سـاعة العائلة
الناقل :
mahmoud
| الكاتب الأصلى :
محمد شمخ
| المصدر :
www.arabicstory.net
تعرف
ويعرف الجميع،
أن فى أيامنا هذه إن كنت تمتلك شيئا أصيلا فلابدأنك ستشعر بالفخر، ولابد أنك ستعض بأسنانك عليه، ولابد أنك ستحفظه بين اللحم والعظم ولن تفرط فيه أبدا
وتعرف..
ويعرف الجميع
الساعة التى ورثتها عن عائلتى، كنت أتباهى بها ،وأبرهن بها على أصالة عائلتى، وأنها كانت ذات ثراء كبير
تعرف..
ويعرف الجميع،
أننى كنت إن لمحتُ شكاً فى عينى ّ أحد ،على الفور أستضيفه، وأوقفه أمامها :
-أنظرْ ..الى البندول أنظرْ ..هذا النقش،وذاك الحفر ..أنظرْ ،
زخارف الأرقام ،وألوان الزجاج مازالت زاهية،أنظرْ..
ولاأتركه إلا وقد استولى عليه الانبهار، وزال شكه، وأودعه مزهوا منتشيا ،بينما هو يردد:
-ساعة عظيمة بحق..
نعم
هى بحق ساعة عظيمة ..لها هيبة وجلال،ونقش بديع،وبندول طويل عريض كرابطة عنق فخمة..ساعةعميقة، خلتها _ وأنا صغير _ تحوى كنزاً يحرسه أحد المردة، فتضطرب دقات قلبى كلما وقفتُ عندها أو مررتُ.
كثيراً ماحلمت أنى أدخلها..فأتجوّل فى طرقات ،وفى ساحات،وفى أسواق..أقابل فيها إماءً وعبيداً،أبطالاً وملوكاً،ألاحقُ بداخلها الشاطر حسن، وأنام فى إحدى الجزر.
يوما..
لاحظتُ أن الساعة فى الجامع تدق، والساعة عند الحلاق تدق، والساعة عند الجيران تدق ،وساعة عائلتنا جامدة ، صامتة ،لاتدق..
أجابنى أبى :
-منذ زمن طويل ، توقفتْ..
ويحكى لى أنها كانت تدق أيام أجدادى ، وأنها كانت تتوقف قليلاً بموت أحدهم ، ثم تعاود الدق، حتى توقفتْ نهائيا.
أرجوه أن يفتحها ،أن يهزّها لتدق وتعمل..
أريدها أن تدق، وتدق..تملأ الدنيا بدقاتها ، ويسمعها الجميع..
يهزّنى بشدة، يُبعدنى ، يشخط فىّ:
- إياك ،إياك.. إننا نتوارثها هكذا عن عائلتنا العريقة..
أبتعد وفى صدرى رغبة قوية أن أسمعها تدق ،وأن أفتحها،أن أدخلها وأصارع ماردها.
تعرف..
ويعرف الجميع،
أنى أكبر إخوتى ، لذا ورثتها دونهم . يومها تسمرتُ أتأملها. ربما لساعة وأكثر ..منتفخاً كالديك.. أتذكر حُلمى وأبتسم.. أتخيل صوت دقاتها يرج الشارع ،وربما البلد كلها ،وأوشك أن أفتحها.
لكن ذكرى أبى التى كانت حينئذ حديثة، والرهبة من بندولها الواقف فى تحفز،كالحارس المدجج بالسلاح الذى يترصد أدنى حركة منى ،ليفرغ أسلحته فى رأسى ،جعلانى أتراجع ، وأنزع الفكرة من رأسى نزعا.
أما زوجتى ، فقد ركبتها موجة من التباهى والغرور ، بين جيرانها ومع صديقاتها ، هذا فى البداية ، ثم شيئا فشيئا فترت هذه الموجة، وهمد حديثها عن الساعة ،وبدأتْ تستفسر عن فائدتها وهى خرساء هكذا ، ثم ألمحتْ أن وجودها أزحم الصالة ، وأخيرا صرحتْ أن بيعها خير لنا . ،وسيجلب مالاً نحتاج اليه.
تعرف..
ويعرف الجميع،
أنى لو بعتها سأصبح من الأثرياء فى لحظة ،وأسدد ديونى وأقساطى، وأدفع مصاريف دراسة الأولاد فى وقتها، وأشترى الأجهزة التى تشهق زوجتى لمرآها فى الإعلانات التليفزيونية.
كل هذا وأكثر ،لو بعتها ، صحيح ..
لكن الفكرة ما أن تقتربْ من رأسى، حتى يقفز وجه أبى أمام عينىّ، عابساً ،شاخطاً : إياك..إياك
أتراجع سريعا ،وأقسم له أنه لن يحدث.. لن يحدث أبدا.
لكن رغبتى فى أن أراها تدور وتعمل ،وأن يروح بندولها ويجىء،وأن تملأ دقاتها الدنيا ، ظلت تقوى ،وتقوى ، تنمو فى رأسى كالعشب، وفى عروقى كالصهد..
وجاء اليوم،
الذى لم أستطع فيه مقاومتها.
سحبتُ نفساً عميقاً.. كتمتُه فى صدرى ..أزحتُ وجه أبى ، أخفيتُه من أمام عينىّ..مددتُ يدى نحو باب الساعة، فتحتُه.. خرج نفسى متعباً ساخناً..
ارتعشتْ يدى أمام البندول ، قصرتْ ، سحبتُها .. ركزتُ بأسى فى أصابعى..لمستُ البندول ، هززته مرّة ، ثم مرّة ، ثم مرّات ..
فجأة انبعثتْ طرقعة ، انخلع البندول معها ، وسقط.
كدتُ أن أسقط فوقه ، لكنى تخشبتُ فى مكانى .توالتْ الطرقعات ، ثم انبعثتْ سحابة كثيفة من الغبار ، لفّت رأسى ، عمّمتها.
لحظتها خُيل لى أن أبى يخرج من الساعة ويصفعنى.. ومن ورائه يخرج جد ويركلنى ..ثم آخر ويسبنى..وآخر يبصق على .
غطيتُ وجهى بذراعى ّ..أحسستُ أن قلبى هبط، هبط، حتى استقر فى باطن قدمى..رأيتُ نفسى واقفاً على مسرح، ومن بعيد وبين الصفوف رأيتُ زوجتى تضحك، تحاول أن تدارى فمها..ورأيت الأولاد من خلفها يتقافزون فى أماكنهم من شدة السخسخة ..ورأيت جيرانى يهزّون رؤوسهم ،يمصمصون شفاههم ،بأسى حينا، وبتشفى حينا آخر.
شيئا فشيئا..
انزاح الغبار.. حاولت أن أبتلع ريقى،وجدته متربا ، مرّا حنظلا.
انتبهتُ الى ساعة العائلة، كانت منكفئة وأجزاءها قد تبعثرت فى المكان، وتفرقت..
جف ريقى عن آخره.. شعرتُ _لأول مرة_ بالوقت ثقيلا أمام ساعة العائلة ..لا أستطيع أن أفكر، كأن عقلى ذهب منى .لولا أن صوتا شعط رأسى، نبهنى :
- اذهبْ بها حالا ،اذهبْ الى أكبر محل فى البلد ، فى العالم ، اذهبْ حالاً..اذهبْ..
وانحنيتُ ، ألملم أجزاءها، وقطعها ، وبندولها .
فى الطريق..
سمعتُ رجرجة بندولها .
اختنقتُ . كلمتُ روحى:
- يالشؤمك.. فى حياتك يحدث كل هذا..
انسحبتْ الحرارة من جسدى .
تقدمتُ الى صاحب المحل.. بدا تأثرى واضحا :
- تعرف عائلتى..هذه الساعة هى آخر ماتركتْ، تدرك بالطبع قيمتها..
ما جرى لها ؟.. كان غباءً منى ، تهوراً.. أرجوك ،
بأى ثمن أصلحها، لتعود كما كانت ، فهى ساعة عظيمة ..
كنز بمعنى الكلمة، آه لو جعلتها تعمل ،ستقوم الدنيا ،
ويكون لك الفضل، سأحدث به الناس ، وربما أجهزة الإعلام ،
فهى ساعة عظيمة ، ورثتها ، كما تعرف ، ويعرف الجميع و....
تنبهتُ الى أننى أكرر ما أقوله، حين قاطعنى الرجل مشيرا بالتفضل والجلوس.
أخذ سيجارته من زاوية فمه، سقط رمادها فوق قميصه قبل أن تصل بها أصابعه الى ( الطفاية )، ويدعكها فيها.
كرر : تفضل.. تفضل
بصوت هادىء ، ناعم ، يشعرك بالاطمئنان ، وبأن الذى انكسر سينصلح ، وما عليك سوى الصمت والهدوء وكفى ،لكى يبدأ الرجل عمله.
ارتكزتُ بمؤخرتى على طرف المقعد..
وضع الرجل عدسته على عينه.. ضغط بحاجبه عليها.. بدأ يدقق ..يتفحص..
خطرتْ أسئلة فى ذهنى ، وددتُ لو قلتها له، لكنى صمتُ؛ حتى لايشرد فكره.
راقبتُ يديه ، أصابعه ، صلعته ، والعرق ينز من مسامها.
لاحظتُ وجود شعر قصير خلف أذنيه ، وفوق قفاه.
حبستُ أنفاسى ، ثم أطلقتـُها واحداً واحداً ؛
فى الأول أحسستُ بالحسرة.....
..فى الثانى ندمتُ من زلّة لسانى بأننى على استعداد لأى ثمن....
..فى الثالث رأيتُ وجه زوجتى ...
..فى الرابع جيرانى ..فى الخامس.. فى السادس ، وهكذا .
واللحظات تمر، وطوال حياتى لم أشعر بثقل لحظات كتلك ، ثقيلة بدرجة لا تقدر عليها ساعات البلد كلها.
أخيراً..
رفع الرجل وجهه، نبتتْ على شفيته ابتسامة ، لم أفهمها :
- أمتأكد أن هذه الساعة ، هى ساعة عائلتكم ؟
- نعم ، نعم..
أجبتُ بكل ما فى صدرى من أنفاس .
اتسعتْ ابتسامته ، حتى ظهرتْ فى صلعته..وددتُ لو أقبضُ على شفتيه، وأبرمهما.
- ولم تمد فيها يد من قبل ؟
- اطلاقاً..
خرجتْ منى الكلمة كالطلقة فى وجهه .ارتد الرجل بظهره. طرح عدسته جانبا :
- الحقيقة يا أستاذ أن هذه الساعة لاتستأهل منك كل هذا.
انغرستْ الحروف والكلمات فى لحم لسانى .
- يا أستاذ هذه نقوش ورسوم على معدن مزيف ، رخيص ، لايساوى شيئا،
أما هذه الأجزاء والأسلاك ، فلا أرى لها قيمة أو فائدة ،
ربماعند بائع الروبابيكيا، آسف..
استجمعتُ بعض الكلمات ، وأظنها كانت :
- أنت مخطىء ،لابد ، مخطىء أكيد.. راجع نفسك يارجل ، لابد هناك خطأ..
لكن قسمات وجهه كانت هادئة ، وصارمة :
- مهما يكن ، هذه يا أستاذ هى الحقيقة ،يمكنك أن تتأكد من آخرين ،
آسف مرة ثانية.
لاأذكر بعدها أنى رأيت شيئا ، أو سمعت ..
عدتُ الى البيت، وفى الصالة أعدتُ ساعة العائلة الى مكانها .. ثبَّتُ بندولها ..أقفلتُ بابها بحرص..حاولتُ جاهداً أن أستحضر وجه أبى ، دون فائدة..
فى الصباح ، وحين لمحتُ أحد أبنائى يقترب منها زعقتُ فيه ، شاخطاً:
-إياك ، إياك.. فهى كل ما تبقى لنا من عائلتنا العريقة