سورة الأحقاف
تنزيل القرآن، وعبادة الأوثان من دون الله
شبه المشركين حول الوحي والنبوة والقرآن
شبهة أخرى للمشركين، والاستقامة على شرع الله
وصية الله لعباده بر الوالدين
حال الإنسان العاق لوالديه
قصة هود عليه السلام مع قومه
إيمان الجن بالقرآن
الأدلة على قدرته تعالى ووحدانيته
بَين يَدَي السُّورَة
* هذه السورة مكية وأهدافها هو أهداف السور المكية نفسها، العقيدة في أصولها الكبرى "الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء" ومحور السورة الكريمة يدور حول "الرسالة والرسول" لإِثبات صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق القرآن.
* تحدثت السورة في البدء عن القرآن العظيم المنزل من عند الله بالحق، ثم تناولت الأوثان التي عبدها المشركون وزعموا أنها آلهة مع الله تشفع لهم عنده، فبيَّنت ضلالهم وخطأهم في عبادة ما لا يسمع ولا ينفع، ثم تحدثت عن شبهة المشركين حول القرآن، فردَّت على ذلك بالحجة الدامغة، والبرهان الناصع.
* ثم تناولت نموذجين من نماذج البشرية في هدايتها وضلالها، فذكرت نموذج الولد الصالح، المستقيم في فطرته، البارّ بوالديه، الذي كلما زادت سنه وتقدم في العمر ازداد تُقىً وصلاحاً وإِحساناً لوالديه .. ونموذج الولد الشقي، المنحرف عن الفطرة، العاقِّ لوالديه، الذي يهزأ ويسخر من الإِيمان والبعث والنشور ومآل كل منهما.
* ثم تحدثت السورة عن قصة "هود" عليه السلام مع قومه الطاغين "عاد" الذين طغوا في البلاد، واغتروا بما كانوا عليه من القوة والتجبر، وما كان من نتيجة طغيانهم حيث أهلكهم الله بالريح العقيم، تحذيراً لكفار قريش في طغيانهم واستكبارهم على أوامر الله وتكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم.
* وختمت السورة الكريمة بقصة النفر من الجنِّ الذين استمعوا إلى القرآن وآمنوا به ثم رجعوا منذرين إلى قومهم يدعونهم إِلى الإِيمان، تذكيراً للمعاندين من الإِنس بسبق الجن لهم إلى الإِسلام.
التسميَــة:
سميت "سورة الأحقاف" لأنها مساكن عاد الذين أهلكهم الله بطغيانهم وتجبرهم، وكانت مساكنهم بالأحقاف من أرض اليمن {واذكر أخا عادٍ إِذا أنذر قومه بالأحقاف ..} الآية.
{حم(1)تنزيلُ الكتابِ من اللهِ العزيزِ الحكيمِ(2)ما خلقْنا السَّماواتِ والأرضَ وما بيْنهُما إلا بالحقِّ وأجلٍ مُسمَّى والذين كفروا عمَّا أُنْذِروا مُعْرِضون(3) قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أمْ لهم شركٌ في السَّماواتِ ائتوني بكتابٍ من قبل هذا أوْ أثارةٍ منْ علمٍ إِن كنتم صادقين (4) ومنْ أضلُّ ممَّن يدعُوا منْ دُون اللهِ من لا يسْتجيبُ لهُ إلى يوم القيامة وهم عنْ دعائهم غافلون(5)وإِذا حُشر الناسُ كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين(6) }
{حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن وأنه منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية {تنزيلُ الكتابِ من اللهِ العزيزِ الحكيمِ} أي هذا الكتاب المجيد منزَّل من عند الإِله العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {ما خلقْنا السَّماواتِ والأرضَ وما بيْنهُما إلا بالحقِّ} أي ما خلقنا السماواتِ والأرض وما بينهما من المخلوقات عبثاً، وإِنما خلقناهما خلقاً متلبساً بالحكمة، لندل على وحدانيتنا وكمال قدرتنا {وأجلٍ مُسمَّى} أي وإِلى زمنٍ معيَّن هو زمن فنائهما يوم القيامة {يوم تبدَّل الأرضُ غير الأرضِ والسماواتُ وبرزوا للهِ الواحد القهار} {والذين كفروا عمَّا أُنْذِروا مُعْرِضون} أي وهؤلاء الكفار معرضون عما خُوّفوه من العذاب ومن أهوال الآخرة، لا يتفكرون فيه ولا يستعدون له .. ثم لما بيَّن وجود الإِله العزيز الحكيم ردَّ على عبدة الأصنام فقال {قل أرأيتم ما تدعون من دون الله} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أخبروني عن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، وتزعمون أنها آلهة {أروني ماذا خلقوا من الأرض}؟ أي أرشدوني وأخبروني أيَّ شيءٍ خلقوا من أجزاء الأرض، وممَّا على سطحها من إِنسانٍ أو حيوان؟ {أمْ لهم شركٌ في السَّماواتِ}؟ أي أمْ لهم مشاركة ونصيب مع الله في خلق السماوات؟ {ائتوني بكتابٍ من قبل هذا} أي هاتوا كتاباً من الكتب المنزلة من عند الله قبل هذا القرآن يأمركم بعبادة هذه الأصنام؟ وهو أمر تعجيز لأنهم ليس لهم كتابٌ يدل على الإِشراك بالله، بل الكتب كلُّها ناطقة بالتوحيد {أوْ أثارة منْ علمٍ} أي أو بقية من علمٍ من علوم الأولين شاهدة بذلك {إِن كنتم صادقين} أي إِن كنتم صادقين في دعواكم أنها شركاء مع الله، قال أبو حيّان: طلب منهم أن يأتوا بكتابٍ يشهد بصحة ما هم عليه من عبادة غير الله، أو بقيةٍ من علوم الأولين، والغرضُ توبيخهم لأن كل كتب الله المنزَّلة ناطقة بالتوحيد وإِبطال الشرك، فليس لهم مستند من نقل أو عقل .. ثم أخبر تعالى عن ضلالة المشركين فقال {ومنْ أضلُّ ممَّن يدعُوا منْ دُون اللهِ من لا يسْتجيبُ لهُ إلى يوم القيامة}؟ أي لا أحد أضلُّ وأجهل ممن يعبد أصناماً لا تسمع دعاء الداعين، ولا تعلم حاجاتِ المحتاجين، ولا تستجيب لمن ناداها أبداً لأنها جمادات لا تسمع ولا تعقل {وهم عنْ دعائهم غافلون} أي وهم لا يسمعون ولا يفهمون دعاء العابدين، وفيه تهكم بها وبعبدتها، وإِنما ذكر الأصنام بضمير العقلاء، لأنهم لما عبدوها ونزلوها منزلة من يضر وينفع، صحَّ أن توصف بعدم الاستجابة وبعدم السمع والنفع، مجاراة لزعم الكفار {وإِذا حُشر الناسُ كانوا لهم أعداءً} أي وإِذا جمع الناس للحساب يوم القيامة كانت الأصنام أعداءً لعابديها يضرونهم ولا ينفعونهم {وكانوا بعبادتهم كافرين} أي وتتبرأ الأصنام من الذين عبدوها.قال المفسرون: إن الله تعالى يحيي الأصنام يوم القيامة فتتبرأ من عابديها وتقول {تبرأنا إليكَ ما كانوا إِيَّانا يعبدون} وهذه الآية كقوله تعالى {كلاَّ سيكفُرون بعبادتهم ويكونُونَ عليهم ضِدّاً} واللهُ على كل شيء قدير.
{وإِذا تُتْلى عليهم ءاياتنا بيِّناتٍ قال الذين كفروا للحقِّ لما جاءهم هذا سحرٌ مبين(7) أم يقولون افتراه قلْ إِن افتريتُه فلا تملكونَ لي من الله شيئاً هو أعلمُ بما تُفيضون فيه كفى به شهيداً بيني وبينكم وهو الغفور الرَّحيم(8) قلْ ما كنتُ بِدعاً من الرُّسُلِ وما أُدري ما يُفعل بي ولا بكم إن أتّبع إلا ما يُوحى إِليَّ وما أنا إِلا نذيرٌ مبينٌ(9)قل أرأيتم إِن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهدٌ من بني إِسرائيل على مثله فآمنَ واستكبرتم إنَّ اللهَ لا يَهْدي القوم الظالمين(10)}.
سبب النزول:
نزول الآية (10):
{قل أرأيتم ..}: أخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر اليهود: أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يَحُطُّ الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه (بمعنى أنه يكون سبباً لهدايتهم، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد، ثم انصرف، فإذا رجل من خَلْفه، فقال: كما أنت يا محمد، فأقبل، فقال: أي رجل تعلموني يا معشر اليهود؟
قالوا: والله ما نعلم فينا رجلاً كان أعلم بكتاب الله، ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال: فإني أشهد أنه النبي الذي تجدون في التوراة، قالوا: كذبت، ثم ردوا عليه، وقالوا فيه شراً، فأنزل الله: {قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به ..} الآية.
وأخرج الشيخان (البخاري ومسلم) عن سعد بن أبي وقاص قال : في عبدالله بن سَلاَم نزلت، {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله}.
{وإِذا تُتْلى عليهم ءاياتنا بيِّناتٍ} أي وإِذا قرئت عليهم ءايات القرآن واضحات ظاهرات أنها من كلام الله {قال الذين كفروا للحقِّ لما جاءهم} أي قال الكافرون عن القرآن الحق لما جاءهم من عند الله {هذا سحرٌ مبين} أي هذا سحرٌ لا شبهة فيه ظاهر كونه سحراً، وإِنما وضع الظاهر {الذين كفروا} موضع الضمير تسجيلاً عليهم بكمال الكفر والضلالة، قال في البحر: وفي قوله {لمَّا جاءهم} تنبيهٌ على أنهم لم يتأملوا ما يُتلى عليهم، بل بادروا أول سماعه إلى نسبته إلى السحر عناداً وظلماً، ووصفوه بأنه {مبينٌ} أي ظاهر أنه سحر لا شبهة فيه {أم يقولون افتراه} أي أيقولون اختلق محمد هذا القرآن وافتراه من تلقاء نفسه؟ وهو إِنكار توبيخي {قلْ إِن افتريتُه فلا تملكونَ لي من الله شيئاً} أي قل إن افتريتُه - على سبيل الفرض - فالله حسبي في ذلك وهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه، ولا تقدرون أنتم على أن تردُّوا عني عذاب الله، فكيف أفتريه من أجلكم وأتعرض لعقابه؟ {هو أعلمُ بما تُفيضون فيه} أي هو جل وعلا أعلمُ بما تخوضون في القرآن وتقدحون به من قولكم هو شعر، هو سحر، هو افتراء، وغير ذلك من وجوه الطعن {كفى به شهيداً بيني وبينكم} أي كفى أن يكون تعالى شاهداً بيني وبينكم، يشهد لي بالصدق والتبليغ، ويشهد عليكم بالجحود والتكذيب {وهو الغفور الرحيم} أي وهو الغفور لمن تاب، الرحيم بعباده المؤمنين، قال أبو حيان: وفيه وعدٌ لهم بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر، وإِشعارٌ بحلمه تعالى عليهم إِذْ لم يعاجلهم بالعقوبة {قلْ ما كنتُ بِدعاً من الرُسل} أي لست أول رسول طرق العالم، ولا جئت بأمرٍ لم يجئ به أحدٌ قبلي، بل جئت بما جاء به ناسٌ كثيرون قبلي، فلأيّ شيءٍ تنكرون ذلك عليَّ؟ والبدْعُ والبديعُ من الأشياء هو الذي لم يُر مثله، قال ابن كثير: أي ما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إِليكم، فقد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم {وما أُدري ما يُفعل بي ولا بكم} أي ولا أدري بما يقضي اللهُ عليَّ وعليكم، فإِن قدر الله مغيَّب {إن أتّبع إلا ما يُوحى إِليَّ} أي لا أتبع إلا ماينزله اللهُ عليَّ من الوحي، ولا أبتدع شيئاً من عندي {وما أنا إِلا نذيرٌ مبين} أي وما أنا إلا رسولٌ منذرٌ لكم من عذاب الله، بيّن الإِنذار بالشواهد الظاهرة، والمعجزات الباهرة {قل أرأيتم إِن كان من عند الله وكفرتم به} أي قل يا محمد: أخبروني يا معشر المشركين إن كان هذا القرآن كلام الله حقاً وقد كذبتم به وجحدتموه، وجوابه محذوف تقديره: كيف يكون حالكم؟ {وشهد شاهدٌ من بني إِسرائيل على مثله فآمنَ واستكبرتم} أي وقد شهد رجل من علماء بني إِسرائيل على صدق القرآن، فآمن به واستكبرتم أنتم عن الإِيمان، كيف يكون حالكم، ألستم أضل الناس وأظلم الناس؟ قال الزمخشري: وجوابُ الشرط محذوف تقديره: إِن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ودلَّ على هذا المحذوف قوله تعالى {إنَّ اللهَ لا يَهْدي القوم الظالمين} أي لا يوفق للخير والإِيمان من كان فاجراً ظالماً، قال المفسرون: والشاهدُ من بني إِسرائيل هو "عبدالله بن سلام" وذلك حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاء إليه ابن سلام ليمتحنه، فلما نظر إلى وجهه علم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر، فقال له: إني سائلك عن ثلاثٍ لا يعلمهنَّ إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أُمه؟ فلما أجابه صلى الله عليه وسلم قال: أشهد أنك رسول الله حقاً .. الخ.
{وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيراً ما سبقونا إِليه وإِذْ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إِفك قديم(11)ومنْ قبله كتابُ موسى إِماماً ورحمةً وهذا كتابٌ مُّصدِّقٌ لساناً عربِيّاً لِّيُنذِر الذين ظلموا وبُشرى للمُحسنين(12)إن الذين قالوا ربُّنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون(13)أُولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون(14)}.
نزول الآية (11):
{وقال الذين كفروا}: أخرج الطبراني عن قتادة قال: قال ناس من المشركين: نحن أعزّ، ونحن ونحن، فلو كان خيراً ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل {وقال الذين كفروا ..}.
وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب أَمَةٌ أسلمتْ قبلَه يقال لها (زِنِّين) أو (زِنِّيرة) فكان عمر يضربها على إسلامها حتى يفتر، وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيراً ما سبقتنا إليه زنين، فأنزل الله في شأنها: {وقال الذين كفروا للذين ءامنوا: لو كان خيراً} الآية.
وقال عروة بن الزبير: إن زِنِّيرة - رومية كان أبو جهل يعذبها - أسلمت، فأصيب بصرها، فقالوا لها: أصابك اللاتُ والعُزَّى، فرد الله عليها بصرها، فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا عليه زِنّيرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم ردَّ تعالى على شبهةٍ أُخرى من شبهة المشركين فقال {وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيراً ما سبقونا إِليه} أي وقال كفار مكة في حق المؤمنين: لو كان هذا القرآن والدين خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الفقراء الضعفاء!! وقال ابن كثير: يعنون "بلالاً" و "عماراً" و "صهيباً" و "خباباً" وأشباههم من المستضعَفين والعبيد والإِماء ممن أسلم وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم {وإِذْ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إِفك قديم} أي ولمّا لم يهتدوا بالقرآن مع وضوح إِعجازه، قالوا هذا كذبٌ قديم مأثور عن الأقدمين، أتى به محمد ونسبه إلى الله تعالى {ومنْ قبله كتابُ موسى إِماماً ورحمةً} أي ومن قبل القرآن التوراة التي أنزلها الله على موسى قدوةً يؤتم بها في دين الله وشرائعه كما يؤتم بالإِمام، ورحمة لمن ءامن بها وعمل بما فيها، قال الإِمام الفخر: ووجه تعلق الآية بما قبلها أن المشركين طعنوا في صحة القرآن، وقالوا لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الضعفاء الصعاليك، فردَّ الله عليهم بأنكم لا تنازعون أن الله أنزل التوراة على موسى، وجعل هذا الكتاب - التوراة - إِماماً يقتدى به، ثم إِن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فإِذا سلمتم كونها من عند الله، فاقبلوا حكمها بأن محمد صلى الله عليه وسلم رسولٌ حقاً من عند الله {وهذا كتابٌ مصدِّقٌ لساناً عربياً} أي وهذا القرآن كتاب عظيم الشأن، مصدِّقٌ للكتب قبله بلسانٍ عربي فصيح، فكيف ينكرونه وهو أفصح بياناً، وأظهر برهاناً، وأبلغ إِعجازاً من التوراة؟ {ليُنذِر الذين ظلموا وبُشرى للمُحسنين} أي ليخوِّف كفار مكة الظالمين من عذاب الجحيم، ويبشر المؤمنين المحسنين بجنات النعيم .. ولما بيَّن تعالى أحوال المشركين المكذبين بالقرآن، أردفه بذكر أحوال المؤمنين المستقيمين على شريعة الله فقال {إن الذين قالوا ربُّنا الله ثم استقاموا} أي جمعوا بين الإِيمان والتوحيد والاستقامة على شريعة الله {فلا خوفٌ عليهم} أي فلا يلحقهم مكروهٌ في الآخرة يخافون منه {ولا هم يحزنون} أي ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا في الدنيا {أُولئك أصحاب الجنة خالدين فيها} أي أولئك المؤمنون المستقيمون في دينهم، هم أهل الجنة ماكثين فيها أبداً {جزاءً بما كانوا يعملون} أي نالوا ذلك النعيم جزاءً لهم على أعمالهم الصالحة.
{ووصيَّنا الإِنسان بِوالديه إِحْساناً حملتْهُ أُمُّهُ كُرهاً ووضعته كُرهاً وحمله وفِصالُه ثلاثون شهراً حتَّى إِذا بلغَ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربِّ أوزعني أن أشكرَ نعمتك الَّتي أنعمتَ عليَّ وعلى والديَّ وأَنْ أعملَ صالحاً ترضاه وأصلحْ لي في ذرِّيَّتي إني تُبتُ إليكَ وإِني من المسلمين(15) أُولئك الذين نتقبلُ عنهم أحسنَ ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعدَ الصِّدقِ الذي كانوا يُوعدون(16)}.
نزول الآية (15):
{حتى إذا بلغ أشده}: روى الواحدي عن ابن عباس قال : أنزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان عشرة سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في التجارة، فنزلوا منزلاً فيه سِدْرة (شجرة السدر) فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: هذا والله نبيّ، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى بن مريم إلا محمد نبي الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضوره، فلما نبّئ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن أربعين سنة، وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة أسلم وصدّق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ أربعين سنة قال: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ}.
وقال السدّي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، أخرج مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه عن سعد رضي الله عنه قال: قالت أم سعد لسعد: أليس الله قد أمر بطاعة الوالدين، فلا آكل طعاماً، ولا أشرب شراباً، حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية: {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً}.
وقال الحسن البصري: "هي مرسلة نزلت على العموم". وهذا هو الأَولى، لأن حمل اللفظ على العموم منذ بداية نزول الوحي أوقع وأفيد وأشمل، وإن كانت العبرة دائماً لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
{ووصيَّنا الإِنسان بِوالديه إِحْساناً} لمَّا كان رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما حثَّ تعالى العباد عليه والمعنى أمرنا الإِنسان أمراً جازماً مؤكداً بالإِحسان إلى الوالدين، ثم بيَّن السبب فقال {حملتْهُ أُمُّهُ كُرهاً ووضعته كُرهاً} أي حملته بكرهٍ ومشقة ووضعته بكرهٍ ومشقة {وحمله وفِصالُه ثلاثون شهراً} أي ومدة حمله ورضاعه عامان ونصف، فهي لا تزال تعاني التعب والمشقة طيلة هذه المدة، قال ابن كثير: أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً من وحَم، وغثيان، وثقل، وكرب إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، ووضعته بمشقة أيضاً من الطَّلق وشدته، وقد استدل العلماء بهذه الآية مع التي في لقمان {وفصاله في عامين} على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قويٌ صحيح {حتَّى إِذا بلغَ أشده} أي حتى إِذا عاش هذا الطفل وبلغ كمال قوته وعقله {وبلغ أربعين سنة} أي واستمر في الشباب والقوة حتى بلغ أربعين سنة وهو نهاية اكتمال العقل والرشد {قال ربِّ أوزعني أن أشكرَ نعمتك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والديَّ} أي قال ربِّ ألهمني شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ وعلى والديَّ حتى ربياني صغيراً {وأَنْ أعملَ صالحاً ترضاه} أي ووفقني لكي أعمل عملاً صالحاً يرضيك عني {وأصلحْ لي في ذريتي} أي اجعل ذريتي ونسلي صالحين، قال شيخ زاده: طلب هذا الداعي من الله ثلاثة أشياء: الأول: أن يوفقه الله للشكر على النعمة، والثاني: أن يوفقه للإِتيان بالطاعة المرضية عند الله، والثالث: أن يصلح له في ذريته، وهذه كمال السعادة البشرية {إني تُبتُ إليكَ وإِني من المسلمين} أي إِني يا رب تبت إليك من جميع الذنوب، وإِني من المستمسكين بالإِسلام، قال ابن كثير: وفي الآية إِرشادٌ لمن بلغ الأربعين أن يجدِّد التوبة والإِنابة إلى الله عز وجل ويعزم عليها {أُولئك الذين نتقبلُ عنهم أحسنَ ما عملوا} أي أولئك الموصوفون بما ذكر نتقبل منهم طاعاتهم ونجازيهم على أعمالهم بأفضلها {ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة} أي ونصفح عن خطيئاتهم وزلاتهم، في جملة أصحاب الجنة الذين نكرمهم بالعفو والغفران {وعدَ الصِّدقِ الذي كانوا يُوعدون} أي بذلك الوعد الصادق الذي وعدناهم به على ألسنة الرسل، بأن نتقبل من محسنهم ونتجاوز عن مسيئهم.
{والذي قال لوالديه أُفٍ لكما أتعِدانني أن أُخرج وقد خلتِ القرونُ من قبلي وهما يستغيثان اللهِ ويْلك ءامن إنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ فيقولُ ما هذا إِلا أساطيرُ الأولين(17)أُولئك الذين حقَّ عليهم القول في أُممٍ قد خلَتْ من قبلهم من الجنِّ والإِنس إنهم كانوا خاسرين(18)ولكلٍ درجاتٌ ممَّا عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يُظلمون(19)ويومَ يُعرضُ الذين كفروا على النَّارِ أذْهبتُم طيباتِكُم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تُجزون عذَاب الهُون بِما كنتُم تسْتكبرون في الأرضِ بِغير الحقِّ وبما كنتم تفْسُقون(20)}.
نزول الآية (17):
{والذي قال لوالديه}: أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: نزلت هذه الآية: {والذي قال لوالديه : أُفٍّ لكما} في عبد الرحمن بن أبي بكر قال لأبويه، وكانا قد أسلما، وأبى هو، فكانا يأمرانه بالإسلام، فيرد عليهما، ويكذبهما ويقول: فأين فلان وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات، ثم أسلم بعد، فحسن إسلامه، فنزلت توبته في هذه الآية: {ولكلٍّ درجات مما عملوا} الآية.
أخرج البخاري من طريق يوسف بن ماهان قال: قال مروان بن الْحَكَم في عبد الرحمن بن أبي بكر: إن هذا الذي أنزل الله فيه: {والذي قال لأبويه: أُفٍّ لكما} فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري.
وقال الحافظ ابن حجر: ونفي عائشة أقوى، وأولى بالقبول.
ولما مثَّل تعالى لحال الإِنسان البار بوالديه وما آل إِليه حاله من الخير والسعادة، مثَّل لحال الإِنسان العاقِّ لوالديه، وما يؤول إِليه أمره من الشقاوة والتعاسة فقال {والذي قال لوالديه أُفٍ لكما} أي وأمَّا الولد الفاجر الذي يقول لوالديه إِذا دعواه إِلى الإِيمان أفٍ لكما أي قبحاً لكما على هذه الدعوة {أتعِدانني أن أُخرج وقد خلتِ القرونُ من قبلي}؟ أي أتعدانني أن أُبعث بعد الموت وقد مضت قرونٌ من الناس قبلي ولم يُبعث منهم أحد؟ {وهما يستغيثان اللهِ ويْلك آمن} أي وأبواه يسألان الله أن يغيثه ويهديه للإِسلام قائلين له: ويْلك آمنْ بالله وصدِّق بالبعث والنشور وإِلاّ هلكت {إنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ} أي وعدُ الله صدقٌ لا خُلف فيه {فيقولُ ما هذا إِلا أساطيرُ الأولين} أي فيقول ذلك الشقي: ما هذا الذي تقولان من أمر البعث إلاّ خرافات وأباطيل سطَّرها الأولون في الكتب مما لا أصل له قال تعالى {أُولئك الذين حقَّ عليهم القول} أي أولئك المجرمون هم الذين حقَّ عليهم قول الله بأنهم أهل النار، قال القرطبي: أي وجب عليهم العذاب وهي كلمة الله كما في الحديث (هؤلاء في النار ولا أبالي) {في أُممٍ قد خلَتْ من قبلهم من الجنِّ والإِنس} أي في جملة أمم من أصحاب النار قد مضت قبلهم من الكفرة الفجار من الجن والإِنس {إنهم كانوا خاسرين} أي كانوا كافرين لذلك ضاع سعيهم وخسروا آخرتهم، وهو تعليل لدخولهم جهنم، قال الإِمام فخر الدين الرازي: قال بعضهم: إِن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصّديق قبل إِسلامه، والصحيحُ أنه لا يراد بالآية شخص معيَّن، بل المراد منها كل من كان موصوفاً بهذه الصفة، وهو كل من دعاه أبواه إِلى الدين الحقِّ فأباه وأنكره، ويدل عليه أن الله تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه {أفٍ لكما} بأنه من الذين حقَّ عليهم القول بالعذاب، ولا شك أن عبد الرحمن آمن وحسن إِسلامه وكان من سادات المسلمين فبطل حمل الآية عليه {ولكلٍ درجاتٌ ممَّا عملوا} أي لكلٍ من المؤمنين والكافرين مراتب ومنازل بحسب أعمالهم، فمراتب المؤمنين في الجنة عالية، ومراتب الكافرين في جهنم سافلة {وليوفيهم أعمالهم وهم لا يُظلمون} أي وليعطيهم جزاء أعمالهم وافية كاملة، المؤمنون بحسب الدرجات، والكافرون بحسب الدركات، من غير نقصان بالثواب، ولا زيادة في العقاب.
{ويومَ يُعرضُ الذين كفروا على النَّارِ} أي وذكّرهم يا محمد يوم يُكشف الغطاء عن نار جهنم، وتبرز للكافرين فيقرَّبون منها وينظرون إِليها {أذْهبتُم طيباتِكُم في حياتكم الدنيا} في الكلام حذف أي ويقال لهم تقريعاً وتوبيخاً أذهبتم طيباتكم أي لقد نلتم وأصبتم لذائذ الدنيا وشهواتها فلم يبق لكم نصيب اليوم في الآخرة، قال أبو حيّان: والطيبات هنا المستلذات من المآكل والمشارب، والملابس والمفارش، والمراكب والمواطئ، وغير ذلك مما يتنعَّم به أهل الرفاهية {واستمتعتم بها} أي وتمتعتم بتلك اللذائذ والطيبات في الدنيا، قال المفسرون: المراد بالآية إِنكم لم تؤمنوا حتى تنالوا نعيم الآخرة، بل اشتغلتم بشهوات الدنيا ولذائذها عن الإِيمان والطاعة، وأفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي، وآثرتم الفاني على الباقي، فلم يبق لكم بعد ذلك شيء من النعيم، ولهذا قال بعده {فاليوم تُجزون عذَاب الهُون} أي ففي هذا اليوم - يوم الجزاء - تنالون عذاب الذُلِّ والهَوان {بِما كنتُم تسْتكبرون في الأرضِ بِغير الحقِّ} أي بسبب استكباركم في الدنيا عن الإِيمان وعن الطاعة {وبما كنتم تفْسُقون} أي وبسبب فسقكم وخروجكم عن طاعة الله، وارتكاب الفجور والآثام، قال الإِمام الفخر الرازي: وهذه الآية لا تدل على المنع من التنعم، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإِنما وبَّخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولا يؤدي شكر المنعم بطاعته والإِيمان به، وأما المؤمن فإِنه يؤدي بإِيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ودليله {قُل منْ حرَّم زينةَ الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} نعم لا يُنكر أن الاحتراز عن التنعم أولى، وعليه يُحمل قول عمر "لو شئتُ لكنتُ أطيبكم طعاماً، وأحسنكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي لحياتي الآخرة"، وقال في التسهيل: الآية في الكفار بدليل قوله تعالى {ويوم يعرض الذين كفروا} وهي مع ذلك واعظة لأهل التقوى من المؤمنين، لذلك قال عمر لجابر بن عبد الله - وقد رآه اشترى لحماً - أو كلما اشتهى أحدكم شيئاً جعله في بطنه أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ممن قال الله فيهم {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا}!!
{واذكر أخَا عادٍ إذْ أنْذر قومَهُ بالأَحْقافِ وقدْ خلَتِ النُّذُر منْ بينِ يديه ومن خلفه ألاَّ تعبدوا إلاَّ الله إني أخافُ عليكم عذاب يوْمٍ عظيمٍ(21)قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأْتنا بما تعدنا إِن كنت من الصادقين(22)قالَ إِنّما العِلمُ عِندَ اللهِ وأُبلِّغُكُمْ ما أُرسِلتُ به ولكنّي أراكُم قوْماً تجْهلون(23)فما رَأَوْهُ عارضاً مُستقبل أوْدِيتهم قالوا هذا عارضٌ ممطُرنا بل هو ما استعجلتم به ريحٌ فيها عذابٌ أليمٌ(24)تُدَمِّرُ كلَّ شيءٍ بأمر ربِّها فأَصبحوا لا يُرى إِلاّ مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين(25)ولقد مكنَّاهم فيما إِنْ مَّكَّنَّاكُم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أَغْنى عنهم سمْعُهم ولا أبصارهُم ولا أفئدتُهم منْ شيءٍ إذْ كانوا يجحدون بآياتِ اللهِ وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون(26)ولقد أهلكنا ما حولكم من القُرى وصرَّفنا الآياتِ لعلهم يرجعون(27)فلوْلا نصَرَهُم الَّذين أتَّخذوا من دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بل ضلُّوا عنهم وذلك إِفْكهُم وما كانوا يفترون(28)} .
{واذكر أخَا عادٍ} أي اذكر يا محمد لهؤلاء المشركين قصة نبي الله هود عليه السلام مع قومه عادٍ ليعتبروا بها {إذْ أنْذر قومَهُ بالأَحْقافِ} أي حين حذَّر قومه من عذاب الله إِن لم يؤمنوا وهم مقيمون بالأحقاف - وهي تلالٌ عظيمة من الرمل في بلاد اليمن - قال ابن كثير: الأحقاف جمع حِقْف وهو الجبل من الرمل، قال قتادة : كانوا حياً باليمن أهل رملٍ مشرفين على البحر بأرضٍ يُقال لها: الشَّحْر {وقدْ خلَتِ النُّذُر منْ بينِ يديه ومن خلفه} أي وقد مضت الرسلُ بالإِنذار من قبل هودٍ ومن بعده، والجملة اعتراضية وهي إِخبار من الله تعالى أنه قد بعث رسلاً متقدمين قبل هودٍ وبعده {ألاَّ تعبدوا إلاَّ الله} أي حذَّرهم هود عليه السلام قائلاً لهم: لا تعبدوا إلا الله {إني أخافُ عليكم عذاب يوْمٍ عظيمٍ} أي إِني أخاف عليكم إِن عبدتم غير الله عذاب يومٍ هائلٍ وهو يوم القيامة {قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا} أي قالوا جواباً لإِنذاره: أجئتنا يا هود لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ وهو استفهام، يراد منه التسفيه والتجهيل لما دعاهم إِليه {فأْتنا بما تعدنا إِن كنت من الصادقين} أي فأتنا بالعذاب الذي وعدتنا به إِن كنت صادقاً فيما تقول، قال ابن كثير: استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعاداً منهم لوقوعه {قالَ إِنّما العِلمُ عِندَ اللهِ} أي قال لهم هود: ليس علم وقت العذاب عندي إِنما علمه عند الله {وأُبلِّغُكُمْ ما أُرسِلتُ به} أي وإِنما أنا مبلّغٌ ما أرسلني به الله إِليكم {ولكنّي أراكُم قوْماً تجْهلون} أي ولكنني أجدكم قوماً جهلة في سؤالكم استعجال العذاب {فما رَأَوْهُ عارضاً مُستقبل أوْدِيتهم} أي فلما رأوا السحاب معترضاً في أفق السماء متجهاً نحو أوديتهم استبشروا به {قالوا هذا عارضٌ ممطُرنا} أي وقالوا هذا السحاب يأتينا بالمطر، قال المفسرون: كانت عاد قد أبطأ عنهم المطر، وقُحطوا مدةً طويلةً من الزمن، فلما رأوا ذلك السحاب العارض ظنوا أنه مطر ففرحوا به واستبشروا وقالوا : هذا عارضٌ ممطرنا {بل هو ما استعجلتم به} أي قال لهم هود : ليس الأمر كما زعمتم أنه مطر، بل هو ما استعجلتم به من العذاب ثم فسَّره بقوله {ريحٌ فيها عذابٌ أليمٌ} أي هو ريحٌ عاصفة مدمّرة فيها عذابٌ فظيع مؤلم {تُدَمِّرُ كلَّ شيءٍ بأمر ربِّها} أي تُخَرِّب وتُهلك كل شيء أتت عليه من رجالٍ ومواشٍ وأموال، بأمره تعالى وإِذنه، قال ابن عباس: أول ما جاءت الريح على قوم عاد، كانت تأتي على الرجال والمواشي فترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء حتي يصبح الواحد منهم كالريشة، ثم تضربهم على الأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح والأبواب وصرعتهم، فهي التي قال الله فيها {تدّمر كل شيء بأمر ربها} أي تدمّر كل شيء مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها، والتدميرُ الهلاك، وفي الحديث عن عائشة قالت: كان صلى الله عليه وسلم إِذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف في وجهه، فقلت يا رسول الله: الناسُ إِذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إِذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية؟ فقال: يا عائشة ما يؤمننيأن يكون فيه عذاب؟ عُذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا{هذا عارضٌ ممطرنا} {فأَصبحوا لا يُرى إِلاّ مساكنهم} أي فأصبحوا هلكى لا تُرى إِلا مساكنهم، لأن الريح لم تبق منهم إِلا الآثار والديار الخاوية {كذلك نجزي القوم المجرمين} أي بمثل هذه العقوبة الشديدة نعاقب من كان عاصياً مجرماً، قال الرازي: والمقصود منه تخويف أهل مكة، ولهذا قال بعده{ولقد مكنَّاهم فيما إِنْ مكَّناكُم فيه} "إِنْ"نافية بمعنى "ما" أي ولقد مكَّنا عاداً في الذي لم نمكنكم فيه يا أهل مكة من القوة، والسَّعة، وطول الأعمار، وهو خطاب لكفار مكة على وجه التهديد {وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة} أي وأعطيناهم الأسماع والأبصار والقلوب، ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على الخالق المنعم {فما أَغْنى عنهم سمْعُهم ولا أبصارهُم ولا أفئدتُهم منْ شيءٍ} أي فما نفعتهم تلك الحواس أي نفع، ولا دفعت عنهم شيئاً من عذاب الله، قال الإِمام الفخر: المعنى أنّا فتحنا عليهم أبواب النعم: أعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل، وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في تأمل العبَر، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها، فلا جرم أنها لم تغن عنهم من عذاب الله شيئاً {إذْ كانوا يجحدون بآياتِ اللهِ} تعليلٌ لما سبق أي لأنهم كانوا يكفرون وينكرون ءايات الله المنزَّلة على رسله ويكذبون رسله {وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون} أي ونزل وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلون به بطريق الاستهزاء {ولقد أهلكنا ما حولكم من القُرى} تخويفٌ آخر لكفار مكة أي ولقد أهلكنا القرى المجاورة لكم يا أهل مكة والمحيطة بكم، كقرى عاد وثمود وسبأ وقوم لوط، والمراد بإِهلاك القرى إِهلاكُ أهلها {وصرَّفنا الآياتِ لعلهم يرجعون} أي وكررنا الحجج والدلالات، والمواعظ والبينات، أوضحناها وبيَّناها لهم لعلهم يرجعون عن كفرهم وضلالهم {فلوْلا نصَرَهُم الذين أتَّخذوا من دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً} أي فهلاَّ نصرتهم آلهتهم التي تقربوا بها إلى الله بزعمهم، وجعلوها شفعاءهم لتدفع عنهم العذاب؟ و "لولا" تحضيضية بمعنى هلاَّ ومعناها النفي أي لم تنصرهم آلهتهم ولم تدفع عنهم عذاب الله {بل ضلُّوا عنهم} أي غابوا عن نصرتهم وهم أحوج ما يكونون إليهم، فإِن الصديق وقت الضيق، قال أبو السعود: وفي الآية تهكمٌ بهم كأنَّ عدم نصرهم كان لغيبتهم {وذلك إِفْكهُم وما كانوا يفترون} أي وذلك الذي أصابهم هو كذبهم وافتراؤهم على الله، حيث زعموا أن الأصنام شركاء لله وشفعاء لهم عند الله.
{وإِذْ صرفْنا إِليكَ نفراً من الجنِّ يستمعون القرآن فلمَّا حضرُوه قالوا أَنْصِتوا فلمَّا قُضيَ ولَّوا إِلى قومهم مُنْذرين(29)قالُوا يا قومنا إِنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى مصدِّقاً لما بين يديه يهدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيم(30)يا قومنا أجيبوا داعيَ اللهِ وآمنوا به يغفرْ لكم مِّن ذنوبكم ويُجركم من عذابٍ أليمٍ(31)ومنْ لا يُجِب داعيَ اللهِ فليس بمعجزٍ في الأرض وليسَ له من دونه أولياء أُولئك في ضلالٍ مبين(32)}.
سبب نزول الآية (29):
{وإذ صرفنا}: أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال : إن الجن هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ القرآن ببطن نَخْلة، فلما سمعوه، قالوا : أنصتوا، وكانوا تسعة، أحدهم زَوْبَعة، فأنزل الله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا} الآية، إلى قوله: {في ضلال مبين}.
{وإِذْ صرفْنا إِليكَ نفراً من الجنِّ يستمعون القرآن} أي واذكر يا محمد حين وجهنا إِليك وبعثنا جماعةً من الجن ليستمعوا القرآن، قال البيضاوي: والنفر دون العشرة، روي أنهم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرآ في تهجده القرآن {فلمَّا حضرُوه قالوا أَنْصِتوا} أي فلما حضروا القرآن عند تلاوته قال بعضهم لبعضٍ: اسكتوا لاستماع القرآن، قال القرطبي: هذا توبيخٌ لمشركي قريش، أي إِن الجنَّ سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله، وأنتم معرضون مصرّون على الكفر {فلمَّا قُضيَ ولَّوا إِلى قومهم مُنْذرين} أي فلما فُرغَ من قراءة القرآن رجعوا إِلى قومهم مخوفين لهم من عذاب الله إِن لم يؤمنوا، قال الرازي: وذلك لا يكون إِلا بعد إِيمانهم، لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلاّ وقد ءامنوا {قالُوا يا قومنا إِنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى} أي سمعنا كتاباً رائعاً مجيداً منزَّلاً على رسولٍ من بعد موسى، قال ابن عباس: إِن الجنَّ لم تكن قد سمعت بأمر عيسى عليه السلام {مصدِّقاً لما بين يديه} أي مصدّقاً لما قبله من التوراة {يهدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيم} أي هذا القرآن يرشد إِلى الحقِّ المبين، وإِلى دين الله القويم {يا قومنا أجيبوا داعيَ اللهِ وآمنوا به} أي أجيبوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيما يدعوكم إليه من الإِيمان وصدِّقوا برسالته {يغفرْ لكم من ذنوبكم} أي يمحُ الله عنكم الذنوب والآثام {ويُجركم من عذابٍ أليمٍ} أي ويخلِصْكم وينجكم من عذاب شديد مؤلمٍ {ومنْ لا يُجِب داعيَ اللهِ فليس بمعجزٍ في الأرض} هذا ترهيبٌ بعد الترغيب أي ومن لم يؤمن بالله ويستجب لدعوة رسوله، فإِنه لا يفوت الله طلباً، ولا يعجزه هرباً {وليسَ له من دونه أولياء} أي وليس له أنصار يمنعونه من عذاب الله {أُولئك في ضلالٍ مبين} أي أولئك الذي لا يستجيبون لدعوة الله في خسرانٍ واضح، وإِلى هنا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن.
الأدلة على قدرته ووحدانيته
{أَوَلَمْ يرَوا أنَّ اللهَ الذي خلقَ السماواتِ والأرض ولم يعْيَ بخلقهنَّ بقادرٍ على أن يُحْيي الموتى بلى إِنه على كل شيء قدير(33)ويوم يُعرض الذين كفروا على النَّار أليس هذا بالحقِّ قالوا بلى وربّنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون(34)فاصبر كما صبر أُولوا العزم من الرسل ولا تستعجلْ لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار بلاغٌ فهل يُهلك إلا القوم الفاسقون(35)}.
ثم ذكر تعالى الأدلة على قدرته ووحدانيته فقال {أَوَلَمْ يرَوا أنَّ اللهَ الذي خلقَ السماواتِ والأرض} أي أولم يعلم هؤلاء الكفار المنكرون للبعث والنشور أن الله العظيم القدير الذي خلق السماواتِ والأرض ابتداءً من غير مثال سابق {ولم يعْيَ بخلقهنَّ} أي ولم يضعف ولم يتعب بخلقهنَّ {بقادرٍ على أن يُحْيي الموتى}؟ أي قادرٌ على أن يعيد الموتى بعد الفناء، ويحييهم بعد تمزق الأشلاء؟ {بلى إِنه على كل شيء قدير} أي بلى إِنه تعالى قادر لا يعجزه شيء، فكما خلقهم يعيدهم {ويوم يُعرض الذين كفروا على النَّار} أي واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين الأهوال والشدائد التي يرونها في الآخرة، وذكّرهم يوم يُعرضون على النار فيقال لهم {أليس هذا بالحقِّ}؟ أي أليس هذا العذاب الذي تذوقونه حقٌّ؟ {أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تبصرون} {قالوا بلى وربّنا} أي قالوا: بلى وعزة ربنا، أكَّدوا كلامهم بالقسم طمعاً في الخلاص، قال الفخر الرازي: والمقصود بالآية التهكمُ بهم، والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم: {وما نحن بمعذبين} {قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} أي فيقال لهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم {فاصبر كما صبر أُولوا العزم من الرسل} أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين كما صبر مشاهير الرسل الكرام وهم "نوح وإِبراهيم وموسى وعيسى" {ولا تستعجلْ لهم} أي ولا تدع على كفار قريش بتعجيل العذاب فإِنه نازل بهم لا محالة {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار} أي كأنهم حين يعاينون العذاب في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعةً واحدة من النهار، لما يشاهدون من شدة العذاب وطوله {بلاغٌ} أي هذا بلاغ وإِنذار {فهل يُهلك إلا القوم الفاسقون} أي لا يكون الهلاك والدمار إِلا للكافرين الخارجين عن طاعة الله عزّ وجلّ.