صدمة حكيم تقدمت جدتي الموكب تحمل في ذراعيها أخي الرضيع في لفافة من صوف ليدلي بصوته كخلف بديل عن أبي كما نصحها "السياسي الحكيم "...تسوق وراءها ابنيها وثلاث خيمات. لم تكن تلك الخيمات الثلاث غير أمي وزوجتي عمي طاهر وناصر المتلفعات في حياكهن السوداء كما المغلولات المسوقات إلى مصير مجهول. وهن في الحقيقة كذلك لا يملكن شيئا من أمرهن. لا يملكن غير الطاعة والانصياع لأوامر جدتي وإلا أغارت عليهن ابنيها فيحيلانها أمام عينيها غبارا... أمام عيني الحانقتين، مضى هذا الموكب الهرمي في انضباط وخشوع يهتف بصمت باسم السي حمو البرغوتي.. السياسي البارز الذي اكتشفته عائلتنا، كريما سخيا يوثر مصلحة القرية عن مصلحته و في يده مخطط سحري سيحول به بلدتنا المنغلقة المهمشة، في لمحة البصر، إلى مملكة عظيمة. فسالت سيول من ريق جدتي، وسخرت حكمتها التي لا تقل عن حكمة السياسي " الحكيم" ، لتظفر بنصيب أوفر من جود عصاه... استدعته في المرحلة الأخيرة من حملته الانتخابية وأغدقت عليه بما لذ وطاب من أصناف الطعام وبالغالي والنفيس من الهدايا. واكتشف لها في "بطليها" ناصر وطاهر ما لم تكشفه لها السنون. تجشأ وقال لها ويداه تربتان على كتفيهما:".. اٍنهما، يا سيدتي، نعم الخلف، جادت عليهما السماء بعلم غزير كما تجود على هذه الأرض الطيبة بوافر جودها، سوف أسند إليهما مهاما حساسة داخل المجلس ليستضيء بنورهما الفطري وسيقودان معي مسيرة هذه القرية ... " ضربت الجدة على صدرها فخورة ممنونة ولسانها يردد في اقتناع :" بجهد النبي وبركة الولي سيدي امحند لغريب..." إلا أن الحقيقة التي غابت عن جدتي والتي لم تدركها إلا بعد فوات الأوان، أن السي حمو قد حضن عصاه وانفرد بجودها دون أن يلتفت إليها أو إلى ابنيها أو إلى قريتها... فلم تجد الجدة، التي تربعت على عرش الحكيمات في قبيلتنا، بدا من أن تقتحم عليه مجلسه لتستعيد صوتها وأصوات ذويها ومصاريف الولائم والهدايا التي أثخنته بها. في صبيحة الحساب والتصفية صفعت جدتي بحقيقة مرة ناقرة كانت عنها غافلة مغفلة مثل حفيدها.."التصويت يخضع لقانون الزمن يا سيدتي!.." فثارت ثائرتها وهاجت عصافير جمجمتها فعادت أدراجها تأكل بعضها البعض... قهرت الجدة في طريقها إلى البيت، قانون الزمن الذي يقال عنه أنه إذا مضى لن يعود أبدا. أعادته إلى الوراء بالتفصيل الدقيق ووقفت عند دقائق جزئياته... الاستعمار الذي خطف زوجها من فراشها وانمحى أثره.. المجاعة التي نخرت عظمها سنين طويلة والتهمت ابنتها الوحيدة.. الأفواه الثلاث التي لا تكف عن الصراخ.. عراكها مع الزمن الذي قيل عنه أنه لا يعود مثل التصويت الذي سلبه منها حمو البرغوتي. فثقل رأسها، وشحذت طاقاتها، وحثت خطاها تستعجل البيت لتلقي فيه بهزيمتها الثقيلة ثقل تلك الحقبة الموحشة من حياتها. دفعت الباب بكلتي يديها. انفرج على مصراعيه. انتصبت وسطه كقائد العسكر الإسباني يوم اقتحم بيتها وخطف زوجها. جحظت عينيها وفرشت فناء البيت بشرارة كهربائية هزمت بها أشعة الشمس في عز نهار ذلك اليوم ، وانتصب الكل أمامها مرتعشين مرعوبين. فتحت ثغرها ورجمت ابنيها المنكمشين كالدجاجات "المريشة" بحمم بركانية وكست زوجتيهما بألسنة لهب.. اندثر الهدوء وحل الدمار.. سب، لعن، ضرب، صراخ ، دماء.. تنهدت جدتي من أعماقها وقطعت الفناء بخطوات ثابتة فأقفلت عليها في غرفتها وصلت ثم انهارت ولم تتوضأ...