للموت والحب على سريرٍ واحد

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : عبدالكريم يحيى | المصدر : www.arabicstory.net

بينما ابتدأ الطاهر بن جلون روايته تلك العتمة الباهرة بعبارة(لطالما فتشت عن الحجر الأسود الذي يطهر روح الموت) .تقول مستغانمي (إن الحب والموت يغذيان وحدهما كل الأدب العالمي، فخارج هذين الموضوعين لايوجد شيء يستحق الكتابة) لا باس بهذا الكلام لكنَّها تسخر الموت في خدمة الحب، وتنحسر مساحة الموت كثيرا وتضيق لصالح الحب، لتعطينا صورة إنقلابية تحتاج إلى تعويض، فخليط الحب والموت هو موضوعة مستغانمي الرئيسية في كلِّ عباراتها وليس نصوصها فحسب، وهذا يقودنا إلى استجلاء المعادلة التالية التي ترتكز عليها في نصوصها:

الموت + سرير = الحب + سرير.......................مقدمة صغرى

سرير^2 + الحب = الموت ..............................مقدمة كبرى

الحياة(حب الموت) = سرير .................................نتيجة

والموت في المقدمة الكبرى يستدعي سريراً لتعويض عن النقص الطارئ في صورته، وهذه المعادلة هي المنشور الذي تمرُّ من خلاله صور مستغانمي في ثلاثيتها العجيبة(ذاكرة الجسد-فوضى الحواس-عابر سرير)وهي خلاصة سرد نصوصها كافة، ففي رواية ذاكرة الجسد تتخلى الكابتة عن أنوثتها لترتدي قناع الرجل الرواي، خالد بن طوبال بطل الروايات الثلاث، المناضل والفنان الجزائري الذي قطعت يده أثناء حرب التحرير الجزائرية، وكأنَّها وهي تناضل ضد السلطة الرجل الذكورية، تسقط في فخ سلطة أخرى تحاول صياغة إمرأة من نمط خاص وهي(حياة ابنة سي الطاهر)بطلة الروايات الثلاث، التي ترضى أن تتزوج من أحد سماسرة الثورة.

في قراءة - لـرواية عابر سرير - نتبين أنَّ ثلاثية مستغانمي من أهم دوال العصر الحديث التي ستسهل على الأجيال القادمة الوقوف على درجة الانحطاط التي وصلَ إليها الجنس البشري، الابنة البارة لروح العصر، قبلته كما هو بسلبياته وأضافت إليه بعض التوابل، وفي لحظة من لحظات الوعي البشري، ونتيجة وهم الإغراء، صارت جميع الدوال المنبثقة من كلمات النص تعمل كوحدات فعالة تطوعت في خدمة نظام معجمي جنسي ينتمي إلى لغة جنسية محددة بزمن محدد سنرمز لها بـ(ل)، وحتى لو نجحَت الكاتبة في تجميع عناصر الإثارة والإغراء، فلن يمنعنا ذلك من محاولة قراءة مختلفة لهذه التمركزات التي تمثل قوة النص في قفزة خارج(ل).

الكاتبة تؤسطر نفسها من خلال محاولة أسطرة الواقع اليومي المعاش، ومن أهم معطيات دريدا نقد التمركز، فلكل تركيب مركز، وكل تركيب قابل للتفكيك، والنص تركيب، فهو قابل للتفكيك، ومركز النص يختلف عن تمركزه، فالمركز مهم لتفعيل حركة الدوال كالنواة في الذرة، والتمركز إضفاء مركزية وهمية لمن هو ليس بمركز، أي صورة كاذبة لحركة الدوال، ولمستغانمي عدة مراكز وتمركزات في نصها تتناقض مع الواقع والذات، تمركزها حول حقيقة أنَّها ترفض أن تمتدح نفسها وبصورة كامنة أوحت لقارئها بأنَّها أسطورة روائية، وترفض أن تُقرأ كأنثى، فاختارت السارد ذكراً في ثلاثيتها، وتمركزت حول جسد المرأة وشهوتها للرجل، ومن خلال تمركزها حول هموم الشعب الجزائري أثبتت نرجسيتها العالية، وبينما هي تمدح الرئيس الأسبق أحمد بن بيلا تمركزت حول وهم وطنيتها، وبينما هي تعتز باللغة العربية تمركزت حول أنَّ العقل العربي لن يخرج من بين الأفخاذ وهو يستبيح الخيانة بأنواعها كافة من الزوجية إلى الوطنية.

 

 

1- تقنيات السرد والصورة المتوحدة

لا يوجد نص يخلو من سارد، إذن لا يوجد نص يخلو من شيء من السيرة الذاتية السيرة الذاتية للسارد التي لا بدَّ لها من الظهور في نصوصه، كبعض الأسماك التي تخرج بين الفينة والأخرى إلى السطح، فعلاقة النص بالكاتب كعلاقة النائم بالحلم.

والسردُ أبُ السارد، لأنَّ سرّ السارد يكشفه السرد الذي يسردهُ، وتنبثق منه الكثير من الصور التي مرَّت بالكاتب في حياته.

والسارد سواء بضمير المتكلم، كأن يقول(كنا جالسين في المقهى)فيتبادر إلى الذهن فوراً أنَّ السارد مصاحبٌ للحدث المسرود وموجود داخل إطار الصورة، أو يقول(كانوا جالسين في المقهى)فالسارد هنا خارج إطار الصورة لكنه مصاحب للحدث، أو يسرد الحدث عن طريق خطابات ورسائل شخصية أو حوارات مملة ومطولة، وفي أول جملة من الفصل الأول من رواية عابر سرير(كنّا مساء اللهفة الأولى عاشقين في ضيافة المطر رتبت لهما المصادفة موعداً خارج المدن العربية للخوف-ص9.)بهذه الجملة اختصرت الأحداث كلها التي تدور حول مركزية صدفة اللقاء في باريس. وهو بالضبط ما حدثَ في بداية فص2 من ذاكرة الجسد(لم يكن القدر فيه هو الطرف الثاني، كان منذ البدء الطرف الأول، أليس هو الذي أتى بنا من مدنٍ أخرى من زمنٍ آخر وذاكرةٍ أخرى، ليجمعنا في قاعةٍ بباريس، في حفل افتتاح معرض للرسم)، هذا ملخص للثلاثية، عاشقان يلتقيان صدفة في معرض للرسم، يا للهول هذه المصادفة تتكرر ثلاث مرات، وفي كل مرة ينبثق منها نص روائي طويل، ثلاثية تتجاوز الألف صفحة تدور حولها. الضمير نا من بنا نائب عن نحن، وفي الفصل الثاني من عابر سرير(تذكَّرتُ هذه الحادثة عندما بلغني أنّني حصلتُ على جائزة العام-ص27)تاء الفاعل من فعل الماضي تذكرت، وفي الفصل الثالث(كنّا في خريف كأنَّه شتاء-ص51)وبدأت الفصل الرابع (برغم درايتي بعدم حضوره، ذهبتُ لحضور افتتاح معرضه الفردي-ص81)وبدأ الفصل الخامس(اشتريتُ باقة ورد وقصدته-ص105)والسادس(ثمَّ جاءت..كان آخر مكان توقعت أن تراني فيه هو باريس-ص182)لماذا لأنَّ باريس بلدةٌ عالمية ممنوعة على أولاد المَلْحَة حتى في أحلامهم وسيسعدون بالقراءة عنها أيَّما سعادة، وفي السابع(كنتُ شارداً بها خلف زجاج الترقُّب حين فاجأني برقُ طلَّتها-ص203)وأستاذة اللغة العربية والفرنسية تناست أن كلمة طلتها مضاف إليه وبالتالي يجب أن تكسر اللام بكسرة الجر ولا تنصبها كما فعلت، وفي الثامن والأخير(بعدها أقلتني إلى المطار-ص283)، السارد ذكر والكاتبة أنثى لا تريد أن تقرأ كأنثى كما صرحت، والسارد ضمير المتكلم-الأنا-ولطريقة السرد هذه عدة مآخذ، أهمها:

1- لحظة قول الإنسان أنا فإنَّه ابتعد عن الحقيقة شبراً، وتحول إلى آخر، يحاول الهرب من مأزقٍ ما، وكلما أطال ابتعد أكثر، وسرد ضمير المتكلم، طريقة بالية حبست الرواية التقليدية في أسرها طيلة القرن الثامن عشر.

2- لا يقدر المؤلف أن يتوارى عن ذهن القارئ، حتى وإن بدَّل الجنس، كأن يكتب الذكر بلسان امرأة والمرأة بلسان ذكر كما حدث في عابر سرير، وبالتالي فقد يطعن عليه في الأفكار التي يطرحها والإيديولوجيات التي يعتقدها وإن ساقها على لسان غيره، حيث سيكون تدخله صارخاً ومباشراً في تسيير الأحداث.

3- قد يسقط كاتب النص أو كاتبة النص في فخ السيرة الذاتية، وهو ما حدث ربما في عابر سرير.

4- لن ينفصل زمن وقوع الحدث عن زمن السارد وعن زمن المؤلف، بينما بفضل الضمير هو نحصل على خيارات أوسع بكثير تتعلق بزمن الحدث الذي هو زمن المؤلف والسارد.

5- لن يمنح القارئ رؤى متغيرة، فالرؤية ستكون من جانب ضمير المتكلم الذي غالباً ما سيضيف على شخصه صفات مثالية، فهو الأب المثالي، والزوج الوفي، والصديق المخلص، والكريم السخي، والشجاع البطل، والعالم المثقف، وإن ذكر بعض السلبيات، فستكون بحقه إيجابيات، وسيعطي لقارئه صورة بالغة النقاء والذكاء وأكثر احتراماً من الجميع، ولا بدَّ أن يتميز بصفات السوبرمان وشارلوك هولمز الذي يحصل على معلومات دقيقة مما ينحدر بالنص وفق رغبة السارد إلى أوضاع غريبة ومناقضة يصعب تصديقها أو تخيلها.

6- إن أغلب عمالقة السرد بدءوا بكتابة سيرهم الذاتية، فمنهم من استأسر داخل هذا الإطار ومنهم منْ انطلق خارج ذاته، ومعظم روايات وقصص نجيب محفوظ مستوحاة من حياته الشخصية مع بعض التغييرات باعترافه لكننا لا نعثر على سطر واحد فيها يدل على ذلك.

*(السارد الأول-السارد الثاني-السارد الثالث)السارد الأول هو المؤلف، والثاني هو سارد النص، والثالث هو القارئ، والقارئ والمؤلف يستميتان في محاولة إثبات الاختلاف بينهما، فالقارئ لن يستمتع بالنص إلا بعدم تصديق أنَّ المؤلف يختلف عن السارد في النص وأنْ لا علاقة له به من بعيد ولا من قريب، كمن يشاهد فلماً هوليودياً مرعباً لن يشعر برعب حقيقي ما لم يتناسى حقيقة وجود المصور خلف الصورة المرعبة التي يلتقطها دماغه.

2-مثلث مستغانمي

ربما كان لكل نص ثلاثة محاور وهو(ما فعله جولدمان في كتابه الإله الخفي..لقد تكشفت له في مسرحيات راسين بنية متكررة من المقولات(الله-الإنسان-العالم) بينما مستغانمي تغرق في بنية متكررة تدور حول الجنس، وهو(أشبه بالحديث عن(المرحلة المصيّة)التي تشيع في شعر نزار قباني مثلاً وتتجلّى على نحوِ ما تصور المرحوم فؤاد دوارة ذات مرة في إلحاح الإشارة إلى النهود والحَلَمَات والأعضاء الجنسية للمرأة) .ولكل صورة مركز تجري عليها عملية انزياح ثلاثية الأبعاد(displacement):

* (الموت-الحب-السرير) لكل كلمة ضلع في المثلث متساوي الأضلاع، والذي يمثل بداية الشكل المنشوري، فراش الموت هو فراش الحب(ليست المهانة أنْ أكون في هذا الوضع، إنمَّا في كوني هنا أضاجع الموت في سرير، قصدتُ السرير دوماً لمنازلة الحب-عابر سرير-ص 171)إنسان يموت وفي لغة (ل)يضاجع الموت، ويضاجع الطعام والشراب والهواء والعمل، فالركيزة، حصيلة وهي إنسانٌ ضجوعٌ مضجاعٌ يضاجع كلَّ شيء!!! وهذا المثلث هو الإطار الذي يحصر ثلاثية مستغانمي، وهكذا فإنَّ البؤرة التي تدور عليها لغة رواية عابر سرير، هي الموت والحب والسرير:الموت =س، الحب =ص، السرير =ع، م =محيط الدائرة: س ص ع م € ل : س =ص =ع/ م=س+ص+ع/ م= س×3 € ل

(حياة بطلة الرواية-أحلام الكاتبة)تكون وفق هذه النظرية قد عاشت ثلاث أو عشر مرات كشخصية روائية.

**(أنوثة الكاتبة-أنوثة اللغة-أنوثة البطلة حياة)ثلاث(أنوثات) لكل منها ضلع في المثلث الثاني متساوي الأضلاع وهذا المثلث الثاني يقابل المثلث الأول من جهة نهاية الشكل المنشوري، أي:(س =ص =ع€ ل ) رغم أنَّ الكاتبة قد قالت في حوار أجرته معها مجلة زهرة الخليج:(أنا أريد أن أحاكم ككاتبة بدون تاء التأنيث وأن يحاكم نصي منفصلا عن أنوثتي، ودون مراعاة أي شيء.)لكنها نجحت بفضل تاء التأنيث، لذا تشتاق إلى قيمتها بدون تاء التأنيث، ولهذا كان بطل الثلاثية وراوي القصة رجل، لكن لو كانت الكاتبة رجلاً هل كان نصها سيأتي بهذا الشكل والمضمون؟ ولو أنَّ قباني لم يعشق النساء؟ ولو أن عجلات السيارة كانت مربعة؟ ولو أن الكاتبة لم تمتلك صفات الأنثى لما كانت عابر سرير ولا ذاكرة الجسد.

 

* * *

مثلث الروائية أحلام نفسها التي وهي تتأرجح بين فكرتي الحياة والموت كتبت نصها، وهو مثلث قائم الزاوية(الحياة-أحلام مستغانمي-الموت)، تمثل هبة الحياة الضلع المحصلة، والحياة والموت الضلع المقابل والمجاور للزاوية القائمة، أحلام = س، (بطلة القصة حياة)الحياة = ص، الموت = ع/ وحسب نظرية

فيثاغورس، في المثلث قائم الزاوية مربع المحصلة س^2 = ص^2 + ع^2 € ل

فـ(حياة-أحلام-س)تكون وفق هذه النظرية قد عاشت حياةً مضاعفة في الشخصيات التي ابتدعتها.

 

* * *

*(الأب الروحي-العشيق-الرئيس € ل) ذكريات كثيرة عن فحولة الأب الحقيقي ورجولته، وبتوارث ذاكرة الأجيال السابقة، يعلن الأب عن خياناته ويبوح لأولاده بها، أفعاله تتوارث عبر الذاكرة، يورثها عبر خلايا الجسد إلى أطفاله، وهو ما أثبته علم الجينات، والأب في الرواية، سواء في صورة مشوهة لبطل مجاهدي الجزائر وهو يجاهد على سريره مع نساء متلفعات عل سرير زوجته بدعوى أنَّ المجاهدين يتنكرون بزي النساء، أو بصورٍ أخرى من تيار الوعي، والعشيق تارةً رسام عاشق وأخرى مصور عاشق، وذكريات متناثرة عن الرئيس النسر الذي عانى الكثير من أجل الاستقلال، وفي المجلد الرابع من الغصن الذهبي لفريزر(يرى روهايم أنَّ نواة الأسطورة هي الموت وتمجيد الأب الأول) .

 

* * *

**(الروح-اللوغوس-الجسد€ ل) (الجسد-الجنس-اللذة€ ل)وعكس هذا التسلسل كان نسق النص، فانتقلت من التمركز حول الجسد الأسبق إلى التمركز حول الروح المعطلة لتفعيلها إلى التمركز حول اللوغوس الفاقد السلطة، وتفكيكية دريدا فندت أسبقية التمركز حول الصوت والكلام phonocentrism لصالح التمركز حول الكتابة graphocentrism وانتقل تمركز النص من الجسد bodycentrism إلى العقلlogocentric الواقع تحت سيطرة الجسد ثم إلى الروح soulcentrism وتمركزات الكاتبة هذه أبعدت القارئ عن عمد برياح قوية من الغواية والإغراء عن الكثير من المعاني التي من الممكن استخلاصها خارج دائرة ل .

 

* * *
* * *

(ذاكرة الجسد-فوضى الحواس-عابر سرير€ ل)الرواية الأخيرة اختصرت الأولى والثانية، هذا إن لم نقل أعادتهما مع تغييرات طفيفة، وخير تلخيص لرواية عابر سرير، مقطع للشاعر أودن في قصيدته(العصر الجديد)حيث يرمز للقوى النفسية بالقوى المقهورة:(فَرِحَتْ القوى المقهورة/أنْ غَدَتْ حرة مرئية، وبلا تبكيت/أطاحت بالأبناء الذين ضلوا السبيل/واغتصبت البنات/وأصابت الآباء بالجنون) الرواية خليط من عناصر تكررت في كل النصوص عنصر الحب، وعنصر الجنس، وعنصر الايدولوجيا، وبعض التوابل من القومية المتهرئة والوطنية في الثورة الجزائرية، بأبطالها ومجرميها ولصوصها ومستغليها.

3- صورة مستغانمي الأسطورة:

من أين جاءت شهرة الروائية؟ كيف طبعت ذاكرة الجسد 20 طبعة؟ هل حدث ذلك صدفة؟ هناك صورة محتملة وهي أنَّ كل طبعة طبعت 100-500 نسخة، ويقول نزار قباني على الغلاف(قرأتُ رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي وأنا جالس أمام بركة السباحة في فندق سامولاند في بيروت. بعدَ أن فرغتُ من قراءة الرواية، خرجت لي أحلام من تحت الماء الأزرق، كسمكة دولفين جميلة، وشربت معي فنجان قهوة وجسمها يقطرُ ماءً..روايتها دوختني. وأنا نادرا ما أدوخ أمام رواية، وسبب الدوخة أن النص الذي قرأته يشبهني إلى درجة التطابق فهو مجنون، ومتوتر، واقتحامي، ومتوحش، وإنساني، وشهواني.. وخارج على القانون مثلي) ، الوصف أعلاه جاء من شيخٍ ودَّع شبابه، والتقى بهِ فجأةً يخرج من تحت الماء الأزرق، والأسطورة قد تعني معانٍ حقيقية تختفي خلف دوالها الصورية والساذجة، وهذا الاختفاء يستوجب عملية بحث وتقصي، ولولا اختفاء هذه المعاني، لصارت الأساطير كياناً قائماً بحدِّ ذاته وليس وسيلة أو رسالة من مهرجان التخلف، فالأسطورة نتيجة للتخلف، فهناك من سينظر إليَّ بغضب بسبب قراءتي المختلفة لما هو مقدس عنده، فالروائية ذات الـ16 طبعة يجب أن لا ينالها ولو لمسة نقدية رقيقة، وشنَّ أفلاطون هجومه على الشاعر بوصفه خالق أساطير، وقال في محاوراته(الإسكافي إسكافي وعامل البناء عامل بناء، والجندي جندي، ولا نريد لأحدٍ أن يكون كل هذا في نفس الوقت لذا توجب أن نكرم الشاعر ونرشه بالعطور على باب المدينة ونقول له أن لا يعود لأنه لا مكان له بيننا)وحيث كانت السذاجة الاجتماعية تأسطر كل شيء من موديلات الملابس مروراً بجمال جسد راقصة، وصولاً إلى القائد الخالد مروراً بمصطلحات نقدية مُعاد تصنيعها، والرواية متأسطرة في مخيلة القرّاء من فرط الدعاية والاهتمام، وعندما غاب المفكر حضر الصنم، وحيثما ظهرت الأسطورة سقط المجتمع وسقطت بعده الدولة، فعمر بن الخطاب(رض) منع الصحابة من مغادرة المدينة إلا بأذن خاص منه، لئلا يتأسطروا فيستميلوا الناس، كما تأسطر بعضهم بعد ذلك، وسقطت أثينا ذات الديمقراطية الأسطورية بإعدامها سقراط عدو الأسطورة ورمز العلم، وسقط العراق بأسطرة قائده، الذي غيَّبَّ ربع المفكرين، وهربَ الربع الآخر، واشترى من بقية العلماء والأدباء أذهانهم فلم يفكروا في شيء إلا في عظمته وفي ابتداع ألقاب تليق بمقامه، وقال عنه الأمريكان(أقوى رجل في الشرق الأوسط) وعلقت عليه رئيسة اتحاد نساء العراق منال يونس قلادة فيها 99 اسماً لتقترب صورته من الإلوهية، فسقط العراق بسقوط التمثال، ورغم المخاطر نجد المثقف الحقيقي كعزيز السيد جاسم يقدم لنا(إدانة واضحة للشعراء الغواة والمتقلبين والمداحين والمتكسبين والثرثارين والذين يقولون مالا يفعلون ويذكر أفلاطون في محاوراته تأثير الشاعر الفاسد الذي يجِّمل للحاكم مساوئه) وعابر سرير سقطت تحت التأثير المباشر لما سبقها(ذاكرة الجسد-فوضى الحواس)ولم تكن سوى لوحة دعاية ضوئية للرواية الأولى، لا بل أعادت نفس الأحداث والشخصيات أيضاً، ففي ذاكرة الجسد، السارد بضمير المتكلم، خالد، تبدأ علاقته بالحبيبة الكابتة حنين في معرضه الشخصي الأول حيث لقاءهما الأول، والكاتبة حنين هي حياة في عابر سرير وخالد هو زيان، واللقاء الأول مع شخص آخر يتقمص شخصية خالد، ويتم في معرض شخصي ولكنَّه ليس الأول، لأنَّ خالد قد صار منذ ذاكرة الجسد رساماً شهيراً، والعنوان كان دالاً مباشراً وصريحاً لكلِّ أحداث الرواية، و(إنَّ الإيقاع الدلالي للأحداث يتشبث ببعدي(الذاكرة / الجسد)منذ بداية الرواية إلى نهايتها) ، تكرار لولا الإغراءات لكانَ أكثر من ممل، وكذلك تتحدث عن فوضى الحواس(وأقع فجأةً بين حاجاته على نسخة من كتاب فوضى الحواس تبدو منهكة لفرط تداولها نسخة بدون إهداء من الأرجح أن يكون اشتراها-عابر سرير-ص 245) متداولة تعني شهيرة، استخدمت الجسد الإنساني المخلوق بأحسن تقويم كوسيلة للمتعة واللذة التي ستؤول إلى ما آل إليه الطعام الذي تناولناه بالأمس،ويا(للروث المقدس ) .

ولا تفتأ تحاول أسطرة الروائي الجزائري كاتب ياسين، صاحب رواية(نجمة) وملخص رواية نجمة:(رشيد والأخضر ومراد ومصطفى..أصدقاء أربعة يشغلهم الحب الذي يحمله الأربعة لامرأة واحدة وهي نجمة زوجة كامل..هي ابنة امرأة فرنسية اختطفها عشاق أربعة على التوالي..أبرزهم أبو رشيد وسي مختار، بدأت حياتها في أحشاء أمها ذات ليلة قضاها الأخيران معها في مغارة اقتاداها إليها معاً، ثم عُثر في صباح اليوم التالي على جثة أبي رشيد في المغارة ذاتها، ويتابع رشيد سي مختار في حلِّه وترحاله لكنه لا يريد قتل الرجل الذي يظنُّه قاتل أبيه ليعرف منه حقيقة نجمة، وتنمو بين الرجلين أواصر صداقة أشبه ما تكون بعلاقة الأب بابنه، إضافةً إلى إنَّ سي مختار لا يجهل أنَّهُ أبو كامل أيضاً ولم يستطع أن يمنع زواج كامل من نجمة زواج سفاح لأنَّها أخته من أبيه خوفاً من افتضاح مأساتها، ويحجُّ الرجلان إلى مكة ويفشي السي مختار السر إلى رشيد، ويقرر الاثنان أن يخطفا نجمة من زوجها كامل الذي هو أخوها لأبيها، ويقوداها إلى جبلٍ منيع يصعب الوصول إليه، وفي النهاية يسجن مراد لقتله صهر السيد أرنست لأنَّه رآه ينهال ضرباً على الخادمة الجزائرية بدون رحمة ويوقف رشيد لفراره من خدمة العلم الإلزامية، وينقطع مصطفى لكتابة مذكراته ويعود رشيد إلى مسقط رأسه في قسنطينة وطيف نجمة يتراءى للأربعة دون انقطاع، فكلهم يحبها بطريقة خاصة، شيءٌ غير مصرَّح به يجعلها مركزاً وهذا المركز استعارته مستغانمي في شخصية حياة.

قدَّم الروائي كاتب ياسين صورة مزيفة للجزائري(بعد الاستقلال) الجائع الفارغ من أية كرامة أو مبادئ إنسانية، يقتل ويغتصب ويزني ويسرق ويذهب إلى الحج، وهذه الصورة هي التي يريد أن يقرأها القارئ الفرنسي، والرواية نشرت باللغة الفرنسية، والجميع يحب نجمة المظلومة لأنَّها تمثل فرنسا أمل الجزائر الوحيد في حياةٍ كريمة، وكذلك مستغانمي قدمت باريس كقبلة أحلام الجزائريين.

تقول مستغانمي(في 29/10/1989 مات كاتب ياسين، حدث زلزال في الجزائر ولكن نشرة الأخبار ذلك المساء كانت تتضمن فتوى بثتها الإذاعة الوطنية أصدرها المفتي محمد الغزالي رئيس المجلس الإسلامي لجامعة قسنطينة ومستشار الرئيس بن جديد آنذاك يعلن فيها أنَّ مثل هذا الرجل ليس أهلاً لأن يواريه تراب الجزائر ويحرم دفنه في مقبرة إسلامية ..كانت نكتته الأخيرة أن تعطلت سيارة البيجو 504 التي كانت تنقل جثمانه-عابر سرير-ص162-163).

فساد الإنسان يسبق فساد اللغة، وفساد اللغة يتبعهُ فساد الصورة، مما يؤدي إلى تسويف دور اللغة وتحويلها إلى تابع في خدمة الرغبات الثانوية كالمال والمتعة والسلطة والإطراء والمديح المبطن، ويستمطر النفاق كبديلٍ عن الحقيقة، كمعظم أفلام هوليود التي تظهر الرجل الأمريكي سوبرمان ورامبو وكوبرا وفي كل نهاية يضحي البطل الأمريكي بحياته لإنقاذ امرأة لا يعرفها ويضع سلاحه أرضاً لأنَّ الطرف الآخر يهدد بقتل الرهينة.

وغابت أصالة الناقد فظهرتْ-عابر سرير- كرواية عظيمة قدَّمت الخطيئة في أبهى صورها، الخطيئة كضرورة من ضروريات الحياة لا كشيء مخجل يندي له الجبين خزياً وعاراً، قدمت الخطيئة كمتعة ولذة فحسب، وغالباً ما يخجل كتاب المتعة من تدوين أسمائهم(كتاب صدر في لبنان عام 1991 عنوانه-المعجم الجنسي من لسان العرب-لكنه لا يحمل اسم المؤلف مما يعني أنَّ العمل لا يليق باسم الفاعل وهو مما يستحي المؤلف منه..وجاءنا كتاب ألف ليلة وليلة غفلاً من اسم مؤلفه) وقدمت خطاباً كان نزار قباني في أمسِّ الحاجة إليه خاصةً وهو في أواخر حياته، ليطمئنَّ على المسيرة التي بدأها، وعلى الراية التي تهرأت على الأرض وتمزقت، رواية مغوية كإعلان البيبسي والسكاير المستوردة وتعالوا إلى حيث المتعة تعالوا إلى عالم مارلبورو.

4- مَنْ سيكون السيد؟

لا أحد ينكر العلاقة الوثيقة بين طبيعة اللغة(ل) وطبيعة اشتغال الذهن البشري(ب)، وثقافة العصر(ع)ففي القرن الثامن عشر وصل الأمر(أن يكيل رجال الدين المديح لرواية باميلا من على منابرهم ويقارنوها بالإنجيل إلا إن فضيلة باميلا ليست هي التي نالت المديح بل رفضها بيع عذريتها بأي ثمن سوى الزواج) كان هذا في عام 1741.

فمن هو السيد: (ل)أم(ب)أم(ع)؟ للإجابة على هذا السؤال يجب التمييز بين ثقافة عصر وعصر آخر، وبين نص تجاري تسويقي مشوق ومغري ناتج عن صناعة محترفة، ونص عفوي صادق وبين بنية دلالية عميقة للغة وبنية سطحية تتعلق بموضوعة واحدة(الجنس) تتشكل حبساً وسجنا للدوال، وبكلمات مختلفة هو ما سألت عنه أليس(إنَّ المسألة هي ما إذا كان بوسعك أن تجعل للكلمات ذاتها معانٍ مختلفة؟وقال همبتي دمبتي:مَنْ سيكون السيد؟هل هي الكلمات التي نستخدمها أم نحنُ الذين نستخدمُ هذه الكلمات؟) ومستغانمي تجيب عن السؤال صراحة في رواية (فوضى الحواس) فتقول:(يحدث للغة أن تكون أجمل منا، بل نحن نتجمل بالكلمات، نختارها كما نختار ثيابنا، حسب مزاجنا ونوايانا) والكثير من الناس تتحكم ثيابهم بمصائرهم، كالذي خرج على قومه في زينته، وجيوشه تجري من تحته، رافضاً أن يرتدي درعاً ضدَّ الرصاص، لئلا تتأثر أناقته، فما أغنَتْ عنه جيوشه، وتتابع قائلة(هنالك أيضا، تلك الكلمات التي لا لون لها ذات الشفافية الفاضحة كامرأة خارجة توا من البحر، بثوب خفيف ملتصق بجسدها إنها الأخطر حتما لأنها ملتصقة بنا حد تقمصنا) حدَّ استعبادنا تقصد، فالإنسان الملتصق بشيء حدَّ التقمص، يقال عنه مجنون أو به مس، وهناك مجنون ليلى، وهناك مجنون إحدى الممثلات الهوليودية، ونحن بصدد كاتب هو مجنون اللغة، كما تقول-عن نفسها-(ما الذي صنع من تلك المرأة روائية تواصل في كتاب مراقصة قتلاها-عابر سرير-ص16) فكيف لا نحب أن نكون من قتلاها ما دامت ستأسطرنا في رواية بعد أن تقرأنا(ولذا مات بوشكين في نزال غبي دفاعاً عن شرف قدمي زوجة لم تَكُنْ تقرأه-عابر سرير-ص11)غوايةٌ كبيرة، أنْ يشعر الإنسان البسيط أنَّه سيقرأ ويتحول إلى أسطورة، ففيهما متعة الجسد والروح، وارتباط الأسطورة بالتفكير وارتباط ل بـ ط برابط نفسي يشبه ارتباط الظلمة بالنور، من اختمار الأساطير وتفنيدها يشرق نور الحقيقة، ومستغانمي تؤسطر محاولة إزالة سيادة الإنسان لترَّسِخ سيادة الكلمات واللغة على النص.

5- حبس الدوال في صور مكررة:

الاستنساخ عيبٌ كبير ومأخذٌ على المبدع، لكن عندما استنسخت السيدة مستغانمي، وعجنت روايتها ذاكرة الجسد مستخرجةً منها روايتين طويلتين، تحول العيب إلى فضلٍ عظيم وبراءة اختراع، وها هو الناقد زهير غانم يقول:(ويكون للروائية الكاتبة فضل استظهار النيكاتيف أو البوزيتيف... كما استنساخ أبطالها في عابر سرير) ، ويقول ناقد آخر وهو الدكتور عادل فريحات (وقد لعبت الروائية أحلام مستغانمي في روايتها فوضى الحواس لعبة فنية تستند إلى المقولة السابقة، إذْ أنهضت من بين السطور بطل روايتها الأولى ذاكرة الجسد وراحت تمارس معه مغامرة عشقية خيالية رامزة...) التكرار والاستنساخ يسميان هنا لعبة فنية، وهذا صحيح نوعاً ما، كما لو قلنا عن القدح نصف الفارغ نصف ملآن، لكننا نعني شيئاً آخر، ويستطرد الناقد(وكان هاجس (أحلام مستغانمي) في روايتيْها المدروستين هنا الحديث عن تاريخ الجزائر المعاصر، مُقارنة الحاضر بالماضي، مُلاحظة صيرورة هذا التاريخ زمناً للفساد والبؤس والقتل والذبح الأحمق المجنون، جاعلة من (حياة) بطلة "فوضى الحواس" صورة للجزائر التي تروم الاتحاد بماضيها، والاخلاص لتاريخها الثوري البهي، لذا أحبت (حياة) بطلاً من أبطال الثورة بوصفه رمزاً للإخلاص، وخانت، وهي العاقر، زوجها العميد (سي مصطفى) بوصفه رمزاً للغدر بالثورة) حياة وهي تخون زوجها تتجسد رمزا للوفاء، فزوجها المسئول رمز الغدر، وخيانته نوعٌ حداثوي من الوفاء، وتستمر حياة في عابر سرير بالخيانة والتلذذ بها، مع المحافظة بالتأكيد على أنَّها رمز الوفاء والجهاد والنضال، وانتقد الدكتور عبدالله محمد الغذامي الشيخ النفزاوي وكتابه الروض العاطر في نزهة الخاطر انتقادات لاذعة وبالمقابل امتدح ابن القيم الجوزية وكتابه روضة المحبين ونزهة المشتاقين الذي قال عنه(إنَّه لا يلغي الجسد ولا يحتقره ولا يستخدمه كوسيلة شبقية شهوانية عابرة..ويأتي على النقيض التام من تصورات النفزاوي التي تقلص الجسد وتجرده من قيمه المعنوية والإنسانية وتجعله مجرد أداة شبقية تنحصر في شبقيتها كل الدلالات والمعاني) فلماذا امتدح مستغانمي إذن؟ هل كانت مجاملة؟أم ركوباً للموجة؟ أم...والله أعلم؟رغم أنَّ مستغانمي ذهبت أبعد مما ذهب إليه الشيخ النفزاوي قاضي الأنكحة، حيث أثبتت بنصوصها أن عقل النساء بين الأفخاذ، وهو ما أورده النفزاوي في الحكاية الأولى من كتابه الروض العاطر-ص137 (حكي أنَّ امرأةً يقال لها المعبرة، وكانت أحكم أهل زمانها وأعرفهم بالأمور، قيل لها:-أيتها الحكيمة، أينَ تجدنَ العقل مَعشر النساء؟قالت:-بين الأفخاذ)وهذه الحكاية هي نقطة ارتكاز الغذامي في نقد النفزاوي، ولو نقد كتاب(عودة الشيخ إلى صباه)لكان أقرب إلى الصواب، لأنني قرأت كتاب النفزاوي ووجدت فيه بعض المنافع ففي باب مضار الجماع يقول النفزاوي(النكاح واقفاً يهدُّ الركائب ويورث الرعاش والنكاح على جنب يورث عرج النسا، والنكاح على الفطر قبل الأكل يقطع الظهر ويقلل الجهد ويضعف البصر والنكاح في الحمام يورث العمى وضعف البصر وتطليع المرأة على الصدر حتى ينزل المني وهو ملقى على ظهره يورث وجع القلب وإن نزل شيء من ماء المرأة في إحليل الرجل أصابه الأرقان وهي القتلة وصدّ الماء عن النزول يورث الحصى ويعمل الفتق) ونجد في كتاب النفزاوي من مثل هذه النصائح الكثير.ورغم أنّ الغذامي يكرر نفس القصة في أسطورةٍ للهنود الحمر، وحكاية عن ملك السودان أوردها ابن حزم الأندلسي في طوق الحمامة، يتناسى الغذامي أن عقول الرجال هي بين الأفخاذ أيضاً، هل لأنه رجل؟ وخاصةً غير المتزوجين، ولذا يتفاخر رؤساء الغرب بزوجاتهم، ولا يعطون المناصب الحساسة إلا لرجال متزوجين ذوي عقول خرجت من بين الأفخاذ، ولذا قيل الزواج نصف الدين أي نصف العقل. وعابر سرير إذا ما قارناها برواية الأخوة كارامازوف أو دون كيشوت أو الشيخ والبحر، سنتبيَّن أنَّ دون كيشوت يتكلم باسم حساسيته وسذاجته، وسانكو يتكلم باسم معدته وأطماعه، وإيفان يتلكم باسم العقل، وإليوشا باسم السماء، وميتا باسم الجنس والعبثية، ولكل شخص في رواية، عالمه الخاص، وكم هو البون شاسع هنا في عابر سرير، فلكل الشخصيات عالم واحد وهو الجسد، فكل رواية بعوالم شخصياتها وأمكنتها تقدم للقارئ أخلاطاً من عناصر متنوعة، بينما مستغانمي تقدم خليطاً واحداً بالعناصر ذاتها، واحتكاك أفكار متنوعة مع بعضها يولد أفكاراً جديدة، لكن من أين نأتي بالجديد والخليط واحد؟ في ثلاثية محفوظ تغيرت الأمكنة والأزمنة والشخصيات، وكذلك في ثلاثية الطاهر وطار وعبدالرحمن منيف، وفي ثلاثية مستغانمي كل شيء ثابت مستنسخ، والاستنساخ ضدَّ التطور، وقد قال بايرون عن كيشوت(إنَّ سرفانتس يزيل فروسية إسبانيا بالابتسام) وأنا أعتقد بأن مستغانمي تحاول إزالة طهارة الإنسان بكلمات تكرر الخطيئة، والتكرار يعلم حتى الحمار، فاستهلك الإنسان ولم يبقَ منه إلى الفضلات، وهي تصف البطلة كما تصف مومساً محترفة:(لفرط ديمومة حالتها العشقية، لم تعد تعرف هلع النساء في بداية كل حب، ولا حداد العشاق أمامَ يُتْمِ العواطف-عابر سرير-ص186) ليس هناك شعور دائم فكل المشاعر تخفُّ حدتها بمرور الزمن، فالعاشق يموت هلعاً وتزداد نبضات قلبه، لأنَّ للجمال سلطان على القلب، يرعبه كما للحكومة البوليسية سلطانٌ على جسد المثقف، فإذا كان سلطان الجسد يرعب فلا بدَّ أن سلطان القلب أشدُّ رعباً، أمَّا مَنْ لا ينبض قلبه في بداية كل حب فهو محترف لصنعة يزاولها، كمومس تمتهن السرير، ولا علاقة للعشق أبداً بعملها، وأنا أتساءل فحسب، لماذا لم تتطرق الرواية إلى الدوافع غير الجنسية؟ وكيف استطاعت من إعادة نفس الأبطال والأحداث في الأمكنة ذاتها في ثلاث روايات؟ لا بدَّ أنَّها راهنت عل قارئ شبق ملقح ضدَّ الملل والضجر يحبس عقله في إطار اللذة الجنسية، دوال تقبع في حبس مشدد الحراسة، وكيف كانوا جميعاً من الزاهدين في المال؟ فالروايتان(فوضى الحواس-عابر سرير)تسبحان في فضاء مشترك وتقوقعتا داخل تابوت هو فضاء(ذاكرة الجسد) وغرقت في صحف بيضاء تلطخت بحكايات حب وأشواق ووطنيات مستهلكة، وكأنَّ النص نهرٌ غرقت فيه شخصيات تعبت من السباحة في ثلاثة أجزاء، ولم تغفل إضافة بعض التوابل من الحكم والأقوال المأثورة، فاستشهدت الروائية بقول للإمام علي رضي الله عنه(أفضل الزهد إخفاؤه-عابر سرير-ص134)عشاق اللذة زاهدين في المال!!! وهو ما يفنده الواقع والخيال، فليس أجشع وأطمع منهم، فهم لا يفعلون ما يفعلون إلا من أجل المال، أمَّا العاهرة الغنية والعاهر الغني، فهم يفعلون ما يفعلون من أجل اللذة، واللذة ليست بالمجان، وحاجتهم إلى المال كحاجتهم إلى اللذة لا تنطفئ أبداً، فبطل عابر سرير نال جائزة أفضل صورة(كلب مقتول)أمام الكثير من الجثث البشرية التي لا تهمُّ فرنسا التي تشمت بهم وتوجه خطاباً في هذه الجائزة(أيَّها الجزائريون أنتم طلبتم الاستقلال) فذوقوا مسَّ استقلالكم، والبطل رغم عراقة نضاله السريري!! ومعرفته باحتقار فرنسا لكل ما هو جزائري يذهب لاستلام الجائزة، وموقف استلام الجائزة هو بؤرة مركز الرواية، لأنَّها البداية، ولولا فوز المصور لما كانت عابر سرير، وهي أيضاً قد استلمت جائزة أمريكية، بينما الشاعر البريطاني بنيامين زيفانيا (48 عاما) يرفض أواخر تشرين الثاني 2003 جائزة من ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية احتجاجا على حرب العراق وما سماه سنوات القهر تحت لواء الإمبراطورية البريطانية، ويرفض صنع الله إبراهيم في 22/10/2003 جائزة الدولة التقديرية للرواية العربية، ويقول مبررا رفضه لأنَّ الحكومة التي تمنحها لا تمتع بالشرعية.

6-ذاكرة العُهْر تتأسطر بين الإسرار والإعلان:

يقول الزمخشري فيلسوف اللغة في أساس البلاغة(وكلُّ مريبٍ عاهر)وفيلسوفة الريبة أحلام مستغانمي روائية شهيرة ترفض بكلِّ إباء أن تعلن سنة ميلادها، ككل النساء اللاتي لديهنَّ حالة هلع ذهني يقف وراء تخوفهنَّ من الإعلان عن أعمارهنَّ، لذا سنضطر لاستنتاجه، حصلت على دكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون عام 1982، والبكالوريوس آداب من الجزائر عام 1971، وفي إحصائية بسيطة يتبين أنَّها حصلت على البكالوريوس وهي في سن الـ(22)وفي أفضل الأحوال، ستكون من مواليد 1960، وحازت على جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية في مصر عام 1998 عن روايتها(ذاكرة الجسد) وعمرها هو(38)عاماً ويكون عمرها اليوم(46)سنة تقريباً، وهذه المعلومات على غلاف كتابها مع صورةٍ لها قبل(20)سنة، ومع الصورة مقولة للرئيس الأسبق للجزائر أحمد بن بلة يقول فيها(إنَّ أحلام مستغانمي هي شمس جزائرية أضاءت الأدب العربي، لقد رفعت بإنتاجها الأدب الجزائري إلى قامة تليق بتاريخ نضالنا، نفاخر بقلمها العربي والتزامها القومي افتخارنا كجزائريين بعروبتنا)يا ليل يا عين يا ليل، ويا عين يا ليل يا عين، وغنيلي وأغنيلك، وكتب السيد الرئيس كلمة افتخارنا بألفٍ مكسورة تحتها همزة، وهو خطأٌ إملائي، ولا أدري عن أيَّة عروبة وأية قومية يتحدث السيد الرئيس؟ فلا زال رؤساء الجزائر إلى اليوم يلقون خطابهم بمناسبة يوم الاستقلال باللغة الفرنسية التي يتقنونها ويعتبرونها رمز حضارتهم، ولو قام أحمد بن بلة بتأليف عشرة كتب لا يقول شيئاً فيها سوى امتداح مستغانمي لما استطاع أن يكافئها على المديح الذي أهالته عليه في روايتها، لا بل أنَّ مديحها له في هذه الرواية يكاد يعدل ما تلقَّاه في حياته كلَّها، وخاصةً وأنَّ زمن هذا المديح جاء في زمن إفلاس السيد الرئيس من المدائح، ففي سنة 1967 انقلبَ هواري بو مدين على بن بلة وزجه في السجن، وهي تقول عن هواري بو مدين(ويده التي تعوَّد أن يمررها عل شاربيه وهو يخطب كانت منهكة لفرط ما حاولت رفع الجزائر من مطبات التاريخ...قالوا له في موسكو التي قصدها للعلاج من مرضٍ نادر وسريع الفتك إنَّ موته حتمي وعاجل، من الواضح أنَّه عاد كحصان سباق مجروح ليموت بين أهله وليختبر حبنا له، بعد أن عانى في بداياته من الجفاء العاطفي لشعبٍ كان يفضل عليه طلَّة بن بلَّة وعفوية طيبته-عابر سرير-ص42)وكلمة عانى تكون من دون حرف الجر(من)أي كان من الفروض أن تقول(عانى في بداياته الجفاء العاطفي)فهي إذ تذكر مرض بو مدين إنما للشماتة، وفي مكانٍ آخر(ذكرني كلامه بما سمعته يوماً عن والدة أحمد بن بلة التي رغم ما كانت عليه من ضعف بنية وقصر قامة، أذهلت الفرنسيين بشجاعتها فعندما اعتقلوا ابنها وساقوها إليه قصد إحباط معنوياته وتعذيبه برؤيتها، فاجأتهم بأن لم تقل لهُ وهي تراه مكبَّلاً سوى(الطير الحر ما يتخبَّطش)..كانت تحثه على أن يكون نسراً كاسراً لا عصفوراً ينتفضُ خوفاً في يد العدو-عابر سرير-ص194) ويا ليل يا عين يا ليل على التوأمان: العشق والوطنية الفياضة، أمَّا الغلاف الأمامي للروايات الثلاث يتضمن السرير والشراشف،.

 

7- ثلاث شخصيات مُأسْطَرة تبحث عن مؤلف:

استطاعت مستغانمي من أنْ تمنح شخصيات النص حجماً أكبر من الحجم الحقيقي، وهذه الشخصيات ولدت وترعرعت داخل ذاكرة الكاتبة ثمَّ انتقلت إلى داخل النص الروائي، فهي تقول في عام 1971:(كان المنتحر رسّامًا مغربيًّا حاول أن يوّقع على لوحة حياته توقيعًا حزينًا-الكتابة في لحظة عري-ص13)فكان بطل نص ذاكرة الجسد هو الجنين الذي احتضنه لا وعي الكاتبة منذ عام 1971، ويعتقد بعض النقاد أنَّ الشاعر سعدي يوسف هو كاتب ذاكرة الجسد، شخصيات كثيرة تلح على مخيلة الكاتبة أحلام، وتتوسل الكاتبة الروائية حياة(بطلة عابر سرير)كي تدخلها في روايتها الجديدة، وهي تحاذي عمل بيرندللو حيث يتبادل الواقع الروائي والواقع الفعلي في تكرار تعيه الشخصيات وتتعامل معه بوعي حاد، محاولةً استثارة واندهاش القارئ في غرابة تكرار الحياة الفعلية لرواية قُرِأَتْ ومن شدة تأثيرها وقوتها تحققتْ، كتلك الإيطالية التي أشاعت الفاشية أنَّها حبلت بعد رأت موكب الدوتشي موسوليني من فرط قوته، وبطل رواية عابر سرير يستنطق بطل وبطلة وأمكنة رواية(ذاكرة الجسد)ليبوحوا بمغامراتهم السريرية على الأسرة ذاتها، وذاكرة الجسد هي الجزء الأول من ثلاثية العُهر موضوعة الروائية، العُهر المراد تمريره كأنَّه حالة اعتيادية، والديوثية التي تعتبر من صفات الرجل المتحضر، وصفة الديوثية هي القادرة على نفي تهمة الإرهاب عن الرجل الشرقي، والديوث لا يمكنه أن ينتمي إلى مجتمع، لأنَّه لا يعيش حياة جادة، ويرفض أن يحكم على نفسه بمعايير أخلاقية وعادات اجتماعية اكتشف هو الوحيد حقيقة عقمها، ولا تفتأ تشير إلى روايتها الأولى(ذاكرة الجسد)تريد أن تأسطرها في مخيال القارئ عنوةً، والذي يقرأ الإحالات إليها وكأنَّها رواية مقدسة، فتقول:(أنَّ ثمة جسور نعبرها وأخرى تعبرنا كتلك المدن التي نسكنها والأخرى التي نكسنها حسب قول خالد بن طوبال في ذاكرة الجسد) عابر سرير-ص55.(افهم عجز خالد في تلك الرواية على إقامة علاقة ودّ مع هذا المنظر الجميل) ص101.(شعرتُ أنَّ الحياة تدفعني بدأت تمازحني أو تدفعني إلى الجنون بوضعي أمام قصص خرافية خارجة من رواية..-يا إلهي أنت كاترين قرأت هذا في تلك الرواية.لكنني كنت منذهلاً أمام اكتشافاتي الصغيرة المتتالية أنتظر أن أرى إلى أيِّ حد ٍّ ستتمادى الحياة في معابثتي، في قصة مجنونة يحملُ أبطال الروايات فيها أسماءهم الحقيقية في الحياة بينما يحملُ أناس الحياة مثلي أسماء أبطالهم المفضلين في الروايات.....-اسمي خالد بن طوبال أعمل مصوراً صحفياً. لم يبدُ لها الاسم شيئا)-ص63-64.قصة مجنونة كان الأقرب إلى الواقع أن تقول قصة مكررة، فالمفلس يكرر قصصه بنفس الشخصيات والأمكنة والأحداث، فمياه النهر لا تجري من تحتنا مرتين، وكما نوهت، خالد بن طوبال هو بطل رواية ذاكرة الجسد كان رساما، وصديقته اسمها كاترين، والأمكنة هي نفسها الشقة المطلة على جسر ميرابو نفسها، البطلة حياة نفسها، وخالد بن طوبال موجود في عابر سرير لكنَّه السرير الأخير، وهو مريض بالسرطان، واسمه زيان، (-وهل الشقة تطل على جسر ميرابو.ردت متعجبة-هل زرتها.كنت سأبدو مجنوناً لو أخبرتها أنني سبق أن زرتها في رواية)ص78.(أحياناً كنتُ أعيش المواقف كما لو كنت هو، مقتفياً أثره في الأسرّة والشوارع والمعارض والمقاهي، كنتُ أضاجع نساءه في سرير كان سريره)ص103.و(كان يختصر لي حياته من خلال السيرة الذاتية ليد أصبحت ليتمها ذاكرة جسد)ص111.و(هكذا حدثت الأشياء في بداية(ذاكرة جسد)عساها تأتي وتزور معرضه ثانيةً وبمفردها، بالترقب نفسه بنفس الإصرار واليأس والأمل)عابر سرير-ص153.(كان يختصر لي حياته من خلال السيرة الذاتية ليد أصبحت ليتمها(ذاكرة جسد))ص111.( يا إلهي إنَّه خالد!... وأدركتُ أن تكون حياة قد أحبَّته إلى ذلك الحد.لقد خلق ليكون كائناً روائياً)ص112(كنا هناك لأنَّ كلانا كان خالد بن طوبال وهذا الأمر، الوحيد الذي كان كلانا يعرفه)ص150(كأنَّما الحياة تفكّك نسيج قصّته وتعيد نسجها من جديد باستبداله بي في كل موقف، هكذا حدثت الأشياء في تلك الرواية التي أحفظها عن ظهر قلب..عن ظهر مقلب! هكذا كان ينتظرها هو نفسه في بداية(ذاكرة جسد)، عساها تأتي وتزور معرضه ثانيةً بمفردها)ص153.

8- عالمية الرواية:

المكان الذي تدور فيه هو باريس، وما دامت باريس مدينة عالمية، فالرواية إذن عالمية!!، وأواه لكم يشتاق قارئ العالم الثالث إلى نص ينقله إلى مدن العالم الأول؟ لأنَّه ممنوع من دخولها في الواقع لذا فهو مستعدٌّ ومشتاق لأن ينخدع ويضيَّع الكثير من وقته ليعيش فيها ولو تخيُّلاً.

ولا يجوز للمبدع أن يقتصر في نصه على البحث عن جَمال الجُمْلَة، أو جمال الصورة، أو جمال التركيبة اللغوية، أو التمسك بمأثورات قيلت في الفن الروائي والاستئسار في داخلها، وهي مولهة ومولعة بالشراشف إلى حدٍّ بعيد، (-حواراتنا تحتاج إلى غرفة مغلقة.ردَّت:-لا أحب الثرثرة على شراشف الضجر-كيف تقاومين هذا المطر نحن في باريس إن لم يهزمك الحنين ستهزمك النشرة الجوية إلا إذا كنت أحضرت في حقائب سفرك من يتكفل بتدفئتك-عابر سرير ص190)وإنَّ فخامة بعض الكلمات والعبارات تحفز الذاكرة على أسطرة الحكاية المقروءة، كعبارة(كان يا ما كان- في سالف العصر والأوان-في قديم الزمان)لكنَّ هذه العبارات تقليدية لا تليق بعصر السرعة، وإذا كان بعض الأدباء يستخدمون رموزاً أسطورية كما فعل اليوت في قصيدته المشهورة(الأرض اليباب)التي تنعى حضارة الغرب المحتضرة المسرعة إلى الموت المحتوم، وسار الشعراء العرب خلف اليوت لكنهم عمدوا إلى رموز شرقية للأسطرة، فكان تكرار لفظة ذات في محاولة لإضافة الشكل الأسطوري للفعل الحكائي في الرواية، (ذات ديسمبر-ص42-ذات أيلول- ص51-ذات جليد- ص89-ذات مطر-ص101-ذات أكتوبر- ص101-ذات مرة -ص183-ذات 30 أكتوبر- ص183-)و لأنَّها ترى عكس نيتشه(إنهم يعللونكم بالمحال فيدسون لكم السم بالدسم سواء أجهلوا أم عرفوا ما يعملون..الروح تنظر إلى الجسد نظرة احتقار فلم يكن من مجد يطاول عظمة هذا الاحتقار ) . تكررت في نصها كلمات كسرير وجسر وعبور وغواية، بمشتقاتها منذ العنوان عابر سرير، وإلى الإهداء(الذين يعبرون بأقدارهم..وإليك في فتنة عبورك الشامخ، عبورك الجامح)وعن الغواية تقول(لتصبح مع العمر رمزاً للغواية النسائية التي أصبح من شروطها عندي ألاّ تبدو المرأة عارية..وإنما تظل مشروع عري موارب-عابر سرير-ص45)و(المرأة التي احتضنت طفولتي الأولى مذ غادرت سرير أمي رضيعاً وانتقلت للنوم في فراشها لعدة سنوات عل فراشها الأرضي، بدأت مشواري في الحياة كعابر سرير ستتلقفه الأسَّرة واحداً بعد الآخر حتى السرير الأخير-ص47) وإذا كانت مستغانمي تعتقد عن بطل روايتها الأولى ذاكرة الجسد(بعض الروائيين يموتون على يد أبطالهم لأنَّهم ما توقعوا قدرة كائن حبري على القتل، واصلت..خالد مثلاً..لو لم أقتله في رواية لقتلني-عابر سرير-ص188).ويعتقد الأستاذ عبود (إن بطلة آلام فرتر" التي من أجلها قتل البطل نفسه، لا تختلف عن السيرينات اللواتي كن يغوين الرجال ويقتلنهم...إن أعظم تحقير للإنسان إن أعظم لذائذه في النصف المكمل له تكمن في أقذر أعضاء الجسد التي تفرز ميكروباً وبولاً ودماً. وحتى يرتفع بنفسه عن نفسه راح يقدس هذه الأعضاء الجسدية ويخلق حولها الأساطير، وما يزال رهن هذه الأنماط التي خلقها. إنها من صنع يديه، ولكنه اغترب عنها فصارت هي التي تصنعه وتلعب في مصائره.إن انتقال السلطة-بعد افتراق الجنسين- من الأنثى إلى الذكر أحدث حروباً طاحنة بين الجنسين. وما حرب الأمازونيات سوى محاولة لاستعادة السلطة المفقودة التي انتقلت إلى الذكر. ولكن بمقدار ما حقق الذكر من سيادة وجد نفسه خاضعاً لما كان يريد أن يهرب منه.) وبقدر ما حققت مستغانمي نصراً على اللغة كانت تستأسرها هذه اللغة، واللغة أساس الفكر، وخصائص لغة ما، هي دال على طريقة تفكير صاحب اللغة، فلكل وسط مهني وطبقة اجتماعية لغة خاصة، فسواق الشاحنات الكبيرة لديهم مصطلحاتهم، وكذلك لكل مبدع لغته الخاصة والتي لها علاقة وثيقة بطريقة تفكيره، وهذه اللغة تتغير، حسب الحاجة، فاللبائن جميعها تصدر أصواتاً لاجتذاب الجنس الآخر، فاحتياجات المبدع وهو شاب تختلف عنها في شيخوخته، فلغة نجيب محفوظ الشاب تختلف عمَّا هي عليه في أصداء السيرة الذاتية، ونباح الكلب بطريقة شرسة يسبق عضته، ولغة الروائية أحلام ربما كانت تحاول التعويض عن الشباب المهدور، ولأنَّ معظم الكتاب لا يعرفون ما يريدون هم بالتحديد تحولوا إلى سلعة في سوقٍ لا يأبه إلا لحسابات الربح والخسارة، وهو يظنُّون بأنَّ هذا هو ما يريدونه، ولكنهم لا يعلمون بأنَّهم خسروا أنفسهم وأصبحوا بالشكل الذي يريده الآخرون، وأنَّهم مسلوبي الإرادة تحت ضغط عبثية الحياة في عصر السرعة وتحت ضغط مجموعة من الدوافع المادية والجنسية والاقتصادية والنفسية والجسدية..الخ، فمستغانمي ذات الواحد وعشرين خريفاً في ديوانها(الكتابة في لحظة عري) تختلف كثيراً عنها في الرواية، حيث تقول في الإهداء(إنني أشعر بالخجل, وأكاد أطلب منك العفو، لأنني لا زلت على قيد الحياة ولست ضمن قائمة الشهداء )وأول إبداع نشرت مستغانمي ديوان شعري بعنوان(الكتابة في لحظة عري-1981):

(سأخلع أحلى فساتيني/وأكتبُ إليك عارية(مستغانمي-الكتابة في لحظة عري-1981-ص9)

(لا زلت أشتري الجريدة كلّ صباح بحكم العادة/لا زالت القاهرة تتردّد وبغداد ترفض ودمشق تقاوم وعمّان تتفرّج/وبيروت ترقص / ولا زلت أكتب إليك عارية) (مستغانمي-الكتابة في لحظة عري-1981-ص9)

(أؤمن أنّ مهمة الرجل ملء الفراغ /الفراغ الأرضيّ /الفراغ الكونيّ /الفراغ في قلب إمرأة /الفراغ في جسمها /يحدث أن أمتلئ بك) (مستغانمي-الكتابة في لحظة عري-1981-ص18)

(لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي رأيتك فيه لأول مرّة تتعرّين /لم تقفي في ديكور مثير /ولا استنجدتِ بالأضواء الخافنة /ولا نزعتِ أثوابك الداخلية قطعة قطعة, كما تفعل راقصات الستريبتيز / كل شيء عندك وقع فجأة.. وخارج علب الليل /تعرّيت فجأة / ورأيتك فجأة)مستغانمي-الكتابة في لحظة عري-ص20 وأرنَست همنغواي طوّر قصة قصيرة كان كتبها سنة 1936 لتصبح روايةالشيخ والبحر) - (انظر بحث في تجربة الكتابة ص112)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

9- الخيانة الزوجية في الأدب المقارن:

الخيانة ثيمة معظم السرديات، وتتجسد الخيانة في صور متضادة، ومتقابلة:

*الأولى صورة الزوجة الوفية التي تذهب إلى الغانية اللعوب في محاولة يائسة لاستعادة الزوج، فزوجة الفرعون المصري ذهبت لمقابلة اللعوب رادوبيس، وكذلك في الأخوة كرامازوف حين ذهبت خطيبة ميتا الماجن شقيق إيفان واليوشا إلى مقابلة الغانية اللعوب التي يتنافس حبها الأب والابن، والثانية صورة الزوج الجريح الذي يحاول استعادة زوجته.

**صورة العاشقة زوجة المسؤول الكبير، التي تلتقي عشيقها وتفرُّ معه، تقابلها صورة العاشق زوج المرأة الغنية، الذي يلتقي بعشيقته بعد الزواج.

 

* * *

صورة الحسناء، الشبقة، اللعوب، زوجة القبيح أو الشيخ الكبير، كما في إيما بوفاري وآنا كارنينا، في مقابلة الشاب زوج العجوز، أو القبيحة.

بطلة الثلاثية حياة هي زوجة مسئول كبير، الرجل الأول أو الثاني في حكومة الجزائر كما نوهت في عدة مواقع في النص منها فهي في فرنسا تقول(عيون زوجي مبثوثة في كل مكان-عابر سرير-ص190)وسعر الفروة التي تضعها على كتفها تعادل ثمن أغلى لوحات باريس، وما دامت هي زوجة مسئول كبير فلديها كافة مؤهلات الخيانة من المال الوفير والفراغ الكبير والجوع الجنسي بسبب انشغال المسئول بفتيات أجمل أو بمسئوليات أكبر، وفي هذه الرواية يموت الرسام الذي يبدع من خياله فنا جميلاً ويفوز المصور الذي يلتقط صوراً جامدة تؤثر في قلوب تضع حقوق الحيوان قبل حق الإنسان في الحياة، ومن قرأ عابر سرير استغنى عن البقية، حيث بطل ذاكرة الجسد(خالد بن طوبال) وهو بطل فوضى الحواس وهو بطل عابر سرير وهو أيضاً بطل رواية لمالك حداد(-أتدري لماذا انتحر خالد بن طوبال في رواية مالك حداد(رصيف الأزهار لم يعد يجيب) -عابر سرير-ص149، وهو الرسام الشهير(زيَّان)الذي يموت في نهاية عابر سرير، والبطلة حياة واحدة، والأسرَّة كثيرة ومتنوعة، وتعشق رجلين، وفي رواية مالك حداد تهرب البطلة مع ضابط فرنسي متخلية عن زوجها خالد الذي قاوم من أجلها، فمات منتحراً:

 

 

الدال المدلول الوظيفة

موت الرسام(زيان) موت الإبداع غياب الفنان الأصيل

فوز المصور(خالد)بجائزة انتصار الجمود والاستنساخ حضور الفنان الدخيل

خيانة سريرية (فرانسواز-حياة) انحسار الوفاء واتساع رقعة الخيانة غفلة الرجل المخدوع

فالصديق يخون نفسه إذ يحب ناصر ويقبله حبا بأخته حياة، ويتواصل معه في حديث لا يهمه منه سوى معرفة أخبار حياة قال ناصر(- كلا ستسكن مع أختي في الفندق..قال الشيء الوحيد الذي كنتُ أودُّ معرفته)ص123.و(عابرة سبيل هي الحقيقة ولا شيء يستطيع أنْ يعترض سبيلها-أميل زولا)عبارة استهلَّت بها مستغانمي روايتها لكنَّ الحقيقة لغز البشرية الأول، والأداة الوحيدة للبحث عن الحقيقة هي اللغة، ونحن في عملية بحثنا عن الحقيقة نشبه من يثرد الثريد خارج الإناء، لأننا نرتكز على اللغة(ل)، واللغة لا تسبق وجهة النظر، فالقدح نصف الملآن هو نصف فارغ أيضاً، وكل عابر سبيل ما هو إلا عابر سرير في نظر مستغانمي، لأنَّ البطل يقول بعد أن تمَّ له فعل الخيانة مع حياة، خائناً بذلك صديقه ناصر وصديقه زيان وحبيبته زيان، (يوم ماكر يتربص بسعادة تتثاءب لم تغسل وجهها بعد. سرير غير مرتب لليلة حب لم تكن. عبور خاطف لرائحتها على مخدع امرأة أخرى-عابر سرير-ص226)لأنَّ الرسام زيَّان على فراش الموت ما هو إلا عابر سرير، وكان سابقاً عابر سرير من نوع آخر، (فتنة امرأة تكيد لك بتواطؤ منك، امرأة مغوية مستعصية..هي المجرمة عمداً الفاتنة كما بلا قصد تتعاقد معها على الإخلاص وتدري أنَّك تبرم صفقة مع غيمة، لا يمكن أن تتوقع في أي أرض ستمطر أو متى.امرأة لها علاقة بالتقمص تتقمص نساءً من أقصى العفّة إلى أقصة الفسق-عابر سرير-ص189)(وإنني أقيمُ في بيتها أمَّا هو فلم يكن يريد الإقامة عندها بقدر ما كان يرى بين فخذيها أوراق إقامته في فرنسا وربما مشروع جواز سفر أحمر-عابر سرير-ص 154)(-وهل أنت متزوج؟ردَّ ضاحكاً:-لأنني أكره الخيانة رفضتُ الزواج فالزواج الناجح يحتاج إلى شيء من الخيانة لإنقاذه إنَّه مدينٌ لها بدوامه بقدر ما هي مدينة له بوجودها فلا أكثر كآبة من احساسك بامتلاك أحد..أو بامتلاكه لك إلى الأبد-عابر سرير-ص160)لا يتزوج لأنَّه لا يصدق بوجود زوج لا يخون زوجته، والزواج رقٌّ وعبودية، يجب أن نتخلص منه، ونبني مجتمعاً متحضرّاً مرتكزاً على السفاح بحيث لا يعرف أحدٌ أباه، كما يحدث اليوم من مطالبات بالنسبة إلى الأم لا إلى الأب،(فكيف أقبل بامتلاك شخص ومطالبته بالوفاء الأبدي لي بحكم ورقة ثبوتية، لا أظنني قادراً على أن أكون من رعاة الضجر في شراشف النفاق-عابر سرير-ص161)استبدلت شراشف الضجر بشراشف النفاق، للحب شراشف ضجر وللزواج شراشف نفاق.وموضوعة الخيانة الزوجية، موضوعة مستهلكة جداً، لكنها رغم ذلك تحتفظ بشيء قليل من رونقها، وفي الأدب التركي(يزودنا يعقوب كارا عثمان أوغلو بتحليلات أكثر دقة ففي روايته(كيراليك كوناك-المنزل للإيجار-1929)يقدم لنا سميحة التي يشبهها العديد من النقاد بإيما بوفاري..حطمت صلتها بالعرف السائد لتصبح خليلة فائق بيه.. وجلبت العار على الأسرة بفرارها إلى أوربا..وعاشت حياة فاسقة وانغمست في الملذات..عادت إلى تركيا.. كان لها صالون فيه من الشرقيين والأجانب وفتيات المجتمع على خلفية الحرب العالمية الأولى حيث يموت أبناء الأمة في حين تعيش حفنة من المستغلين حياة ترف وبذخ في استنبول..واختيار اوغلو عثمان.. يدل على اهتمام رئيسي يهجس بالانحلال الخلقي الذي خلقه التغريب في النساء أو بالأحرى نزوع إلى اعتبار الشخصيات الأنثوية بمثابة الحامل الاجتماعي النموذجي للفساد والانحلال) ولمَّا كتب تولستوي آنا كارنينا، تأثر بها تشيخوف في معظم قصصه القصيرة كقصة المبارزة وفوق الحب والسيدة صاحبة الكلب وقلادة آنا، والقصتان الأخيرتان تدوران حول خيانة زوجية تقترفها امرأة تحمل اسم بطلة تولستوي المأساوية آنا، ففي قلادة آنا(فلماذا تتزوج فتاة-آنا- رقيقة من هذا السيد الكهل غير الظريف) وتعيش معه برعب إلى أن يأخذها معه إلى إحدى الحفلات الخيرية، فتلتفت انتباه الحضور وينعكس ذلك على حريتها ودور اجتماعي أفضل لزوجها(استيقظت الفرحة في قلبها وذلك الهاجس بالسعادة الذي تملكها في تلك الأمسية..سارت بعزة وبثقة..حتى حضور زوجها لم ضايقها..لقد حازت على إعجاب الرجال..كان صاحب السمو قادماً نحوها..يحدق فيها مباشرة ويبتسم ابتسامة معسولة وراح يقول:سعيد جدا...سآمر بسجن زوجك لأنَّه أخفى عنا هذا الكنز حتى الآن..وبعد ذلك لم يعد لدى آنا يوم فرغٍ واحد..وكانت تعود إلى البيت كل يوم قرب الصباح) والتشابه ليس في الأسماء فقط، فزوج آنا كارنينا هو اليكسي، وزوج آنا تشيخوف اسمه اليكسايش، أي ابن اليكسي، والاثنان موظفان يلتزمان بالتعليمات ويضعان حياتهما الشخصية فوق مشاكلها الخاصة، وكذلك في قصة السيدة صاحبة الكلب زوجها موظف مهم، يترك زوجته تسافر بمفردها إلى إحدى منتجعات البحر الأسود، ليصطادها دون جوان اسمه غوروف بكل سهولة، وكذلك السيد حياة تسافر إلى باريس وزوجها ثاني أو أول رجل في حكومة الجزائر، فهو أيضاً لا يهمه فيما لو كانت زوجته مشبعة جنسياً أم لا؟ تخونه أم لا؟ وإن كان يراقبها أحياناً ولكن كجزء من عمله فحسب، فهو يحب منصبه ووظيفته أكثر من أي شيء آخر، ونجاحه في الوظيفة يعوِّض فشله في السرير، وكأنَّ جميع الموظفين المهمين يتمتعون بالسلطة والشهرة وزوجةٍ خائنة، والخطاب يؤكد أنَّه يجب أن لا يغار الرجل على زوجته وأن يتقبل مسألة الخيانة الزوجية كنتيجة حتمية لا بدَّ منها في ظل توافر جميع أسبابها،فالبطل يقول(كنتُ رجلاً بإمكانه أنْ يتفهم خيانة زوجة، فخيانة الزوجة قد تكون نزوة عابرة-ص249)ويقول(حتماً كان السرير في ذلك الموعد الأول مزدحماً بأشباح من سبقوني إليه)ص87.ويقول (إن لم ينجح في مقاربة أنثى لن يعرف كيف يقارب ورقة، فنحن نكتب كما نمارس الحب، البعض يأخذ الكتابة عنوة كيفما اتفق..والآخر يعتقد أنَّها لا تمنحك نفسها إلاّ بالمراودة كالناقة التي لا تدرُّ لبناً إلاّ بعد إبساس)ص98.(لكنك توافق من يقول إنَّ الثورات يخطّط لها الدهاة، وينفّذها الأبطال ويجني ثمارها الجبناء...اليوم بالنسبة لي الثورة تخطط لها الأقدار وينفذها الأغبياء، ويجني ثمارها السراق...فوق جثة آخر شهيد تبرم أول صفقة)ص108.

ويتذكر البطل خيانات والده المجاهد(فكان يغلق علينا أنا وجدتي وزوجته العروس في إحدى الغرف الكبيرة، متحججاً باستقبال المجاهدين الذين كانوا قضون بين الحين والآخر ليلة مشاورات فيلا بيتنا...ذات مرة تأملت ن ثقب الباب الذي لم تكن قامتي تعلوه سو بقليل فرأيته يدخل ع امرأة بملاءة سوداء، عندما أخبرت زوجة أبي بذلك بدت مندهشة، غير أنَّ جدتي تدخّلت لتنهرني ململمة الفضيحة مدَّعية أنَّ العادة جرت أن يتنكر المجاهدون في زيِّ النساء...هكذا واصلت(زوجة أبي)إعداد أشهى الطعام للمجاهدين والمجاهدات...وفرش سريرها بأجمل ما في جهازها من شراشف مطرَّزة، والمضي للنوم جوار صغيرتها في غرفة الضيوف، بينما كان أبي يخوض معاركه التحريرية في سريرها الزوجي على أمتار منها...دفعةً واحدة أدركت أنَّ الآباء يكذبون، وأنَّ النساء اللائي يلبسن ملايات لسنَ فوق الشبهات وأنَّ النساء القابعات في بيوت الظلم لسنَ مخدوعات إلى هذا الحد وأنَّ (الضحية ليست بريئة من دمها)ص174-175.

(كحاجتك إلى النوم على أسرة علقت بشراشفها رائحة رجال سبقوك، كحاجتك إلى الأغطية الخفيفة، للهاث امرأة استعادت أنفاسها عل صدر غيرك-عابر سرير-ص83)و(أنَّ الوفاء لشخصٍ واحد خيانة لأنفسنا)ص186.(كتلك المرأة التي قرأت أنَّها قالت بفعل الجاذبية الخارقة للقوة"عندما رأيتُ موسيليني يمرُّ في موكب شعرتُ أنّني حبلتُ منه)ص198.(وهل ثمة أخرى-لا أنت من علمتني أنّنا نفصل كلَّ حب من قماش حبٍّ آخر)ص210(أثناء تأّملي تزايد ولعي بها، كلما ازدادت يقيناً بخياناتي لها، وقعتُ عل مفارقة عجيبة، وأنا أكتشف أنَّ وفاء رجل لامرأة يجعله الأشهى في عيون بقية النساء اللائي يصبح هدفهنَّ الإيقاع به، بينما خيانته إيّاها تجعله شهياً لديها....ربما عليهم أن يضيفوا حاجتنا إلى شيء من الخيانة لإنقاذ الوفاء سواء لوطن..أو لامرأة)ص219. (كان لنا قاموس غزل جزائري لا غنى لنا فيه عن المسبّات)ص321.(لا أكثر خبثاً من البراءة)ص329، من أين جاء هذا الغلو والتطرف؟ هل كان كرد فعل لتطرف مشاعر مكبوتة للذين بلغوا الـ15 ويتعرضون للاختلاط في المدارس والجامعات والعمل والحدائق والحافلات والأسواق.

 

10- التطاول على المقدسات:

التطاول للأقزام ولقصار القامة، ليعلموا الناس بوجودهم، أمَّا عظام القامة فهم ليسوا بحاجةٍ إليها وها هو نجيب محفوظ وهو في أواخر حياته يشترط موافقة جامعة الأزهر على إعادة طبع(حكايات حارتنا) ويشترط أيضاً أن يكتب له رئيس جامعة الأزهر تصديراً، ولكن وهو في بداية حياته ما كان ليشترط على الناشر، بل كان سيرضى بكل الشروط التي قد يمليها عليه الناشر، والتطاول هو أفضل طريقة لنيل أكبر اهتمام من الغرب الذي يشجع أي تطاول على الدين والمقدسات بدعوى حرية التعبير، فسلمان رشدي نال شهرةً واسعة، ومستغانمي لم يفتها الأمر، ونرجو أن تتدارك هذا الخطأ في طبعاتها القادمة:(لا سمع البوليس ولا سمع الله برغم الأصوات المدوية للآلات التي كانوا يفتحون بها الباب) عابر سرير-ص262.وحيث لا يصل الشيطان يرسل عجوزاً الله السميع البصير لم يسمع بحسب قولها، ليتها تجرأت على أحد زعماء الأحزاب أو الطوائف في لبنان، إذن لَلاقت حتفها بعد أيام، ولأنَّ عقوبة من طعن في ملوك الأرض ودساتيرهم ومناهجهم أعظم وأشد من عقوبة من سبَّ الله ملك الملوك، كعزيز السيد جاسم قضى نحبه بسبب طعنه المبطن لظلم سلطة غاشمة، ومستغانمي وسلمان رشدي نالوا الشهرة والمال بسبب تطاولهم على مقدسات الأمة المستضعفة، واليوم فقط تذكروه بعد زوال الخطر، وأحيوا ذكراه، ولن يسرَّ عزيز بكاء زملائه عليه، بل سيسعد بمصداقيتهم وشجاعتهم بأن يقولوا للظالم يا ظالم، وما نفع بكاء الثعالب والتماسيح؟ ويقول سارتر(ليسَ الرهيب أن نتألم وأن نموت، بل الرهيب أن نتألم ونموت بلا جدوى) ولقد مات عزيز عزيزاً كالنخلة، لم يرمِ مبادئه عند أول امتحان، انتقد الظالم وهو في أوج سلطانه، وقال تعالى{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله فِي الدُّنْيَا والآخرة وَأعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً}.وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري قوله (مَنْ لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله) وربما تعتذر الكاتبة بأنها لا تقصد، وهو لن يجدي لقوله تعالى {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائـفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} [التوبة : 65-66]. وقد نزلت هذه الآيات بسبب قوم كانوا خارجين للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدر منهم استهزاء ببعض الصحابة، ولما نزلت هذه الآيات كانوا يعتذرون ويقولون: (إنما كنا نتحدث حديث الركب نقطع به الطريق)فلم يقل الله لهم: (كذبتم بل كنتم تعتقدون ذلك) لكن قال سبحانه{لا تعتذروا قد كفرتم}أي بفعلكم هذا ولو لم يكن عن اعتقاد.

وأعتقد أنَّ مانحي جائزة نوبل فيما لو فكروا في منح نوبل ثانية للعرب، لَمَا وجدوا روائياً يستحقها أكثر من مستغانمي وفق المعايير العالمية!!(فلتناقضاته الغريبة يصرُّ الجزائري حتى وهو يحتسي نبيذاً ألاّ يتناول معهُ إلاّ اللحم الحلال-عابر سرير-ص269)وهو ما كافح الروائي المبدع محفوظ عشرات السنين من أجل إثباته وخاصةً من خلال شخصية-سي السيَّد-، وثلاثية مستغانمي الأشهر(الجسد-الجنس-اللذة)تحاول أن تثبت أنَّ العقل العربي لن يخرج من بين الأفخاذ أبداً والدال على ذلك الـ16 طبعة، وهو يستبيح الخيانة بكل أنواعها من خيانة الوطن إلى الخيانة الزوجية، وبينما يتحدث مثقفونا عن أنَّ الحضارة التكنولوجية والحرية السريرية والاستباحة والديمقراطية على طريق الهمبركر والجينز ستجعل الإنسان سعيداً، يتحدث مثقفو الغرب عن الأرض الخراب التي خلَّفها التقدم التكنولوجي، والآثار الاجتماعية السيئة التي خلفتها الحرية بداءً من تفكك الأسرة، وازدياد حالات الطلاق وعكوف الشباب عن الزواج، حتى باتت الدول الغربية الغنية يتناقص أعداد سكانها، فتضطر إلى استيراد العائلات من الشرق الفقير.

11- خواص التناص في نص عابر سرير:

كل من يكتب نصاً روائيا فإنَّه يكتب تحت ضغط كل أولئك الروائيين الذين سبقوه سواء عرفهم أم لم يعرفهم، فو فرضنا أن الروائية مستغانمي لم تقرأ في حياتها نصاً روائيا ولم تسمع في حياتها بالثلاثية فهل كانت ستكتب ما كتبت؟ و(إذا كان الليث عبارة عن مجموعة من الخراف المهضومة على حد تعبير بول فاليري، فإن النص الأدبي. أياً كان جنسه، هو أيضاً مجموعة من أقوال الآخرين ونصوصهم، قام النص الجديد بهضمها وتمثلها وتحويلها، فلا وجود لكلمة عذراء لا يسكنها صوت الآخرين، باستثناء كلمة آدم، كما يرى باختين) وكان للتناص في عابر سرير الجزء الأكبر من النص، ففضلاً عن تكرار الإحالات إلى الروايتين السابقتين، قد حشدت الكاتبة مجموعة كبيرة من الأقوال المأثورة، فواحدةٌ لعلي بن أبي طالب(أفضل الزهد إخفاؤه)و(الفطنة ثلثيها تغافل وثلث فطنة) وحكاية جان جينيه الذي سجن بسبب سرقة ديوان شعر لفرلين، مروراً بهوكو والثورة الجزائرية واغتيال بو ضياف، وتظاهرة الجزائريين الـ(بدون) في باريس وكيفية قيام الشرطة برمي المتظاهرين في نهر السين، ولغراهام غرين وبيكاسو في فقره الذي شرحه تمسكه باللون الأزرق ومن ثم غناه الأسطوري وقوله(أن تعود إلى الرسم أي أنْ تعود إلى الحب-ص113)وبروست(أن تشرح تفاصيل رواية كأنْ تنسى السعر على هدية-ص220) قصيدة لأمل دنقل(كان نقاب الأطباء أبيض/لون المعاطف أبيض/تاج الحكيمات أبيض..ص105)وأخرى لمحمود درويش(سقطت ذراعي فالتقطها/سقطت جنبك فالتقطني-ص169)واقتباسات من الكتاب المقدس، وعطر شانيل5-عطر مارلين مونرو-وغيرها الكثير مما لم تذكر مصدراً لها، كـ(وفياً للأمكنة في أزمنة الخيانة-ص153)بعض الأمثال الشعبية(عاش ما كسب...مات ما خلَّى)ص176-وفي الحقيقة كان لهذه الظاهرة خاصيتين:

الأول: إذا كانت غايتها الظاهرية من التمركز حول الجنس وتزيين النص بمغريات وبنثر مجوعة من الأقوال الجميلة كباقة من الورود الجميلة والفواحة بعطور يستريح لها قلب الإنسان، فإننا لن نستطيع التغاضي عن الأثر السيئ من حيث أنَّها تخفي خلفها الكثير من الدعاية الرخيصة التي يراد تمريرها.

الثاني: إذا ما تركنا سطح النص وتوغلنا إلى العمق قليلاً، لاستنتجنا أنَّ الكاتبة قدَّمتْ لنا خليطاً من هذه الأقوال، قيم عليا وحكيمة، وقيم دنيوية وسفلية من نوع الغاية تبرر الوسيلة، بينما القيم تؤكد دوماً على أنَّ الغايات الشريفة هي التي نصل إليها بوسائل شريفة، وليس عن طريق الخيانة والاستمتاع بالخيانة، وهنا مربط الفرس حيث تختفي جزئيات الطامة الكبرى التي تمكنت مستغانمي من جمعها بمهارة شياطين الإنس في روايتها(عابر سرير) والتي تستحق عليها عرش إبليس نفسه وليس جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية في مصر

 

 

الموت والحب على سريرٍ واحد