عِنْدَمَا مَاتَ أخِي

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : د.طارق البكري | المصدر : www.arabicstory.net

كنتُ لا أعرفُ معنى الموت.. أسمع عنه من دون أنْ أراه..‏
فَجْأة.. ودون مقدمات، ماتَ أخي الأكبر مني بثلاث سَنَوات..‏
في ظهيرة ذلك اليوم، وبعد عودتنا المدرسة.. كنتُ على موعد غداء ‏أخير مع أخي.. الذي كان يتمتع بسُمْرة تزيده وَسَامة وَهَيبة.. ‏
كانَ بيني وَبينَه مَا بين الإشقاء الصِّغار من مشاكسات ومُناكفات..‏
في ذلك اليوم.. قرّر أنْ يدخلَ المُطبخ.. ودون أنْ يطلب من أمِّي أيَّة ‏مساعدة.. ‏
أخذَ عدَّة حبَّات بطاطا.. قشَّرها.. غسلها.. ثمَّ وضعها في المقلى.. ‏
وببراءة الأطفال جلستُ أنتظر البطاطا المقليِّة.. ‏
وعندما وضعها أخي - رحمه الله - على الطاولة ليأكّل.. أكلتُ معه.. ‏فلم يعترض.. ولم يسجِّل أيَّة مُلاحظة.. ولا حتى من خلال ملامح ‏وجهه.. فوجئت بذلك.. فأنا أقتحم أشياءه من دون استئذان.. كان ‏صامتاً.. لم يعترض على هجومي على الطبق.. ما أثار فرحي.. ‏وتماديتُ في مشاركته الطبق..‏
لم يتكلِّم..‏
فالتهمتُ معظم البطاطا المقليّة بكل شهيّة..‏
وبهدوء جم.. وبحركات متأنيّة.. قام أخي.. حمل الطبق.. ووضعه في ‏المغسلة.. ثم غسل يديه وفمه.. وذهب إلى غرفته..‏
في ذلك اليوم.. لم يفتح أخي التلفزيون كعادته.. فقد كان يطيل السهر.. ‏درس قليلاً.. ثم ذهب إلى السرير ونام، وكان ذلك في وقت مبكر، ‏وعادته التأخر على التلفزيون..‏
سمعتُ أبي يقولُ لأمِّي..‏
ما به خالد؟
أذهبي واسأليه لماذا نام باكراً؟؟
توجهت أمي نحو غرفة أخي.. وكنت قلقة أمثر من
عادت تقول:لا شيء هناك.. فهو يشعر بالنعاس.. ‏
ثم قالتْ والقلق في عينيها: له لا تقلق.. وصوتها يوحي بعكس ما ‏تقول..‏
فلم يقتنع أبي بهذا الكلام..‏
الوقت مازال مبكراً.. والشمس بالكاد غربت منذ قليل.‏
وفي صباح اليوم التالي.. نهضتُ كعادتي متكاسلاً أجرُّ حقيبتي جرّاً.. ‏وسرتُ نحو المدرسة وقد نسيتُ كلّ قصة الأمس..‏
ومَضَّى النَّهار في اللعبِ والمرح.. والدِّراسة..‏
وعندما عدتُ في الظهيرة.. وجدتُ الطبيب عندنا.. ‏
‏"ضربة شمس".. قال الطبيبُ ذلك بكلِّ ثقة.. ووضع له كيس (مصل).. ‏ثم ذهب مطئناً راضياً..‏
بعد وقت يسير.. جاء عدد من أصدقاء أخي في المدرسة يسألون عن ‏سبب غيابه عن المدرسة.. ‏
وكان أخي قد غاب عن الوعي تماماً.. ‏
فوجئ أصدقاؤه.. ‏
قالوا: لقد وقع خالد بالأمس على رأسه.. ونحن نلعب.. ألم يقل لكم؟؟‏
كانت صدمة للجميع..‏
لماذا لم يخبرنا؟؟ ‏
لماذا لم يقل ذلك؟؟ ‏
مم كان يخاف.. وما الذي أخافه؟!‏
وتحول بيتنا إلى حركة غير طبيعية.. لم أكن أعرف ما يجري تماماً...‏
أسرعوا به إلى المستشفى..‏
وكانت الصدمة الثانية..‏
الأمرُ غريبٌ.. الدماء تَملأ الرأس.. لماذ تأخرتم؟؟
كان النزيفُ قد أتلف الرأس كله..‏
بذلَ الأطباء وسعهم...‏
لكنَّ أخي رحَل بصمتُ..‏
رقدَ أخي في المستشفى أسبوعاً كاملاً يعيش على الآلة.. حتى نبضَ ‏القلب مرة أخيرة.. وودع أمي وأبي اللذين لم يتركاه لحظة واحدة ‏بعينين دامعتين ورحل..‏
قال أبي: فتح عينيه قبل لحظات من موته.. فرحتُ.. وكانتْ فرحةً لم ‏تدُم فترةً طويلةً..‏
وعادَ أخي إلى البيت محمولاً..‏
وضعوه على فراشِه للمرَّة الأخيرة.. لنودِّعه..‏
كان سمرته أشدَّ وسامة من ذي قبل..‏
تذكرتُ طبق البطاطا.. ‏
الآن عرفتُ لماذا لم يعترض على اقتحامي لهذا الطبق واستيلائي على ‏معظمه..‏
لمتُ نفسي..‏
وبكيت..‏
عرفتُ الموتَ.. ورأيته..‏
وانتقلنا إلى المقبرة.. حيث كان الوداع الأخير.. وكانت هذه هي المرة ‏الأولى أيضاً التي أعرف فيها المقبرة..‏
شاهدتُ الدموع الحقيقية..‏
شاهدتُ أبي يبكي للمرة الأولى.. وأمي تصرخ من أعماق قلبها..‏
ودّعته.. قبل أن يغلقوا عليه القبر..‏
خفت أن أقبله..‏
أخي الكبير.. صاح وقد وضعوه في قبره.. أن تمهلوا.. دعوني أرى ‏وجهه للمرة الأخيرة..‏
فرميت بنفسي على مقربة منه.. وألقيت معه آخر نظرة عليه.. ‏
كانت سمرته تزداد سمرة ووسامة.. ‏
ذهب طفلاً.. ‏
سمعت أمي تقول: إن الأطفال لا يعذبون.. وهم مثل العصافير في ‏الجنَّة.. يفرحون ولا يحزنون..‏
فرحْتُ لأخي بجَنَّته.. لكنَّ أمِّي كانتْ على الدَّوام حزينة..‏
وكانت أوّل مرَّة أعرف فيها الموت.. وجهاً لوجه.. ‏
وظل أبي يتساءل دون جواب: ترى لماذا يخبرنا عن وقعته ذلك ‏اليوم؟؟ لماذا؟!!