" الهوهو ". عندما حدثني إنسو مشرف العمال الإيطالي، في الشركة التي عملت فيها لأكثر من عام، برغبة الهر فوغل بأن انضم للعمل في قسم التحميل الذي يشرف عليه .. لم أرفض العرض آنذاك ، إذ بدا مغرياً ، الإنتقال من حيث لا يُسمح لك بالتجول ، الى حيث لا يسمح لك بالوقوف في مكان واحد .. إنها الحركة ، التي بت أحلم بها ، بعد أن كنت أتسمر على الباند الذي لا يكل و لا يتعب منذ الصباح من الإلتفاف و السير في مكانه ، فيما نلتقط نحن الواقفين على أطرافه ، أصناف البضائع المحملة عليه ، كلٌ حسب ما يفيض عن حاجته ، و من كلٍّ كلَّ طاقته ، على أن يكتفي كلٌّ منا بالصنف الذي حدده له السيد نيد فوهرر ( قائد ) العمل .. في الشهور التي خلت ، كان قد نما شيء من الود بيني و بين الهر فوغل ، كونه كان محكوماً عليه ، أن يمر بإستمرار قرب الرّصفة التي كنت أجمع بضاعتي عليها ، و كان يتوجب عليه في أكثر الإحيان أن يصدر صوتاً ليعلمني بمروره العظيم ، لكي أحتسب و أفسح المجال له ،و لم ذلك ممكناً الاّ عبر لصق جسمي أكثر بمسند الباند الجانبي .. " هوهو " كانت بمثابة الزمور ، أو صفارة الإنذار ، التي يُطلقها ، لحظة مروره من جانبنا ، و كان على العمال ، الذين كانوا بإغلبيتهم من الأجانب ، ان يحتسبوا لهذا المرور المستعجل دائماً ، و أن يتفادوا بالتالي أي حالات دهس أو ما شابه .. فكنا نردد بعد أن يعبرنا ، و يصبح متوارياً خلف الصناديق الكثيرة ، العالية ، " هوهو ، هوهو " فيما كان من المتعذر البت بهوية مطلقي الأصوات الجماعية .. لكنني في مرات كثيرة ، كنت أرد جهارة و بشيءٍ من المزاح المجبول بالجد ، كلمات عالية كانت تترامي الى مسمع الهر فوغل .. بعد أن انتقلت للعمل معه ، عاد للغة الهوهو ، فثار غضبي منه و تركت العربة متوقفة ، نصفها على صندوق الشاحنة الخلفي و نصفها الآخر على أرض المخزن : - سيد فوغل ، نحن لنا أسماء ينادينا الناس بها ، عليك أن تنادينيا بها ، فنحن لسنا في غابات الهوهو هنا ! قلت له جاداً ، هذا بعد أن أعياني ضغط العمل و عجرفة السيد فوغل ، الذي كان يمررها بشيء من المزاح الهادف لتنشيط العمل ، الذي بدا أنه لا ينتهي ، و لا يتضاءل كلما اجتهدت أكثر ، و لكنه على العكس من ذلك ، لا ينفك يتناسخ و يتكاثر .. - تابع العمل الآن ! قالها بحدة ، و بصوت عال بعد أن نظر الى عربتي المعلقة بين الشاحنة و رصيف المخزن ، فيما كان سائق الشاحنة و الآخر الذي ينتظر دوره من بعده ، ينظران الى المشهد ، أحدهما تبسم قليلاً فيما بدا الآخر مشغولاً بإوراقٍ كانت بين يديه .. تابعت العمل اللعين ، لكنني لم أسكت، إذ رحت أردد بصوت عالٍ: - تابع ، نعم أتابع ، و لكن ليس هوهو ! فيما راح هو يردد " تابع ، تابع! " من جناح المخزن الآخر القريب من تجمع العمال حيث كنت أعمل سابقاُ، فيتردد صداها في أرجاء المعمل، و سرعان ما يرددها العمال من خلفه ككورس .. بدا الحنق يغلي في عروقه لكن العمل مقدس ، لا وقت فيه لأي دعابة .. أو حتى رد إعتبار أو محاسبة .. وحده العمل سلطان الأشياء و الأسماء كلها .. فوغل تعني في العربية عصفور ، و قد كان الهر فوغل قد انتقل من احدى مدن المانيا الشرقية ، الى هذه المدينة في غرب المانيا ، غداة الوحدة بين الألمانيتين ، و هو لا يزال يعمل في هذه الشركة منذ مطلع التسعينات .. كان مهندساً زراعياً هناك في بلده ، لكنه هنا آلة تحميل و تفريغ الشاحنات في هذه الشركة .. نظامي كأي جندي مخلص للزعيم و الأمة الألمانية، لا يتأفف، و لا يتعب أبداً . أخبرني مرة أنه بقي يعمل حتى التاسعة ليلاً لوحده في القسم .. و قد يعمل ليل نهار لو طُلب منه ذلك .. بعد هدوء العمل عند نصف ساعة الغداء ، تقدم الهر فوغل مني ، فعرفت أن الساعة حانت فإما خصام و إما إنذار أو تبليغ : - هه ! ماذا أردت قوله أثناء العمل ؟ سألني . - أسماء قلت أن لنا أسماء . قلت هذا بنبرة ثابتة و قد كان القرف و الإرهاق قد استبدا بي من وطأة هذا العمل و من فيه .. و حبيبات العرق لا تزال معلقة على جبيني . - لكم أسماء ، و أية أسماء هذه التي تسميها أسماء ، أسماؤكم كلها متشابهة ، و هي لا تعدو كونها مجرد أصوات تلفظونها، تعلو و تنخفض ... ثم أن أسماءكم طويلة لا استطيع حفظها، كما أننا في هذا العمل لسنا بحاجة للأسماء ، نحن بحاجة للعمل و حسب . قال كلماته هذه، و هو ممسك بكوب الشاي في يده ، و همّ أن يمشي .. فتبعته : - بلى ، لنا أسماء ، و هي جميلة ، و عليك أن تحفظها و تنادينا بها ! اسمي كذا ، أنظر أليس جميلاً ! بعد هذه المشادة ، أصبح السيد فوغل يناديني بإسم العائلة ، كما يفعل أغلب الألمان هنا بكثير من الإحترام مستعملين ضمير المخاطبة " أنتم " .. بدأ يفعل ذلك ، ربما ليس لأنني قد ربحت الجولة معه ، و إنما تداركاً منه لتداعيات غير محببة قد تترتب على هذا الأمر . كأن تكبر المسألة و تخرج من إطار المزاح .. و لأنه كما كان يبدو من النوع الذي لا يحب المشاكل ، و قد يكون ذهب بعيداً في تفكيره ، أنني قد أقاضيه بتهمة التجريح .. كان سليم اللبناني قد انتقل قبلي للعمل مع فوغل، و قد حفظ هذا اسمه بعد فترة، و لكن بعد أن أدخل تعديلاً طفيفاً عليه، فكان يناديه "سالم " .. ذات مرة تقدم مني الهر فوغل، و قال لي : " أنت تركي " ، هكذا ، كعادته ، يأتي اليك ليخبرك شيئاً ، ينكد به صباحك ، دون مقدمات أو سبب وجيه . و مضى دون أن ينتظر ردي أو تعليقي ، فتبعته كالعادة أيضاً .. كأنه يريد من هذه الطريقة أن يحوّل الحديث معه الى عملية لحاق دائم به .. على إعتبار ، أنه لا يليق بالألماني أن يُحدّث الآخرين ، خاصة إذا ما انتموا الى عرق أدنى وفق تصنيفات الغلاة منهم .. و إنما على الآخرين أن يبادروا للحديث معه ، و أن يقوموا دائماً بالخطوة الأولى ,, و ربما أكثر .. - أنا لبناني و لست تركياً ، و لكن لماذا تقول لي ذلك ؟ سألته . لكنه لم يجب و طلب مني عملاً اقوم به . - أفعله ! و لكني لبناني و لست تركياً . رحت أصرخ كالمجنون ، هذا فيما لم أشعر بالمهانة من وصفه ذاك ، و قد كان بيننا أتراك كثر .. و لكنني أردت أن أناكده ..فعاد بعد أن هدأ الصراخ و قال لي : " أنتم كلكم أتراك " . - أين تبدأ حدود تركيا برأيك ؟ . سألته - تركيا تبدأ من هنا ، من نهاية حدود المانيا ، لذا كلكم أتراك . قال ببرودته المعهودة و غار في العمل كخلد . " من هنا " تبدأ حدود هولندا و بلجيكا و فرنسا ، و الى الشمال الدنمارك ,, فهذه البلدان كلها تركيا برأي السيد فوغل العزيز .. بعد أن انتقلت عدوى تعكير المزاج اليّ ، أصبحت أجد متعة في مناكدته ، كأن آتي و أخبره ببعض الأشياء ، التي أعرف أنها قد تغيظه ، و لكن بتقطير شديد و عن طريق التورية و الإشارة ، فقلت له مرةً : - هل تصدق ! لقد علمت أن أولئك السريلنكيين الذين يعملون في تقطيع صناديق الكرتون هناك ، حاصلون كلهم على الجنسية الألمانية ؟! نظر اليّ بغضب و مضى دون أن يقول شيئاً لكنه بدا حزينا جداً و قد راح يعمل بصمت و غضب أكثر .. فشعرت أنه كرهني و قد يقتلني لو تسنى له ذلك .. لكنه عاد بعد قليل و قال لي : - و لماذا تخبرني بذلك ؟ سألني و ظل واقفاً أمامي . - لا أعرف ! ظننت أنك يجب أن تعرف كل شيء هنا . .. بعد أن تواصل صمته و حزنه ، سألني سليم : - ما به ، ماذا فعلت له ؟ . فأخبرته .. فضحك كثيراً ، و قال ، أنه قد يموت جراء ذلك ! بعدها بأسابيع تأخر سليم في لبنان أثناء عطلته السنوية ، فسألني الهر فوغل عنه . - " لعله مريض ، أو أن ثمة مشاكل في الطائرات العائدة لكثرة العائدين ! " أجبته ، ثم سألني : - أتعرف ماذا سيحصل مع سليم ؟ قلت : لا ، لا أعرف ! . - سوف تقلع الطائرة به و ترتفع و من ثم ترتفع أكثر هكذا الى الأعلى ( و رسم محوراً في يده ) و من ثم تهوي ( و أشار بيده نحو صندوق القمامة الحديدي الكبير ) و تتحطم على الأرض . نظرت اليه بتعجب ، على إعتبار ، أن سليم ما انفكيحدثني عن علاقته المميزة معه ، و أن الهر فوغل يسر له بخفايا العمل و ما شابه ، و أنه يكن له مودة خاصة . - لماذا تقول هذا ، فيما سليم يتمنى لك كل خير . قلت له . - و أنا كذلك ، و لكن المسألة ليست بالتمنيات ، فهذا ما سيحصل . - سوف أتصل به و أقول له أن لا يأتي إذاً ، طالما الأمر على هذا النحو . - إذا تأخر يوماً إضافياً سوف أطردك معه ! قال قبل أن ينهمك في العمل كالمعتاد .. ذات صباح مشرق على غير عادة ، أتيت الى الهر فوغل و قلت له : - أصبحت في عداد من تحق لهم الجنسية الألمانية ، و لكني لا أزال أفكر في الأمر .. زأرني كأسد ، و مضى يقول لازمته الشهيرة " تابع ! " . - لماذا تكرهني بشكل خاص ؟ ثم هل أن السريلنكيين أفضل مني ؟ . - انا لا أكرهك بشكل مميز ، ثمة من أكرهم أكثر ( اليهود ربما! ، تساءلت في نفسي ) ، أمّا إذا ما حصلت على جنسيتنا فسوف لن أطيق رؤية وجهك ! قال بشيء من المزاح الذي يحتمل الجد . - أنت تكرهني هكذا أيضاً ، دون أن أحمل جنسيتكم العظيمة . - إذا لم تحصل عليها ! سوف أظل أكرهك بشكل عادي .. على إعتبار أن إحتمالاً ضيئلاً ، يظل قائماً، و هو ، أن تركب رأسك و تغادرنا بالتوفيق و السلامة عائداً الى بلادك الجميلة و المُشمسة دائماً . - حسناً سوف لن أحصل عليها ، و ذلك لكي نبقى أصدقاء . قلت ساخراً . فشزرني بعد أن أحسّ أنني أمننه على تعففي عن رمي أحجاري المنحطة في بئر نقاءه المتفوق ، و ذلك بعد قدرة . - هذه الحكومة غبية و لا تعرف ماذا تفعل . كانت هذه عينة عن بعض النازيين اللطفاء . فيما كان الآخرون منهم في العمل ، لا يلقون التحية على الأجانب ، و يكتفون بالنظرات المريبة و الكارهة لهذه الوجوه الأجنبية التي تمكث الى جانبهم و تشاطرهم العمل و القرف .. و الرخاء !