قصاص المرأة وديتها في الفقه الإسلامي

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : د.رقية طه جابر العلواني | المصدر : www.islamlight.net

المقدمة:
لم تزل قضايا المرأة محور اهتمام مشترك بين كافة الاتجاهات في الفكر الديني. ومما يزيد في حدة النقاش حول قضايا المرأة من ميراث وشهادة وديّة وغيرها، طرحها غالباً من قِبل عدد من المستشرقين أو الداعين إلى تطوير المجتمع من خلال الدعوة إلى المساواة المطلقة بين المرأة والرجل في مختلف الأمور. فقد دار اهتمام هؤلاء جميعاً حول إبراز الفقه الإسلامي مكرِساً لفكر ينتقص من المرأة ويقلل من شأنها وإنسانيتها وأهمية دورها في المجتمع.  فلم تنطلق مناقشة تلك القضايا غالباً من فكر أصيل منبثق من دراسة واعية متأنية للنصوص الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية، تروم التوصل إلى أقرب الآراء الفقهية في تلك القضايا من النصوص، وأولاها بتحقيق مقاصد الشريعة. وإنما انطلقت من فكر غريب يروم تقمص خطى المساواة المطلقة بين المرأة والرجل كما طرحها الفكر الغربي.  وقضية قصاص المرأة وديتّها من المسائل التي تحتاج إلى طرح فقهي عميق، يميز بين النصوص الواردة فيها من جهة، وبين التأويلات والآراء الواردة حول تلك النصوص من جهة أخرى. هذا ما تروم هذه الدراسة تناوله من خلال المرور على نظام القصاص والدية قبل الإسلام، والوقوف عند النصوص التي استدل بها العلماء في تناولهم للمسألة، ومن ثمّ محاولة الكشف عن مديات تأثر تأويلات العلماء واجتهاداتهم للنصوص الواردة في موضوع قصاص المرأة وديتها، بالأعراف والظرفية الاجتماعية السائدة في عصورهم. وتروم الدراسة من خلال اتباع ذلك المنهج، تقديم محاولة تنأى بالدراسات الفقهية عن الدوران في فلك ردود الأفعال والدفاع عن آراء فقهية معينة بغية الحفاظ عليها من هجمات أصحاب الدعوات المضادة. تلك الدعوات التي لم تزل تعرض أحكام الشريعة والفقه الإسلامي فيما يخص المرأة، مدلف انتقاص لها وامتهاناً لكرامتها. ولا تنتهج الدراسة نهج التركيز على ترجيح هذا الرأي أو ذاك، بقدر ما تحاول الكشف عن دور الأعراف والظرفية الاجتماعية وطبيعة النظرة السائدة حول وضعية المرأة في توجيه مسار تأويل النصوص والآراء المثارة حولها من قِبل بعض المجتهدين -رحمهم الله.

 

قصاص المرأة وديتها في الإسلام

 المبحث الأول: نبذة عن نشأة نظام الدية والقصاص قبل الإسلام. عرفت بعض القبائل الدية قبل ظهور الإسلام بأمد بعيد، إلا أن ذلك كان وفق أعراف لم تخل في كثير من الأحيان من وقوع بعض الظلم والإجحاف. ويذهب بعض المؤلفين إلى أن معرفة المجتمعات بنظام الدية يعود إلى العهد البابلي، وربما قبله بقليل. فقد ورد الأخذ بالدية في قانون حمورابي في تحديد جزاء الاعتداء على الأطراف بالضرب أو الجرح أو الكسر. إلا أنه فرّق بين الأحرار والعبيد، فقد أخذ بمبدأ القصاص لكل الجرائم التي تقع في حق الأحرار، أما العبيد فقد أخذ فيه بنظام الدية. وعرف قدماء اليونان كذلك مبدأ التصالح في الجرائم على مال يقدمه الجاني للمجني عليه أو أوليائه. وكان المال يختلف عندهم بحسب حالة المجني عليه ومكانته الاجتماعية. ومع بواكير القرن السابع الميلادي أصبح ذلك قانوناً رسمياً يفرض بموجبه المبلغ الذي يجب دفعه للمعتدى عليه مقابل تنازله عن حقه في القصاص أو الانتقام(1).  ثم إن المجتمعات المتلاحقة توارثت هذا النظام وفق أعراف معينة مختلفة زماناً ومكاناً، ومنها عرب الجاهلية من بدو وحضر. والحضر هم سكان المدن الكبيرة والمناطق الزراعية والذين لا يشكلون إلا قلة من نسبة العرب. أما السواد الأعظم منهم فقد كانوا من البدو الذين اعتادوا حياة التنقل والترحال طلباً للماء والكلأ. ولعلّ تلك السمات التي رافقت حياتهم، ولدّت فيهم نوعاً من الروح العدائية لا تكاد تهدأ لتثور من جديد، مؤججة نيران الحروب والصراعات فيما بينهم، التي استمر بعضها سنوات طويلة. ولم يكن العرب آنذاك محكومين بسلطة مركزية تفرض عليهم قانون معين أو نظام ما.  وعلى هذا فقد تعارفوا على ما يمكن تسميته قوانين عرفية، نظمت لهم سبل العيش فيما بينهم إلى حد معين. وقد تمسكت تلك القبائل العربية بهذه النظم البسيطة القائمة على أساس تقديس رابطة الدم والعشيرة. ومن تلك النظم اصطلاحهم على أن القتل أنفى للقتل، وتعني أن القاتل يجب أن يقتل كي لا تقع جريمة أخرى يذهب ضحاياها أبرياء. ومن هنا نشأ عندهم نظام الأخذ بالثأر والذي اتسم بكثير من مظاهر العنف والقسوة والظلم في غالب الأحيان، مما نجم عنه حروب طاحنة عرفت بأيام العرب(1). ولم يعرف العرب في الجاهلية نظام القصاص بمفهومه في الإسلام، بل كانت بعض القبائل لا ترضى بالواحد مقابل قتيلهم، وكذا في الجروح كانوا يطالبون بالزيادة. فالقصاص لم يكن قائماً عندهم على أساس المماثلة بين الجريمة والعقاب، بقدر ما هو قائم على التفاضل والتمييز الطبقي الذي لم تكن تنظمه علاقة ثابتة أو قاعدة مطردة. أما الشريعة الموسوية، فقد كان المبدأ المتبع لديهم هو القصاص دون الدية. فالنفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن، ويد بيد ورجل برجل وحرق بحرق وجرح بجرح ورض برض، فالعقوبة توقع على الجاني وحده وإن كان حيواناً(1). وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال:كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، فقال الله عز وجل لهذه الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ }البقرة178الآية، فالعفو قبول الدية في العمد.. فقد كتب على أهل التوراة من قتل نفساً بغير نفس حق أن يقاد بها ولا يعفى عنه ولا يقبل منه الدية وفرض على أهل الإنجيل أن يعفى عنه ولا يقتل، ورخص لأمة محمد إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا(2).

 

المبحث الثاني: القصاص في النفس:

بعث الحق سبحانه الأنبياء والرسل بمبادئ متفق على أساسياتها، وقواعد لا تستقيم حياة العالم بغيرها، ومن ذلك دفع الظلم والعدوان على الغير إحقاقاً للحق وإشاعة للخير والفضيلة التي تكفلت بها جميع الأديان السماوية الآتية من مشكاة واحدة. إلا أن النفوس تتفاوت في الاستجابة لداعي الخير والحق، وتتباين في الالتزام بأحكام الشريعة المثلى. ومن ذلك ما يحدث بين الأفراد والجماعات من نزاعات وخصومات قد تصل إلى حد التعدي على الآخرين، بل إزهاق الأنفس والأرواح. وعلى هذا فقد سنّت الشرائع السماوية القصاص في النفس وما دونها. وتشريع القصاص أدعى للزجر وكف الأذى عندما تستعصي نفس الفاعل عليه، وتنغلق أمامه دواعي الردع عن ارتكاب هذه الجريمة أو تلك. وقد حرّم الله سبحانه الاعتداء على الأنفس بغير حق، بل عده من أشنع المفاسد فهي تهدم المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه منظومة الاستخلاف والعمران الحضاري على الأرض، وتهدد الأمن والاستقرار، اللذين لا تقوم حضارة ولا تنتعش بدونهما مهما توافر لها من أسباب النجاح. قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ}الإسراء33 (1). وقال في موضع آخر في سياق الحديث عن حكم القتل في الشريعة الموسوية التي لم تختلف فيها النظرة إلى هذه الجريمة، والحكم على فاعلها: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً }المائدة32 (2).وعلى أساس هذا التحريم الإلهي الصريح في الشرائع السماوية لجريمة الاعتداء على النفس، والأطراف التي لم تبح بأي شكل من أشكال الاعتداء في أية ديانة، رتب الشارع على مرتكبيها جزاءً دنيوياً يتلاءم مع الجريمة ويناسبها ليكون أدعى للزجر والردع وهو القصاص.

 

أولاً: معنى القصاص

 

من معاني القصاص المساواة بإطلاق، والتتبع ومنه قص أثره بمعنى تتبعه؛ لأن المقتص يتبع جناية الجاني فيأخذ مثلها، يقال اقتص من غريمه واقتص السلطان فلاناً من فلان أي أخذ له قصاصه ويقال استقص فلان فلاناً طلب منه قصاصة(1). والقصاص أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل(2). والقصاص القود، وقد أقص الأمير فلاناً من فلان إذا اقتص له منه فجرحه مثل جرحه أو قتله(3). والقصاص مأخوذ من القص وهو القطع، ويقال اقص الحاكم فلاناً من قاتل وليه فاقتص منه، ويقال للمقراض مقص وقاصصت فلاناً من حقه إذا قطعت له من مالك مثل حقه، ووضع القصاص موضع المماثلة(4). وعليه فالقصاص المساواة بين الجريمة والعقوبة(5). وقد شرع القصاص في القرآن ابتداء مع أصول الدين وقواعده الثابتة، فهو كلية من كليات الشريعة التي حض الشارع على الحفاظ عليها من ناحية الوجود والعدم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }البقرة178 (1). {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة179 (2). والحديث هنا ينحصر في الجريمة التي يقدم عليها فاعلها عمداً(3)، قاصداً إزهاق روح المجني عليه. والآيات تشير إلى أن القصاص هو التكافؤ بأن تُهدر و تُزهق روح الجاني مقابل إزهاقه لروح المجني عليه، وأن يكون الاثنان في درجة ومنزلة واحدة. وعلى هذا فلا تفضيل لأحد على أحد في إجراء القصاص(4).


وليس ثمة خلاف في وجود حكم القصاص بين أهل التوراة كما هو في أهل هذه الأمة(1). قال تعالى{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ }المائدة45 (2). وقد جعل الشارع القصاص عقوبة أصلية في جريمة الاعتداء العمد على النفس والأطراف، إلا أنه شرع كذلك عقوبة بدلية ألا وهي العفو كنوع من التخفيف والترغيب في الارتقاء بالمسلم إلى مصاف العافين عن الناس. قال تعالى  { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ }البقرة178 (3) . وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله: "كان على بني إسرائيل القصاص أو العفو وليس بينهم دية في نفس ولا جرح فخفف الله عن أمة محمد بالدية .."(4).

 

ثانياً: فلسفة القصاص في الإسلام

 

ينبني القصاص في التشريع الإسلامي على تحقيق العدالة والمساواة. فالمراد بالقصاص في مختلف النصوص، قتل من قََتَلَ كائناً من كان. وفي ذلك رد على كل الأمم والطوائف التي لم تجعل العدالة والمساواة أساساً للقصاص. فقد كانت العرب قبل الإسلام تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة افتخاراً واستظهاراً بالجاه والمقدرة، وكان ذلك عرفاً سارياً بين العديد من القبائل العربية التي رأت في ذلك لوناً من السلطة وإظهار القوة والمنعة. وهنا جاء الإسلام ليغير تلك الأعراف والملابسات، فأمر الله سبحانه بالعدل والمساواة فمن قتل يُقتل ويؤاخذ بجريمته وحده. وعلى هذا الأساس قتل عمر -رضي الله عنه- سبعة برجل واحد من صنعاء وقال قولته المشهورة: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعاً(1). وهو في هذا -رضي الله عنه- منّفذ لمفهوم القصاص في الشريعة الإسلامية المبني على العدالة والمساواة. وحديث الرسول شاهد على ذلك المفهوم الأصيل، حيث يقول: "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار"(2).

 

الخاتمة

 

استهدفت هذه الدراسة محاولة الكشف عن أثر العرف والظرفية الاجتماعية في فهم المجتهد للنصوص الشرعية المتعلقة بقضية قصاص المرأة وديتها. فقد أوضحت الدراسة الأثر المهم الذي تلعبه الأعراف والظروف الاجتماعية في تكوين تصور معين لدى المجتهد حال تناوله النصوص المختلفة. وتأثر المجتهد بموروثه الاجتماعي وأعراف بيئته أمر ملازم لعملية تأويل النصوص، فالفقه لا يكون فقهاً إلا إذا أدرك المجتهد طبيعة الواقع المعاش وملابساته، وراعى أعرافه ووقف على عاداته. بيد أن ذلك كله لا ينبغي له أن ينازل النصوص وإطلاقيتها المفارقة لكل الأعراف وتقلباتها الحاكمة عليها والمهيمنة على تصويبها.  فالتأويلات والأفهام البشرية لأي نص حصيلة ثلاثة عناصر متضايفة، النص ذاته، الموروث الفقهي لقارئ النص، المجتمع بظروفه المتقلبة المتغيرة. فلا ينبغي أن تخرج تلك التأويلات في فهم النصوص عن كونها جهداً بشرياً محكوماً بنسبية الزمان والمكان والأوضاع الاجتماعية المقارنة له. وعلى هذا ينبغي التمييز والتفرقة بين الاجتهاد البشري النسبي المحكوم بظرفيته وبيئته من جهة، وبين النص الثابت المفارق للظرفية الاجتماعية والبيئة.