طيف هاجر وكف كتابي .
لم يكن ثمة أحد هناك ، ولا ذرة غبار . كان المكان أنيقاً كدودة ، فارغاً كوعاء ، لامعاً كحذاء جديد . بارداً كزوجة ، ثقيلاً كصديق وقت الضيق . كان هذا عمله ، لكنه شعر بذعر شديد عندما رأى لوحة جديدة ، تنتصب أمامه كرب عمل . راح يتفقد المكان الذي حفظه عن ظهر قلب .. .لم تكن اللوحة المكعبة ، معلقةً في وسط الحائط , " كما يجب " ، أو كما يحبها المشاهدون عادةً ، أن تكون . كانت تحت مستوى الوسط بقليل .كذلك كي يتسّنى ، للبحر الذي في اللوحة أن يبحر. وان يعتلي هو احدى الصخور المائلة نحو مقعد الغرفة المتحرك بثبات. جلس على المقعد ، راح يجدّف بيديه الهواء الراكد في الغرفة . بدأت الأمواج تتلاطم . و الأفق ، الذي بان بعيداً في فضاء اللوحة ، راح يقترب . شيئاً فشيئاً كانت سماكة الأزرق تنفتح . و بدأت حرارة تلك الأرض تتسلل الى فكره . فيماكانت قدماه لا تزال معلقتين في هذه البلاد الباردة و الغريبة . كانت الخلجان و الجبال تمر من تحته كسحاب خفيف . عيناه تشداه كعيني صقرٍ الى تلك الصخور المنحوتة بلعاب البحر ، نحات العجائب الناتئة . هناك على صخر الجنوب ، جنوب الأرض ، لاح له من بعيد طيف امرأة ، جنوبية سمراء ،" انها! ، لا بد هي ، هاجر.. بلى ، انت هاجر ! انطقي الآن ... اخرجي من اللوحة ، من البحر ، من الصحراء ، من الكتب والأساطير القديمة ! ". أردف يحدث نفسه بصوت عال: - الفرصة لا تضيع ابداً ، أليس هذا كلامك يا هاجر!؟ . بعد قليل أحدثت زوجته جلبة في الغرف المجاورة ، حيث كانت تقوم بعملها هناك . فخرج من اللوحة ، و أزال بفوطة كانت في جيبه ، الخطين المتوازيين ، اللذين خلّفهما دولابا المقعد على اللوحة . راحت ملامحها تنكمش و المكان يضيق كقبر و وجهها يغدو رتيباً كأم حنون ، حزيناً كزوج يجلس على كرسي الشرف . فرحاً كفقيد يمشي على روؤس التعساء في جنازة . متجانساً كدعاء ، مملاّ كقافية . و راح يسرع في عمله كالمعتاد . ثمّ راح يسخر من فكرة الوسط . وضرورة التوسط في الأشياء أو المرور بينها ، أو جمال الوسط . والأوسط من الأمور . و كيف تراهم يقرّون ، بأن خير الأمور يكمن في أوسطها ؟! و تسآءل : - من تراه سنّ قانون الوسط؟ . هل هو نفسه مَنْ سماه : الوسيط في القانون ؟ والوسيط في الجغرافيا ؟ وبعد أن تبدد نقد فكرة الوسط ، أو ضرورة تعليق اللوحة في صدر الحائط . بدت له اللوحة جميلة هكذا كما هي ، بل اجمل منها في وسط الحائط . بل أجمل وأفضل من الحائط نفسه .. كانت الأشياء تحافظ على أمكنتها المعتادة في ترتيب مثير . راكنةً مطمئنة ، الى نظام مريب من التراتب و الإحترام ، كأنما ليس ثمة البتة مَن شكك للحظة بدوام وجودها هذا !. وحدها أكياس القمامة ، كانت تضج بحياة الزائرين المهملة ، اغراضهم الزائدة عنهم ،كانت تشي بهم ، و تشهد على وجودهم السابق و مرورهم من هنا . هذه أوراقٌ عليها كلمات غير عزيزة على اصحابها ، وهذه أعقاب سجائر نُفث دخانها ها هنا . لا أراهم ، ولكنهم هنا يلفون المكان .. أعرف ذلك ، سيكتشفون ، ذلك بآلآتهم اللعينة لاحقاً. هذا منديل أودعه صاحبه عصارة ما عنده. القمامة وجه وجيه من وجوه الحضارة ، كيس لا ينتفي الاّ بانتفاء مظاهر الحضارة كافة . .. هذا مكتب يشبه ذاك الذي ، لمدير المدرسة التي كنت أُدرّس فيها. مدرسة بناظر خرج من الجيش ليتطوع للخدمة و الإشراف على إدارة هذا السجن الجديد ، سور مدفوعة الأجر من قبل الأهل ، الذين يرسلون بإعتزاز يصل الى حدّ التنافس ، أولادهم اليها . و هذه لائحة جدار ، دُوّنت عليها تعاليم اليوم ، تماما كما في تلك المدرسة ، حيث كانت تُدون تعاليم النظام الحديدي الصارم في المعسكرات النازية . إذاً ، تراه ، مرّ وقتٌ ، ومرت ثوان ، ومرت كذلك هاجر ، عرافة البحر الغجرية و قالت : " الفرصة لا تضيع ابداً ، وأنّ المكتوب على الجبين سوف تراه العين " . رجتني أن تقرأ طالع كفي دون مقابل .. غريبة ، حمّالة أوجه ، كانت نظراتها . وأنا بطبعي لا أميل الى العرافات . و لكنني رغم هذا ، و لدافع لم أفهمه ، وافقت .. كان البحر شاهداً ثابتاً يترنح . رغم إنشغال موجه اللجوج في جدله الأزلي ، الصاعد و الهابط ، مع هذه الصخرة العنيدة . حبيبان يتعانقان بلا حياء أو خجل الآدميين . يدخل في نفق عورتها ، يطوق بذراعيه جوانبها ، فتنفرج أساريره متفرعة نحو الشاطىء تلهث ، فيما يتناثر زبده الى الأعلى ، معلناً إنتهاء الجولة . أعطيتها كفي . راحت تقرأ ، كأنها تقرأ في كتاب قديم . عن مدن و بلاد بعيدة . عن آتٍ مُضمرٍ خلف الغياب . و أنوارٍ كثيرة ساطعة ، و عن حرير ثلجٍ و حقول متمادية .. و أطيافٍ متوارية خلف يدي . كانت تغرف الأيام المؤجلة ، كمن يغرف من هوّة بئرٍ عميقة . تأملت مليّاً في وجه الفتاة ، التي كانت برفقته ، ثم رمقتها نظرة مرتابة ، مستغربة ،كأنها لم تجدها في راحة يده . مضت صديقته مبتعدة ، بحياء طفلة ، منسحبةً بإتجاه الصخور المنفرجة . .. و حدثتني عن طيور فضية غاربة ، عن صخور أغرب بعد من صخرة الروشة** التي لسذاجتي ، كنت احسبها آلهة صخور البحر . كنت لا افارقها الاّ نادراً ، تارةً لزيارة بيت أهلي ، الذي يبدو انه مكتوب هو الآخر على الجبين . و تارةً اخرى للذهاب الى المدرسة الكريبة . اتعلم فيها اشياء كثيرة ، منها على سبيل المثال ، لا الحصر؛ طريقة التبّول الحديثة ... ومرات كثيرة لأذوب في الجماهير المطالبة بتحرير الأوطان من الأوثان الحجرية .. هاجر! ، انت هاجر الأصلية !؟. الخطيئة والمتاهة في الصحراء ..امرأةُ ابراهيم ، جدنا . بلى ، صمتها الصحراوي ، وقروح وجهها ويديها وشتا بذلك . .. غار في مهوار ريف كفه المحفوظ ، بإتجاه مدن الجماد البعيدة ، والأضواء المتمادية ، هناك خلف نتوء المتوسط .. فيما دخلت فتاة البحر العابرة ، في ثوب مدينتها . - هل انتهيت من دور المياه يا حبيبي ؟ سألته زوجته و قد علقت بضع حبيبات عرق صغيرة على جبينها ، كان ضوء المنور ينعكس عليها . و في سهول كفه الساطعة ، مضى يلاحق السلات المهملات بعناية ، كما كانت تلاحق الفتيات الحالمات الفراشات ، مضت كذلك هاجر، العرافة الغجرية ، تحمل غلّها ، تحدّث بأحاديث ابراهيم الغريب، تنشر نسل اسماعيل في الصحراء .. تكتب على كل جبين أسمر ، اسماً جديداً للجريمة ... - نعم انتهيت منها يا حبيبتي ، هيا بنا ! اطفأ مشعل الأنوار الرئيسي عند المدخل ، فاختفت أشياء مشفى غريفيلد* الخاص ، و آلاته الطبية تحت ظلال سوداء كثيفة . ما عدا تلك التي كانت في المدخل الكبير الذي يبقى مناراً تلقائياً . أقفل الباب الكبير و خرجا . بعد أن صارا في الشارع المقابل للمشفى بدت له هاجر تطل برأسها من شق نافذة غرفة المقعد ، الذي كان ضوء الشارع يتسلل اليها من خلاله .كانت نظراتها حادة كنظرة موناليزا دافنشي ، غريبة تسأل دائماً و لكن دون جواب * - صخرة كبيرة قبالة بيروت ، تحيط بها مياه البحر من كل جانب . و هي معروفة و مشهورة كأحد معالم لبنان السياحية . ** - مدينة في غرب المانيا