- هنا يسكن أبو علي الحداد؟
قال هذا، وهو يقف أمام باب المدرسة الكبير، حقيقةً لا يعلم تاريخ هذا البناء العتيق، اللون الأصفر يندمج بعبق الماضي، كان قصر والي الموصل إبَّان الدولة العثمانية، فيه حوش كبير، ساحة كرة قدم صغيرة، ثمَّ حوله الملك فيصل الأول إلى مديرية حرس الحدود، وخلال الجمهورية الأولى تحول إلى مصلحة الضرائب، وتحوَّل زمن عبدالرحمن عارف إلى مدرسة ابتدائية، تخرَّج منها الكثير من الأطبَّاء وقادة الجيش ورجال الدولة، كثيراً ما مرَّ بهذا البناء، وأشار إليه كثيراً في أحاديثه، كنقطة دالة، وهو يقع في نهاية الشارع الذي يمرُّ بالجامع الكبير، ذي المنارة المائلة، "تفضَّل أخويي" قالت له المرأة التي كانت ترتدي حجاباً أسوداً، كانت تنادي على أطفالها حين اقترب منها، تردَّد قليلاً لأنَّه لا يعرف شخصاً بهذا الاسم، لكنَّ الفتاة الحسناء التي طاردها بسيارته رآها تدخل، ولم يشعر بنفسه إلا وهو أمام الباب، حاول أن يخفي ارتباكه بسؤالٍ آخر: أنا أقصد أبو علي الحداد؟ - نعم هو في الداخل، تفضل أدخل، هو في الطابق العلوي. - لهجتك ليست موصلية؟ - نعم صحيح، نحنُ مهجَّرون من البصرة. قالت هذا وهي تبتسم بحزن وداعيةً له أن يلحق بها وهي تدخل بسرعة، دخل وراءها بخجل مشوبٍ بحزن، ويا لهولِ ما رأى، مدينةٌ كاملة، نساء يغسلن، ونساءٌ ينتظرن، ونساءٌ يعلقن الغسيل، وأطفال شبه عرايا بلكنات جنوبية، يلعبون كرة القدم، وطفلٌ يبكي وآخران يقتتلان، وضجيج وصراخ إلى عنان السماء، وسيارة تاكسي في ظلِّ شجرة، نهاية الجهة اليمنى، وساريةٌ للعلم العراقي، في وسط الباحة، لكن بدون عَلَمْ، فقط السارية، التفتَ إليه كثيرون، من شرفة الطابق العلوي، وبعض النساء اللاتي كنَّ ينتظرن صنبور الماء، تهامسن حول، أناقته والسوار الذهب الذي يلبس بيده اليمنى، وبدلته التي اشتراها حديثاً بمبلغ 300 دولار، وحذاءه الذي كان يشعر به كأنَّه قطعةً من جسده بل أغلى، اشترى كل هذه الأشياء ولم يرتدِ منها شيئا بانتظار هذا اليوم، أشارت له إلى الصف الذي يسكن فيه أبو علي الحداد، ثم أشارت له إلى السلالم، واتجه نحوها، حين بدأ يصعد السلالم القديمة، رأى تلك الحسناء وهي تدخل إلى الصفِّ الذي أشارت إليه المرأة، ثمَّ خرجت سريعاً دون أن تلتف إليه، ودخلت في الصفِّ المجاور، وفي الممر الكثير من النساء والأطفال والرجال الذي صبغهم الفقر بإهمال شعر الرأس واللحى النابتة، وأحدهم ينفث دخان السكائر، والآخر يقول له: سيعلم الذين ظلموا.. وصل إلى باب الصف الحديدي الأزرق، والمكتوب عليه بخطٍّ قبيح، الرابع ج، وكتابات أخرى كثيرة على الباب والجدران. حينَ نزل من الطابق العلوي، كانت الدموع تترقرق في عينيه، ولم يستطع مغادرة باحة المدرسة، استظلَّ بالشجرة بعد أن أنهكه الوقوف