الكل يبارك ـ 3 و 4 ـ 3 ـ تهافتت خطواته مع أنفاسه لاهثة تشق أزقة حارته... تسبقه خطاه تتلهف ارتشاف بصمات عبق يرتج في داخله...طلاء جديد يكسو الجدران... رائحة غريبة تغمر المكان... صخب موسيقي يشق الحيطان... الأزقة الضيقة التي كانت مرتعا للكلاب الضالة، ومرفأ للقمامات، وسعت ونظفت وعطرت وشجرت.. سيارات من أرقى طراز بلوحات أجنبية ومحلية تخترقها في كل حين...حسناوات في ألبسة فارهة وقصات شعر مثيرة وعراء ظاهر ينطن من هنا وهناك تهاجمهن عيون فاتنة وتعري ما يسترن... يلتهمن جانبيه بغواية... يشبكنه بعطرهن ويمضين مترنحات ضاحكات... يتركنه يتعارك مع نفسه يتخبط في خيوط ذنب لم يرتكبه... بصق الحاج يمينا وشمالا ومضى منكمشا على نفسه يلتصق بالجدران كشاة تطاردها ظلال ذئاب... ساقه خيط عطر سكن جوانحه، إلى مجمع أصدقائه ورفاق دربه... مسجد حوصر في زاوية ضيقة سكن بوابته عجوز ضرير يستعطف الأطياف... تهالك الحاج غير بعيد منه يستند إلى جدار آيل للسقوط يدثره برائحة زمن لم يبق منه غير أطياف... صفعته ذيول الخيبة... لذعته مرارة الغربة...وخزته حكاية ثعلبة...تحسر على ثعالب زمانه ولون حيه الذي عشقه حتى الجنون وقام ينفض عليه الغبار ولسانه يترحم على لون حارته وأصدقائه الأموات والأحياء منهم... تطلع إلى السماء بعينين مغرورقتين... فاض قلبه باللعنات على فاطنة المفتونة التي يحكى أن على يديها دبت الحياة وشعت الأضواء في الحارة... هتف متحرقا وهو يكبح رغبة في الصراخ : الدم الذي استشرى في شرايين الحارة دم ملوث.. الشعاع الذي يطلي سماءها شعاع الأورانيوم... انسلخت عنه نفسه تجره خطواته... زحمة خانقة... وحدة قاتلة... رفاقه هجروه إلى فضاء غير فضائه واستقبلوا بين عشية وضحاها قبلة غير قبلته... جاره العجوز الذي طالما جمعتهما طاولة اللعب في بقالته يرتشفان القهوة ويتجاذبان ألوان الحديث وضحكاتهما تردد أصداءها الأزقة الضيقة، أضحى كالنجم لا يظهر في الحي إلا في الليل... امتصه نشاط فاطنة كما امتص كثيرا من أبناء الحارة.. سرى في عوده النحيف الجاف دم الشباب، الذي هجره في شبابه... دكانه الذي اقتطعه من بيته القديم يسترزق منه ويعول أسرة ممتدة الأطراف، علق أعلاه لوحة للإيجار يستقبل فيه الزبناء...بيته المهترئ الذي طالما شق جدرانه الأنين وتذبذب بالصقيع والجوع صار دافئا، عطره يعانق الأنوف من مسافات بعيدة. رممه وبنا فوقه الطابق الأول فالثاني وأجر غرفه كل واحدة على حدة... وغاص في نشاط فاطنة، سوسة الحي، التي تكمم الأفواه التي تثير الغبار حول نشاطها بشعارها الذي تردده الألسن كأنه حكمة الزمان: "الربح أوفر والأجرة مضمونة ومعها الهدايا والعمولة على حسن الاستقبال والمعاملة..." تفنن الجار العجوز في نشاطها وأبدع وبرع ... فندق "سبع نجوم" شرع أبوابهلاستقبال الوافدين على الحارة... النزلاء في رحابه من صنف خاص كأن الجار يغربلهم في غربال من نوع خاص أيضا رغم أن اللوحة المعلنة للإيجار لا تنطق بغير الرغبة في كراء غرف بيته... كلهم فتيات في عمر الزهور يرقص عودهن عنفوانا وينطق جسدهن بهاء وأنوثة.. لا أثر للرجال إلا ليطرقوا السمع وهم خارجون من سياراتهم الفارهة: هيا يا حلوة.. فتنزل الراقصات عنفوانا تسبقهن ضحكات رنانة ورائحة عطر أخاذ... ينقرن الأرض في غنج ودلال ويرتمين في الأحضان أو يندسن في السيارات، أحيانا فرادى وأحيانا جماعات تاركات شذى عطورهن يملأ الحارة المخدرة، ووراءهن أخريات ينقرن الهواتف المحمولة بضيق الأنفس.. هام الحاج في تخمينات شتى يسكت بها حيرته وهو يتعقب نشاط جاره من نافذته... لعل الفتيات ولدن وفي أفواههن ملاعق من ذهب ولعل الزوار أقاربهن...ليستفيق يوما، مع انبلاج الصباح، على صوت سيارة مزمجر كأن السائق اعترض طريقه خطر فجائي، ففرمل فرملة مباغتة.. انتصب على إثرها واقفا في نافذته.. تفجر قمقم فندق جاره العجوز أمام عينيه.. الحسناوات اللاتي ودعهن في المساء زهورا متفتحة يسحبن من السيارة شبه عاريات وشبه حيات يتغرغر الصوت في حلوقهن وهن محمولات على الأكتاف... دفع بهن سائق السيارة ورفيقه في غرفهن ثم لمسا يد العجوز المتيقظ المستيقظ كأنه لم يكن ذاك الميت دائما وراء "الكونتوار" في بقالته وانطلقا عائدين.. صعق الحاج بحقيقة حارته ... نزل من طوله يقبض على رأسه يولول: كم أنا غريب عن مجتمعي!!!... كم أنا غريب عن مجتمعي!!!... ـ 4 ـ تسمر الحاج أمام بوابة بيته كمن يترقب صيدا ويخشى أن يفوته.. عيناه على باب " فندق" جاره الذي ينطفئ طول النهار.. نزلت النزيلات تسبقهن ضحكاتهن ونقرات أكعاب أحذيتهن على الدرج.. تقدم الحاج يعترض طريقهن.. يتصنع الهدوء وهو يكبح رغبة إضرام النار في أجسادهن وفي البيت الذي يحتويهن... بادرهن بالقول: لعلكن جديدات في الحارة؟؟؟ وماذا بعد يا حاج؟؟... وهل يغيظك تواجدنا هنا ونحن رموز الحياة؟؟.. أنظر حولك ما أحلانا.. حز في نفسي أن يهدر هذا الشباب وهذا الجمال ويضيعان هدرا في العفن والمستقبل أمامكن... المستقبل ؟؟؟ هذا مستقبلنا ثم أطلقن ضحكات مدوية قائلات بفتنة: نحن مع اللي (الذي) يعطي...وإذا أعطيت يا حاج ما نبخل...؟؟ غدا ستتزوجن وتنلن نصيبكن من الحياة هنيئا مريئا.. لا سيدي لا تغلط .. نحن لا قدر الله لا نجري وراء الشهوة.. نحن نجري وراء لقمة العيش.. وأكدت الأخرى: نسترزق، يا باشا، كباقي خلق الله.. تفهم نحن نسترزق ونعول أسرا. لتندفع الثالثة: مدني بعمل يفي باحتياجاتي تركت ما يغيظك ويغيظني في الصميم... تطلع إليهن الحاج في حيرة وصدمة وهن يمضين ويشرن له إلى لائحة أسماء زبائنهن على شاشات هواتفهن لتنطق إحداهن بغواية وبصوت مترنم: مدني يا جاري برقمك ربما منحتك الشباب يوما.. هيا يا حاج.. نهرتها الأخرى: هو ما عاد منه فايدة (فائدة).. شوفي ليك ( لك ) شي واحد على راي ( رأي ) أمي إعيشك ويريشك نقرت بطنها المنفوخ وأضافت: تعلمي من أختك.. الصيد وقعت ( أوقعت ) باباه في الشبكة.. حوقل الحاج المغترب دائما والمنزوي أبدا يثني على حارته ويتغنى بعراقتها وأخلاقها... همهم متحسرا مغلوبا على أمره: بالأمس كان الأمر سرا واليوم علنا وغدا بالقانون... خطوة خطوة، ومن كان اليوم يستنكر غدا سيبارك.. انصرف يجر معه ذيول الخيبة.. أقفل عليه في زنزانته يتلظى بنيرانه والكلاب المسعورة تستفز أعصابه المنهكة بشكل غير محتمل.. فصرخ من نافذته، بصوت مبحوح أنهكه الكلام والجري وراء السراب: هل من راد للمنكر؟؟؟ كمم فوه بالحجارة وصدحت الأبواق تخترق طبلتي أذنيه: دعك في منفاك ودع سوق الشغل ينتعش ونجم "السياحة" يلعلع حتى تتوافق الأرقام مع التخمينات... لم الحاج إليه أطرافه ودفن لسانه في أغوار فمه وركن في زاويته لا يبرحها قط.. ولما كبس خاطر على نفسه قبض على يد الحاجة وهمهم والدمع يترقرق في عينيه العالقتين في السماء: اللهم اشهد، أنا الغريب عن ناسي ومجتمعي، أن لا حول ولا قوة لي.. وانطفأ.
ش