من أين تؤكل الكتف ؟
كان يحدث نفسه قائلاً: - الجميع يقولون بأنني لست من أهل البادية وإنني (حضري). لا أذهب إلى المناسبات. ولا أحرص على الزيارات إلا بدعوة. حتى الرحلات التي يخطط لها زملائي في العمل أكون آخر من يعلمها، لأن فكرة أنني لست اجتماعياً سادت بين الجميع.. هو في جلسته بالمصلحة التي يعمل بها يفكر في هذا الأمر كلما شرد ذهنه بعيداً عن مشاكل العمل، فجأة قطع صمته أحد الزملاء قائلاً : - محمد زميلنا طلب أجازة. توفت أمه بالأمس. يجب أن نذهب لتقدم التعازي له اليوم، نحن زملائه يجب أن نقف بجانبه.! الكل أبدى موافقته، غير أن صاحبنا شرد ثانية: - الجميع أرادوا الذهاب إلى زميلنا محمد، لمَ لا أذهب معهم؟! دائماً يقومون (بالواجب)، ما الذي يجبرني على المكوث؟! لماذا أتخلف عن الركب دائماً؟! بعد أيام قضاها في صراع مع نفسه يعاني بين مد مشاركة أصحابه وجزر انطوائية جُبل عليها ورضعها في حليب مجتمعه (الحضري) والذي جعله يشعر بالغربة، صراع في بحر من الأفكار كاد يحطم سفينة طباعه المتضاربة. أخيراً استطاع ذاك المد أن يجعله يتخذ قراراً هو الأول من نوعه، قرر أن يذهب مع زملائه إلى صديقهم محمد، حدثهم بهذا الأمر، تفاجأ الجميع.! غير أنهم صعقوا عندما قال: - علينا أن نشتري خروفا ونأخذه. لم يصدق الجميع، تهامس الأصدقاء من حوله: - ما الذي غيره؟! لم يترك لهم المجال ليتحدثوا عنه. طلب على الفور أن يقوموا بجمع ثمن الخروف، كان على كل منهم دفع ثلاثين ديناراً، وفي اليوم الثاني ذهبوا جميعاً إلى منزل محمد، هو كان أول الحاضرين. دخل (المربوعة) في ساعة مبكرة يرتدي ثوباً فضفاضاً بعد أن اعتذر لزوجته عن تناول الفطور حتى يتسنى له تناول (غداء) ساهم في إقامته، جلس في تلك المربوعة والابتسامة تملأ محياه، المكان خال تماماً والوقت يذهب رويدا رويداً، بعد فترة دخل رجال لم يرهم من قبل، تلاشت تلك الابتسامة وتقطب حاجباه، أناس يدخلون تلك المربوعة فرادى وجماعات، ينظر إليهم بكل اشمئزاز، هذا الرجل لم يره من قبل، وذاك يعرفه. لكنه لم يشترك معهم في ثمن الخروف، تغيرت ملامح وجهه. أخذ يحدث نفسه مؤنباً: - ما الذي ورطني في هذا العمل؟! آه لو أتيت بمفردي ووفرت هذه النقود واشتريت بها لحماً لأولادي لأكلنا منه أياماً.! نحن ندفع وغيرنا يأتي ويأكل؟ ليس من عادتنا أن نشتري الخراف بمئات الدينارات ونوزعها لمجرد موت أحدهم، ما الذي أتى بي إلى هذا المكان؟! أخذ ينظر في زوايا المربوعة والتي ملئت عن بكرة أبيها. قال في نفسه: - هل أنهض وأعتذر لهم وأذهب. وفي اليوم التالي استرجع نقودي؟. هو يعلم جيداً إنها فكره سخيفة قد تجعله أضحوكة بين زملائه وقد يؤرخ لتلك الفعلة، وعاد من جديد للتلفظ بألفاظ الندم، لم يكترث بالرد على أصحابه الذين يسألونه عن أولاده والأسرة وأعماله الأخرى، يكتفي فقط بالتحديق في الوجوه قائلاً في نفسه: - أي أولاد وأنا أهدر ثلاثين ديناراً دفعة واحدة؟. الحضور ممن لا يعرفونه يعتقدون أنه متألم لموت أم صديقه وزميله في العمل، يحدق فيهم ويبكي في نفسه: - والله من يستحق التعزية هو أنا.! فأنا فقدت ثلاثين دينارا وانتم تتحدثون ولا يهمكم الأمر، أفكار وهواجس مؤلمة في نفسه. قطع حبل أفكاره احد الشباب أصحاب المنزل قائلاً بصوت عال: - " أربعة.. أربعة " فخفق قلبه وعرف أنها اللحظة الحاسمة فوجبة الغذاء على مشارف تلك المربوعة، تربع، في مواجهته تربع رجل يعرف انه مدير احد المصارف بالبلدة، عن يمينه احد الزملاء الذين لم يشارك في دفع ثمن الخروف، وعن يساره رجل ملابسه رثه نحيف، يبدو أن الفقر قد نال منه، جلسوا متقابلين ووضعوا أمامهم تلك الوجبة (صينية رز). فوقها أربع قطع من اللحم فتقطع قلبه، تذكر الثلاثين ديناراً، أربع قطع، ثلاثة منها صغيرة وواحدة قطعة ( كتف)، يحدق في قطعة الكتف ويمنى نفسه بها: - هذه القطعة ربما هي خير عزاء في نقودي التي ضيعتها في ثمن الخروف اللعين. بدأ الجميع أكل الرز، أما هو ففي صراع نفسي، أفكاره كادت أن تعصف به، نظراته تلتهم قطعة الكتف التي لا يعلم ما هو مصيرها، تارة يقول سآكل الرز من تحت قطعة " الكتف " حتى تسقط أمامي وعندها لن يتردد الجميع في إعطائها لي وأخرى يقول: لا.. سوف أدعوهم لتوزيع اللحم فيستحون ويعطوها لي. تسائل: - وإذا لم يستحوا وكانت تلك (الكتف) عند أحدهم؟ عندها ستخرج روحي. فهذا زميلنا فقير الحال كثير الأولاد وأنا أعرف انه اخذ (سلفة) من المصرف تقسم ظهره ولا يأكل اللحم إلا في عيد الأضحى وذاك الرجل يبدو عليه الفقر المدقع، ربما انقض عليها وقد تكون هذه القطعة هي الأولى التي يأكلها في حياته ويبدو أيضاً انه ممن يحضرون المناسبات لأكل اللحم دون دعوة، أما الرجل الذي يقابله فهو مدير أحد المصارف حالته المادية جيدة، واللحم ربما كرهه فهو حتما يأكل اللحم وجبتين في اليوم، يقول في نفسه ماذا افعل ؟ هل انهض وأصلي ركعتين وأدعو فيها الله أن يجعل تلك الكتف من نصيبي، يارب ماذا افعل...؟ صراع مرير في نفسه... يتصبب عرقاً ويتحرك في مكان كأنه جالس على جمر، ماذا افعل؟ قرر أخيرا أن يضع تلك القطعة "الكتف" أمام مدير المصرف عله يرفضها فيأخذها هو وبالفعل قرر ذلك ودفع بتلك القطعة أمامه، غير أن مدير المصرف رفضها واقسم لصاحبنا أن يأكلها، تنفس عندها الصعداء وهدأت نفسه وانقض على تلك القطعة علها تشفي غليله واغرورقت عيناه محدثاً نفسه: - لن أكررها مرة أخرى فأنا حضري ولست بدوي.