لما تعمل العيون الخفية

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : سمية البوغافرية | المصدر : www.arabicstory.net

 

لما تعمل العيون الخفية...
 

 

أخيرا، انفتحت بوابة الشرطة.. انفتحت على مصراعيها وأمام كل الطارقين.. ليت كل أبواب الرزق تنفتح يوما! .. لا يأس مع الحياة.. من كان يصدق صاحب سوابق مثلي سيعين شرطيا في وسط العاصمة !.. أنا أحلم.. لكن هذه بذلتي وتلك قبعتي وهذا مسدسي.. كل أسباب العز في يدك يا ماجد..

 

عانق ماجد بذلته وأمطرها بقبلات مسموعة ثم شرع يلبسها أمام المرآة. لم تضايقه نحافة وجهه المفرطة وفمه الأجوف الواسع الشاسع الممسوح من الأسنان.. منذ سنوات أعلن السلام مع اللقمة ليتصالح مع الهواء والسوائل المتاحة.. تلألأت أمامه كالنجوم مسالك المجد، التي سطرها في ذهنه فغفل عما رسبه الزمن في أعماقه من هموم وما خلفه على وجهه من آثار ليصدح بفرحة غامرة: ما أحلاك يا ماجد! ما أروعك في هندامك! اليوم ميلادك.. اليوم ستعانق المجد بيديك.. قفز في الهواء ثم عانق نفسه وأضاف بنشوة عارمة: فليكثر المخالفون والمخطئون والمندفعون والمسرعون والمتهورون والمنحرفون.. من أجلهم سأعمل ومن أجلهم سأعيش ومن دمهم سأحيى حياة البذخ والترف.. علي أن أتقن فنون التخطيء والحساب.. أجل سأكون كذلك.. أنت أفرطت في السرعة .. أنت أحرقت الضوء الأحمر.. أنت تجاوزت السيارات في مكان لا يسمح فيه التجاوز.. أنت تعرض نفسك وغيرك للخطر..

 

لسعته ذكرى اندفاعه التي زجت به في بحر المعانات.. غمغم متحسرا: ما أقسى أن يفقد المرء مورد رزقه ورزق عياله في زمن أوصدت فيه أبواب الرزق..! أهون عليه أن يبتر عضو من أعضائه من أن يقطع رزقه. وازن بين حجم العقوبة والمخالفة.. احتوته مرارة الظلم فردد متألما.. لم أقتل ولم أوذي أحدا فلما العقوبة إذن؟؟.. التهافت على الكسب أمر مشروع.. الحياة غول ما يكسبه المرء بيمينه طول اليوم تصرفه يسراه في رمشة العين.. الأسعار ملتهبة.. الوقت لا يرحم.. لو تجلد المرء بالهدوء والرصانة وانتظر رزقه لمات جوعا في مهده.. ماذا فعلت؟.. ماذا فعلت حتى يعدموا الحياة في شراييني؟.. حاولت أن أخطف زبونا كان ينتظر طاكسيا( سيارة أجرة) آخر؟.. فالطاكسي الأول كان مكدسا بالزبائن وسيارتي كانت فارغة.. أليس هذا عدلا؟.. أليس ظلم أن يموت أحدنا بالتخمة والآخر يموت جوعا.. أم أن النتيجة سوت بين الأمرين؟.. كنت سأودي بحياة الزبون وحياة الآخرين لولا لطف الله؟.. الله لطف بعبده.. فلما لا يلطف العبد بأخيه؟..

 

استدار أمام المرآة. راقه مظهره فأسفر عن ابتسامة رضا وإعجاب وغمغم بصيغة المسامح المتصالح مع نفسه ومع الشرطي العدو:

 

ـ سأكون مع زبائني صارما وكريما في الآن ذاته. سأقبل كل ما يجودون به علي.. لن أكون مصاص دماء.. لن أقطع رزق أحد..

 

نزل إلى الشارع في هندامه الجديد وهو يدب الأرض ويرد على تحايا وتهاني رفاق دربه وجيرانه بزهو طاووسي. ومن حين لآخر يتفقد قبعته ومسدسه وهو يتخيل طوابير المعجبين قد سطر بهم الطريق.

 

بلغ الميدان في نشاط مثير وملأ الشارع حركة وصفيرا.. انضباط قل ما تجود به الطبيعة البشرية.. بدا الشارع كأنه بساط تسير عليه سيارات أوتوماتيكية.. تملكته نشوة الفخر والخيبة في الآن ذاته وغمغم مخاطبا نفسه : غيرت مجرى الأحداث في ساعات معدودة يا ماجد.. وماذا لو أنيطت بك زمام الأمور في البلاد؟ لا شك أنك ستضع حدا للفوضى وستغلق أبواب المحاكم والسجون إلى الأبد.. ولكن ما الجدوى من النظام والانضباط إذا كنت سأموت جوعا؟.. دائما الضعيف هو الذي يدفع الضريبة؟؟.. لن أكون كبش الفداء… أريد أن أعيش…

 

ناصفت الشمس قبة السماء.. قرصه وعده لأسرته بأنه لن يعود إلى بيته إلا بقفة مملوءة بكل ما لذ وطاب..القفة ما تزال فارغة.. وزوجته قابعة في البيت.. لن تعود زوجتي حليمة إلى تنظيف بيوت الجيران.. فلتتعفن بيوتهم تعفن بطونهم.. سأوفي لها بوعدي.. ملعون النظام والانضباط.. خلع ماجد قبعته.. أخفى مسدسه.. تهرج في حركاته.. توارى قليلا يراقب الشارع من بعيد.. الأمر على حاله.. كأن الملائكة حطت اليوم رحالها على الأرض وأبت أن تتزعزع.. انتصبت أمامه ـ كما العدو ـ اللوحة المدون عليها بخط عريض “لنغير سلوكنا” فود لو تتغير صورة الشارع، التي تستفزه في الأعماق، وينقلب رأسا على عقب..

 

اندفع إلى وسط الشارع كالبهلوان وهو يصدح: لنغير سلوكنا.. لنعانق الفوضى.. لنتسابق.. لنتطاحن.. لنتماوت.. كم “موتة” كانت رحمة بنا.. كم “موتة” أحيت الأموات منا.. الأرض ضاقت بنا.. لنتماوت وتتنفس الأرض.. نثر حركات مجنونة. عبث. تهرج. رقص… وقف له الانضباط بالمرصاد.. أبى أن يتزعزع كأن سيوفا خفية سلطت على الرقاب.. جن جنونه.. احتدت به رغبة استدراج الضحايا إلى جانب الشارع فهتف كما المسعور: لن أدع هذا اليوم يمر إلا وجيوبي دافئة وقفتي مملوءة.. وهل من ثمة شيء قادتني إلى هذه المهنة الملعونة غير الحسنة؟ وهل الحسنة حرام في حق أمثالي؟.. كشر وانقض.. صفع برد عنيف ورجم بأقذع ما تكنزه النفوس البشرية إذا استغفلت..

 

تفحص قبعته ومسدسه واستقام في وقفته.. تسلح بحكمة الأباطرة.. دم الغلابة والمغفلين مضمون ومأمون العواقب.. يكفي أن تشهر سيف قطع الرزق في وجوههم حتى يغدقوا عليك بالغالي والنفيس.. عليك أن تجيد الصيد يا ماجد.. ألقى صنارته ثانية وثالثة.. لم يبادر أحد بالوقوف إليه.. يرمونه بالجنون ثم يمضون إلى حال سبيلهم.. حيره الأمر إلى حد الدوخة بل إلى حد الغثيان. تساءل محتارا: ماذا جرى؟ أليست إشارة رجل المرور أمرا مطاعا؟ وصفيره صفارة إنذار؟..

 

لاحت له سيارة قادمة تسوقها امرأة عجوز فكشر وزمجر وأقسم ألا يدعها تمضي إلا إذا قدمت عربون التأشيرة.. وهل الدنيا فوضى؟.. الدنيا ليست فوضى.. وهج مصباحي مقلتيه وسطا سطوة جبارة يوقف السيارة فإذا بالمفاجأة التي لم تكن في الحسبان تبعثر كل أوراقه وتشت كل أحلامه يتلقاها في جواب العجوز:

 

ـ ما لكم انتما ما بغيتوش تخلاو على عاداتكم القديمة…صرتم كيف الكلاب فالليل لا تهوى شيئا كيف النباح( لماذا لا تريدون أن تتخلوا على عاداتكم القديمة.. صرتم كالكلاب في الليل لا تهوى شيئا مثل النباح) … سأشكو بك لأسيادك وسأقطع رزقك...

 

ـ وهل شفيت من أثر قطعه .. كيف تجرئين يا عجوز على مثل هذا القول وأنت عمشاء حولاء تجهدين نفسك لكشف الطريق؟.. هات أوراقك.. أنت خطر على نفسك وعلى غيرك.. سأسحب منك الرخصة وسأقاضي من منحك إياها..

 

ـ أنا التي أتساءل عما دهاك وأنت تصفر وتهدد وتندد

 

ـ سأقيد عليك المخالفة وطول لسانك على أسيادك

 

ـ سجل في كناشك ما بدا لك. وهل عاد الآن لمثل كناشك فائدة؟

 

ـ أنت قد تجاوزت الحدود.. سأنقذك من تهورك وأنقذ الآخرين من جنونك.. لن أدعك تمرين دون حساب.. هاتي أوراقك..

 

ضحكت المرأة ساخرة وراحت تمضي فإذا بالشرطي يكبح دورة المقود ويمنعها من المرور.. ابتسمت له العجوز وفتحت الباب. طار ماجد يجري فرحا وجلس بجانبها وهو يقول لها بنبرة مفعمة بروح الطيبة والتسامح:

 

ـ كل شيء قابل للإصلاح يا سيدتي، فما دوري هنا غير حمايتك..

 

ـ ألم تنتبه إلى جهاز المراقبة في سيارتي؟.. ثم عن أي خطأ تتحدث وبسمة الرضا لم تبرح شاشة الجهاز منذ أن غادرت البيت حتى هذه اللحظة؟.. وهل عاد بإمكاننا الخطأ مع هذا السيف المسلط على رقابنا؟.. إنه يتحول إلى صفارة إنذار لا تطاق لأبسط الهفوات، وإذا تماديت في الخطأ فإنه تكبح الفرامل وتنسد الأبواب ولا تنفتح إلا بعد ساعات.. مع هذا الجهاز أحس أن السيارة هي التي تقودني..لا أخفي عليك أني أحس بالأمان والمتعة وأنا أسوق..

 

ثم ضحكت بحماقة وأدارت شريط الجهاز الذي عرض مشوارها من لحظة مغادرتها البيت إلى حين اللحظة التي تتحدث فيها مع الشرطي وقالت:

 

ـ تعلم، سيدي، أن الجهاز قد سجل عليك جريمة الإخلال بالمسئولية، وأني بالضغط على هذا الزر سأقطع رزقك؟..

 

غمغم بينه وبين نفسه:” يبدو أن قطع الرزق قدري..” ثم قال محدقا في المرأة التي أبدت نوعا من التعاطف معه:

 

ـ.. أنا إذن ديكور في الشارع

 

ـ كلا سيدي، أنت لست ديكورا.. أنت رجل مرور توجه التائه وتدله على الطريق.. ترعى الطفل وتعلمه.. ترشد العجوز والضرير.. تحمي الشارع من الحاقدين الذين يغيظهم النظام والهدوء.. تحمي الأبرياء من أوزار النفوس المريضة.. أما السيارات فلها جهاز يحميها…

 

برق في ذهن الشرطي سر ظاهرة الاستقالات التي طالت وظيفة الشرطة وانفك أمامه لغز انفتاح بابها على مصراعيه، فلعن الغفلة ونزل منهارا مثقلا بخيبة الأمل يجر رجليه ويندب حظه. مضى مضطربا في خطواته وهو يحدث نفسه كما المجنون.. خلع قفازيه وألقى بهما في الهواء.. بصق على بذلته التي غادرها الكل كما تغادر الأفاعي جلودها ثم ما لبث أن اعتراه الهدوء وأسفرت شفتاه على ابتسامة عريضة، رغم السياط التي تجلده، حينما رصدت عيناه المتطلعتان إلى الأفق قوافل من المسئولين يهجرون أوكار العز فرارا من العيون الخفية المدسوسة في كل الأركان...