مساحة بلون الشمس
الناقل :
mahmoud
| الكاتب الأصلى :
محمد شمخ
| المصدر :
www.arabicstory.net
قلتُ له:
لم أرك منذ زمن ..أين كنت !؟
أغمض عينيّه وقال :
سأنام قليلا
ورأيتُـه..
يجرى فى الطريق الى المدرسة، يسبقنى..يعبر جسراً ويقول:
لن تلحق بى..
يقذف حجراً، يكشط به وجه الترعة..يجلسُ فى وقت الحصيدة عند المْصلى يتهجى الحروف ،أسأله:
ماذا تعنى !؟
يجيب :
تعنى قصيدة..
أسأله:
ماذا تعنى؟
يتطلع الى النيل ،يهب واقفا ، ويجرى..
(سأل الطفل: بابا ،كيف يجرى النيل؟
قلت : من السما
سأل الطفل: ولماذا لا نجرى مثله؟
قلت : لأنّا لسنا شعراء )
ورأيتـُه..
يطلع والشمس تطلع.. يتأبط كتف النهار ..
يلحس بريق الندى من فوق أسفلت المدينة..
يقترح للأشياء لون الشمس،وفى ظلالها يتوضأ..
يتعثر بين مؤخرات النائمين فى الزوايا وفى المسجد..
تتسلق عيناه الشرفات والنوافذ..
يدوّن فى أذنيه كلمات الأمهات ،وفى عيون الرضَّع يتلكأ..
( فى الأتوبيس،
همس :أُنظرْ عينى الرضيع
قلتُ : ماذا بهما !؟
همس: ألا ترى؟
قلتُ : أمه تلاحظنا بغيظ..
همس: دعكَ منها..كأن فى عينيه سؤالاً ! )
قلت له:
لم أرك منذ زمن.. أين كنت؟
أغمض عينيه وقال:
سأنام قليلا
ورأيتـُه..
يسيح فى أفواه الباعة والعجائز..
يدبدب قدميه فى محطّات السفر،وفى دوائر الميادين يدوخ، فيتمتم :والعاديات ضبحا..
ويروح ويجىء مع حبات النرد، تنزلق إحداها فى إبطه.. يضحك، ويقول:كفى..كفى.
يمشى ، تشرخ واجهات المحال رأسه..
يتسلل بين نهود الصبايا، ويحُسها كحبات الكمثرى تكبر..
يتمطع فى خطوات الأحبة..
يتطلع فى قامات التلاميذ وقت خروجهم من المدارس، ويردد:بلادى بلادى
يتصفح الجرائد بعين، ويفرك الأخرىبسبابته..
تنحبس دمعته فى خصور الجوعى،وفى أكف الفقراء..
( ذات صباح،ونحن نمشى فى شوارع المدينة؟
قلتُ: ترى من يفتح صباح المدينة؟
قال : الفقراء
قلتُ : وهل يملكون مفتاحها!؟
قال : أجسادهم.. )
قلتُ له:
لم أرك منذ زمن أين كنت؟
ورأيتـُه..
فى الليلة التى تقرر فيها حظر تجول القصائد ،يمشى فى الشوارع، وفى الطرقات وفى الحوارى، وفى الأزقة الضيقة ،يفكر..
تغوص قدماه فى الطين، وفى الرمال، وفى الأرصفة، ويفكر..
لم يستطع النوم فى سريره، ولا فوق مقعد أمام النيل، ولاأمام نصب الشهداء، وراح يرقب حركة العسكر، ويفكر..
صحيح أن قلبه يرجف لكنه -على أىحال- يفكر..
كادت تدهسه السيارات ..تخبط فى المارة من حوله.. ضحكتْ منه فتاته ..
لكنه – باصرار- يفكر..
قال فى نفسه:لا الزهر، لا الرمل، لاالطمى..
وقال: لا الوسائد.. لاعتبات الأصدقاء ..ولاحبّات الكمثرى،
لن يتركوا ركنا واحدا لقلبك..
ولم يفكر.
تضحك فتاته ثانية وتقول :
عند الجبين خط لايفك!
يقول لها:
هو الرحيل.. فلنقم
قلتُ له: أُذكرْنى
ابتسم خفيفا وقال: القصائد تشهد.
قلتُ : القصائد للعيون الجميلة..!
قال: وعيناك يملؤهما الوطن
قلتُ : القصائد للمدن الحزينة..!
قال: ومدينتك يسيل منها النهار وتنثر فى الليل الرماد
قلتُ: القصائد للقرى النحيلة..!
قال: ماأنحل قريتك إذا ماتهجّيت حروفـَها فى الطرقات
قلتُ : القصائد للأنبياء..!
قال: كم ساءلتُ نفسى..كيف وجدتَ الحياة! وإن تستدر لن ترى غيردم مسفوك ،نار وحفر،إن تستدر..وإذ أكتشف ،أكتشفت أن ليس هناك فرقٌ بين هموم الأنبياء وبين هموم المتعبين ، وأن حبلا سريا يربط بين القلوب وبين السماء..فمن ذا الذى قطع؟ ومن ذا الذى وصل؟ ومن ذا الذى جرؤ أن يفقأ لليل عيناً ؟.. سوى ذلك الحرف الذى بحجم القصيدة.
انقبضتْ عيناه فجأة . سألته:
هل نمت؟
قال:
يهيأ لى
قلتُ :
كيف؟
قال:
سمعتُك وأنت تحدث طفلك
قلتُ :
لم أرك منذ زمن، أين كنت؟
قال:
سأحكى لك..
لما كنتُ أجتاز المدينة، أحسستُ بعيونهم تخترق صدرى، وتقتلع قلبى، يتناولونه بين أيديهم، وبين أضراسهم، ثم بين أقدامهم..يدورون بأحذيتهم السميكة فى رأسى، وهم يجسّون بعصيهم السوداء عروقى ،عرقا عرقا،فتضيق من خلفهم..
وعند باب المدينة أمسكوا إبهامى، فركوه فى الحبر، وضغطوه فى الورق الأبيض.. تحيروا،
ضغطوا ثانية، بكل قوتهم ،ظهرتْ لهم خطوط كماالأولى..
سألوا: من أنت!؟..
صعد بَدينُهم فوق إبهامى، وتتابع صعودهم، حتى شعرتُ بطعم الحبر فى حلقى وفى لسانى،
والخطوط أيضا هى هى..جعلوها فى الشمس، وأخذونى الى كبيرهم..
وقفتُ أمامه حتى قال:
أنشد..
قلت :
آه..
قال:
ألف دينار أعطوه..
وقال:
زِد..
قلت:
آه..
قال:
وجارية فزيدوه..زِد
قلت :
أنت
ضحك حتى استلقى على قفاه ثم قال:
من أنت؟..
وصاح:
خذوه فغلوه ،ما عاد وقت للتنزيل ،راح جبريل راح، فلا نون ولاقلم ولاإنشراح ، ما عادت العاديات ضبحا ،ولا الشمس تضحى ..
فى الطريق قالوا لى :
إن النهاية مفتوحة، والعالم أمامك ،فتخيّر ما شئت ، النعاس الطويل قادم ..
قلتُ لهم :
الشمس
وقلتُ لنفسى :
هاأنت تخرج من بين الأقواس، وتسرع بعيدا بعيدا عن الحراس،
هاأنت ..تنسلخ وتحبو ، وتبتسم تلقائيا وقت النعاس ،
ها أنت ..تتوالد أوجاعك كالسحالى ، كالدوالى ، كالعُماس..
ها أنت تصحبك تفاصيلك الصغيرة فى نقش أصابعك..
ها أنت غالب وماغلب .. صاهل بالشعر ساطع بالتعب..
هاأنت ..تبتغى النوم !؟ هل نمت !؟
تبتغى الموت !؟
هو الخروج وما خرجتْ
هاأنت ..تخبىء قصائدك وتعاويذ أمك، وتشدّ قبضتك،
وتنام على أضلعك....
سكتْ
ثم قال :
سأنام قليلا..
وأغمض عينيّه،
فأغمضتُ عينىّ ...
سأل الطفل :
بابا ..لِمَ تغمض عينيّك هكذا!؟
قلتُ :
سأنام قليلا..
سأل الطفل :
إذن، لماذا تبكى !؟