ابنته زينب.
وجاء الحسن يتعثر في ثوبه وهو صلى الله عليه وسلم يخطب فينزل من المنبر ويحمله ويقول:"إن ابني هذا سيد وسوف يصلح الله به بين طائفتين من المسلمين" كم هو عظيم ذاك القلب الرحيم الذي يرعى حق الذرية ويحسن إليهم حتى وهو يحمل عبء الرسالة والدعوة، وحتى وهو يصلي بالناس، أو يخطب فيهم. أقول لك يا أبت إني مع الاعتذار الشديد كنت أحتاج إلى هذه المعاني فهلا استدركتها في حق إخوتي الصغار.

 


المــكـــافأة:

قرأت يا أبت في مستدرك الحاكم أن ابن عباس رضي الله عنه وضع للنبي صلى الله عليه وسلم وَضوءاً فقال له : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ".
أورد الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث عن النضر بن الحارث قال : سمعت إبراهيم بن أدهم يقول : قال لي أبي : يابني اطلب الحديث فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم فطلبت الحديث على هذا.
ليس بالضرورة أن يكون الثواب مالاً، بل الثناء الحسن، بل السؤال وحده كاف ليمنح التشجيع والحث، كم مرة يا أبت استخدمت هذا الأسلوب مع ابنك ؟ كم مرة سمع منك الثناء والتقدير ؟ فضلاً عن المكافأة ؟ وهل يمكن أن نضع ثوابك وعقابك في كفتين ؟.

 


الفجوة الحضارية يا أبت :

لقد عشت يا أبت في جيل وعصر له ظروف وملابسات، وتبدلت الأحوال، وتقلبت الأمور بعدك يا أبت، فها نحن نعيش في عصر جديد، تختلف موازينه، ومتغيراته، وقيمه. عشت يا أبت في بيئة محافظة في قريتنا العامرة لاتعرف إلا الخير والفضيلة، ولاترى ما وراء أسوار القرية، لكن نجلك يا أبت قد عاش في عصر آخر، عصر عمت فيه الفتن، وازدادت فيه المغريات، وأصبحت يا أبت أستيقظ وأصبح وأمسي عليها. لقد كان غاية ماتعترض له يا أبت من فتنة امرأة ترتدي عباءتها وتسير تحت الحائط قد أثر في جنبها من التصاقها به، أما أنا يا أبت، فحين أخرج من المنزل تقابلني يفوح العطر منها وقد أبدت مفاتنها، وأخرج بعد ذلك للمدرسة فأجلس مع زملائي فأسمع منهم من الأحاديث مايثير الغافل، ويوقظ الساهي، وأعود إلى المنزل فأراها أمامي على الشاشة فاتنة سافرة، تتكسر وتتغنج، وحين أذهب إلى المحل التجاري أرى المجلات وقد زينت أغلفتها بهذه الصور، أما جهاز الفديو يا أبت فلايخفى عليك مافيه، ويجهز علي مابقي جهاز الاستقبال الذي أصبح يعرض أمام ناظري قنوات العالم بأسره. هذا ما أواجهه يا أبت وهذا ما أعاني منه.
فهل لازالت بعد ذلك يا أبت تعاملني بعقلية العصر الذي عشته وألفته.

 


فارق العمر يا أبت :-

وبعيداً عما قلته يا أبت في الصفحة السابقة أنت بلغت أشدك، وأنا لازلت شاباً مراهقاً، أنت متزوج من اثنتين، وأنا لازلت أعزباً، فتجلس معي أمام شاشة التلفاز، فيثيرني مالايثيرك، ويحرك مشاعري مالايحرك لديك ساكناً، فهلا فكرت يا أبت وأنت ترى ما أنا عليه، بل وحتى تقييم أعمالي، وأخطائي، هل فكرت في سني ومبلغي من العمر؟

 


الزواج يا أبت :

ومع ماسردته لك يا أبت من معاناتي مع الشهوات والفتن، فلست بحاجة إلى أن أذكرك بوصية النبي صلى الله عليه وسلم : " يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ". أتخشى ألا أقوم بأعباء الزواج وقد قال الله الذي بيده الأرزاق [وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم].
تعتذر يا أبت بعدم القدرة، لكنك بعد ذلك تزوجت الزوجة الثانية، وهذا أمرٌ من حقك ولا أتدخل فيه. لكني أتصور يا أبت أن حاجتي أكثر إلحاحاً من حاجتك للزوجة الثانية. وأظن أيضاً أنك قادرٌ على تزويجي بأقل من نصف مادفعته أنت للزوجة الثانية.
وبعد ذلك اشتريت لي السيارة بمبلغ كان يكفي أقل منه، فيوفر جزء من ذلك لما أنا أحوج إليه ألا وهو الزواج.

 


الناس معادن يا أبت:

لقد من الله يا أبت على أخي محمد بذكاء، وفطنة، وشخصية جادة تتعلق بمعالي الأمور، وصبر وجلد ليس لغيره من إخوته وأنا كذلك مثلهم. لكن ياأبي مابالك دائماً تريدنا أن نكون مثل محمد حتى في الذكاء، والحفظ، والفطنة، مما لانملكه، ودائماً تذكرنا به، وتعيرنا أنا لم نكن مثله مما أوغر صدورنا تجاهه، وجعله يتكبر علينا.
لقد اكتشفت يا أبت حين تقدم بي العمر أن الناس مواهب وطاقات، وأن الله قسم العقول كما قسم الأرزاق، فهلا أخذت هذا في حسبانك يا أبت وأنت تعامل أبناءك؟

 


القدوة يا أبت:

كم مرة يا أبت أوصيتني أن أقول لمن يطلبك في الهاتف إن والدي غير موجود، وحين أوصلتني للمدرسة قبل أن تشتري لي السيارة أمرتني أن أعتذر بأعذار غير صادقة. في حين سمعت الإمام بعد صلاة العصر مراراً يقرأ قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار ". وقوله صلى الله عليه وسلم : " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف... ". وسمعت من أستاذي، ومن خطيب الجمعة النهي عن الكذب والتغليظ على من فعله، ألا ترى يا أبت أني تعلمت الكذب وبكل أسف في المنزل، وممن ؟ ممن كان الأولى به أن يكون القدوة الحسنة، من أكبر رجل في المنزل، وقل مثل ذلك في السماع الحرام، والنظر الحرام، والتهاون بالصلاة.
أليست التربية يا أبت بالقدوة من أول وأهم جوانب التربية ؟.

 


مجالس الآباء حين يحضرها الابن:

حين تجلس يا أبت مع أصحابك، وأقدم لكم الشاي دون أن أقول كلمة - كالعادة - أسمع ما يجري بينكم مما أرى أنه كان ينبغي الترفع عنه ولو أمامي على الأقل يا أبت.
لا أفهم يا أبت كيف تفيضون في أمور النساء، وغالب حديثكم لا يجاوز ما بين السرة والركبة. وأمامكم شاب مراهق، لديه من الشهوة مالا يفتقر إلى ما يثيره، فيسمع مثل هذا الحديث. هلا سألت يا أبت نفسك عن أثر مثل هذا الحديث على أمثالي.
أليس مدعاة لأن تثور الشهوة لدي وأنت تعلم أني لا أجد المصرف الشرعي.
أليس مدعاة إلى قدوة سيئة، واستمراء لمثل هذا الحديث في مجالسي مع أصحابي، وهناك حيث لا يضبطها ضابط، أو يمنعها وازع، فقد تتطور إلى مالايخفى عليك.

 


مرحلة الالتزام :

لقد عشت يا أبت مرحلة من الغفلة والصبوة كما قلت لك في بداية رسالتي ثم من الله علي بالهداية وانتقلت إلى مرحلة جديدة، أستأذنك يا أبت أن أحدثك قليلاً عنها :

 


 

1.هل كان لك دور يا أبت؟

كم كنت أتمنى أن يكون صاحب الفضل في التزامي واستقامتي بعد الله هو أحب الناس وأقربهم إلي هو أنت يا أبت.
ولكن كم يؤسفني أن هذا الرجل لم يكن له أي دور؛ بل وحين هداني الله كنت أنتظر التشجيع، أن أرى تغيراً؛ ولكن وللأسف لم أجد شيئاً يذكر.

 


 

2.لماذا تكون عائقاً يا أبت ؟

وحيث لم أجد ذلك يا أبت هل وقفت موقف الحياد، أم أن الأمر تغير بالاتجاه المعاكس. كم أعاني يا أبت حين أريد أن أسافر للعمرة، أو أشارك مع طلاب الحلقة.
ولست أدري يا أبت ما أقول هاهنا؟ كم مرة ودعت أصحابي ودموعي تذرف لأني لم أصحبهم لالشيء إلا أن أبي لم يوافق؟ كم من ورقة أحضرتها من المدرسة تطلب الموافقة على المشاركة في برامج الجمعية المدرسية، وكان إمضائك دائماً في زاوية لا أوافق؟

 


 

3.أتدري يا أبت كم حفظت من القرآن ؟

لقد التحقت بعد أن هداني الله يا أبت في حلقة لتحفيظ القرآن الكريم، ومضيت في حفظ كتاب الله بجدية وعزيمة، وها أنا الآن قد أتممت حفظ القرآن، وابتدأت بحفظ عمدة الأحكام، ومع ذلك يؤسفني يا أبت أن أقرب الناس إلي لم يعلم عن ذلك شيئاً، إنه لم يوجه إلي سؤالاً في يوم من الأيام.
ماذا حفظت ؟ أي درس حضرت ؟ ماذا علمت ؟.
أي أثر يتركه يا أبت ذاك الأب الذي يسأل ابنه ماذا حفظ؟ وماذا تعلم؟ وما أخبار الحلقة، وأخبار الدرس الأسبوعي في المسجد؟ ويصحب ذلك بالتشجيع، والحث، والثناء والدعاء:" اللهم فقهه في الدين، وزده علماً وعملاً ".

 


 

4.أتعرف أصحابي ؟

كم مرة تقابلهم يا أبت لدى الباب، فلا يحظون منك بالسلام فضلاً عن الترحيب، والتقدير، أو الجلوس معهم، والتعرف عليهم، ومعرفة أحوالهم. ألا ترى يا أبت أن ذلك يشعرني بالتقدير، بالاهتمام، بالثقة، بالرجولة؟

 


 

5.هل أنا متشدد فعلاً ؟

كم سمعت منك هذا الوصف يا أبت؟ ولست أدري هل انتقلت إليك العدوى من وسائل الإعلام الغربية؟ فما أن أفوه بكلمة وما أن تراني على عمل حتى تنهاني عن التشدد، وحتى صيام النفل مدرج في القائمة لدى أبي ضمن التشدد، فضلاً عن قيام الليل، وحتى إنكار المنكر، وآلات اللهو هو الآخر يعتبر تشدداً.
لا أنكر يا أبت أني قد أقع في الخطأ، وقد أبالغ أحياناً لكن أهكذا تؤخذ الأمور ؟ فضلاً عن أن يكون الحق وفق ما رأيت.

 


أختي يا أبت :

وأخيراً والوقت يلاحقنا يا أبت أستأذنك في أن أحدثك عن معاناة أختي، والتي شأنها شأني لم تجد وقتاً للحديث، أو مجالاً للمصارحة، يا أبت تعلم مايخطط الأعداء للمرأة المسلمة، ومايعملون لجرها إلى الرذيلة والفساد، وأختي واحدة من هؤلاء.
فهل تستطيع أن تشكي لك مشكلة؟ أو تصارحك بهم يا أبت؟ بل هل تستطيع أن تجلس معك دقائق؟
يا أبت ألا ترى أن خلافك مع والدتي ينبغي أن يؤجل ليكون خاصًّا؟ هل ترى مما يخدم المصلحة-وبالذات مع أختي- أن تؤنب والدتي أمام الجميع، وعلى أمور تافه ربما زيادة أو نقص كمية الملح أو السكر في الطعام؟
يا أبت : أليس من حق أختي أن تعجل موضوع زواجها، بل أن تبحث لها أنت عن الزوج الصالح، ولنا سلف يا أبت في عمر حين عرض ابنته على الصديق.
يا أبت : أليس من حق أختي أن تأخذ رأيها في الزواج ؟ وأن لا تكون ضحية معرفتك وصداقتك لوالد زوجها، والذي معيار تزكيته لديك معرفتك لوالده وأخواله؟
أليست أجهزة اللهو مما يدمر أختي يا أبت؟ أتدري يا أبت أن أختي تعلمت مصطلحات الحب، العشق، الغرام، العلاقة العاطفية.. ومن أين؟ مما أمنه لها والدي ليسليها ويقضي وقت فراغها الذي وفرته لها الخادمة النصرانية.

 


وأخيرا :

وأخيراً يا أبت فهذا حصاد الخاطر المكدود، وهذه نتيجة العزيمة التي دفعتني إلى هذا الحديث الصريح، الذي أرجو ألا يكون فيه افتئات عليك، أو سوء أدب معك، أو إخلال بحقك في البر والإحسان.