ليلى

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : ياسر عبد الباقي | المصدر : www.arabicstory.net

استوقفني فجأة في الشارع ، حدق إلي بعينين باردتين ، وقال ببرودة أكثر : أعرف بما تفكر ! لكني تابعت طريقي دون اهتمام ، لم أشأ أن أرفع رأسي لأستمع إليه ، وكانت خطاي تجرني ، أضاف الرجل وأن تركني أخطو خطوات بعيدة عنه : الانتحار .

كانت كلمة الانتحار توشك أن تفتت طبلتي ، كان ظهري في اتجاهه ، وذقني ما زال متدل على صدري ، قدماي قد توقفتا ، لكن ذهني ما زال يعمل ، لا أحد يعلم ما أنوي عمله ، هذا اليوم لم يكن يوماً عادياً ، منذ أن استملت الرسالة الملعونة صباحاً ، أيقنت أن حياتي قد انتهت ، حياتي كانت معلقة بهذه الرسالة ناولني ساعي البريد الرسالة وهو غير مصدق ، مسكين ! لا يعلم أن الرسالة الأولى التي استملتها منه تعني الموت ، وضعتها على الرف دون أن أفتحها ، جلست في ركن الغرفة ، ركبتاي على صدري لويت ذراعي حولهما بقوة آملة درء ضربات قلبي المتأججة ، أطلقت لعيناي حرية النظر إلى الرف حيث بدأت الرسالة تهتز رويداً رويداً من تيارات هواء المروحة ، لم أعرف كم من الساعات مضت وأنا في هذه الحالة، محشور في زاوية الغرفة ، خائف من رسالة لم أقرأها بعد .

واصلت طريقي ، اعتقدت أني أحلم ، وأن كلمة الانتحار من نسيج خيالي لكن نفس الصوت ردد : أنتظر !.

استدرت نحوه ، رفعت أهدابي إلى أعلى حتى أراه ، قال وخطواته ثقيلة ككلماته : هيه ! "العالم لا يتسع لنا" !! .

رفعت رأسي قليلاً عن صدري ، العالم لا يتسع لنا ، استهوت انتباهي ، اقترب جفف عرقه بمنديله ، لكنه لم يستطع أن يمسح رائحته ، ابتسم نصف ابتسامة ، والنصف الأخر لعق ركن شفتيه بلسانه ، وقال : أعرف ! .

سحبت شفتاي إلى الداخل ، كنت متوتراً ، قلقاً ، أربكني شكله ، أخافتني كلماتـه ، سألت : ماذا ؟! عادت الابتسامة الباهتة وصوته البارد : تود الانتحار .

صرخت لكن الصرخة خفيفة ، مرتبكة : أنت مجنون ، مازلت متعلقا بهذه الحياة .

أوقفني الرجل قائلاً قبل أن أستدير: أنا ذاهب معك .

-إلى أين ؟!

-للانتحار .

هوت الرسالة إلى سريري وكأنه العالم كله هوى على رأسي ، أطفأت المروحة ، أغلقت نافذة غرفتي لا منع الريح من التطفل ، أمسكت ظرف الرسالة من زاويتها ، استمر قلبي في لكم صدري بكل قواه كلما أمعنت النظر إليها وأسمي وعنواني مكتوب بخط رديء مشوش ، رميت الرسالة على السرير ، وجلست لأبكي .

سرنا معاً كصديقين ، الليل في الثلث الأخير ، الظلام في رداء أسود ، الطريق مقفر سوى من بعض الأحجار الملساء ، رائحة البحر طغت على رائحته الكريهة ، صوت القواقع من تحتنا تتكسر ، الهدير يصطدم في الصخور ليبلع البحر صداه ،يكسر الرجل الصمت الإنساني يسألني عن سبب الانتحار .

استعملت الوسادة كمنشفة لأمسح بها دموعي ، تركت رأسي يهوي إلى الخلف ، تسمرت عيناي إلى السقف .

إذ كانت المروحة واقفة بأجنحتها ، تمنيت أن تسقط لتحطم عنقي ، أغمضت عينيي وتخيلتها تسقط ، عدت لأحدق بالرسالة الملعونة أمسكت البطانية بأطراف أصابعي وشدتها ، فمالت كلها نحوي ، فتسقط على حجري وكذلك الرسالة ، أمسكتها وضممتها إلى صدري وعدت لأبكي ، التقيت بها صدفة في منطقتها ، ساعدتني في إنهاء معاملتي ، لم تكن جذابة ، لكنها ، رقيقة ، طيبة ، تطورت علاقتنا ، واتصالاتنا ، عرفت الحب معها لأول مرة ، رفضتني عائلتها .. لأنها لابن عمها هكذا رسموا حياتها ، مستقبلها ، لكننا لم نقطع تواصلنا ، كان التلفون وسيلتنا ، ذات يوم قطعت ساعات طويلة لتصل إلي ، كانت شاحبة بائسة، خائفة ، اندلعت قائلة : يا إلهي ، حبيبي ضمني إليك .. بقوة .. بقوة ، إذ كانت يائسة تلك الليلة ، وانقطعت أخبارها عني لفترة ، لكنها عادت لتتصل بي ، كلمات متهدجة ، باكية ، أخبرتني أنها سوف تتزوج بأبن عمها ، لكنها تفضل الموت على ذلك ، لا تحبه،تمقته ، أنا أيضاً فكرت بالموت ، كنا نفهم بعضنا ، قالت لن تتزوجه ، ستقتل نفسها ببندقية والدها ، وسوف تبعث لي رسالة لتخبرني بقرارها في الانتحار .

تمتم الرجل : آه ..

خيل لي أنه كان يبتسم ، تابعنا خُطانا نحو المرتفع دون كلل ، بدأنا نشعر بالبرد ، والجو جميل ، رائع أن نموت في مثل هذا الوقت ، هكذا بدا الرجل يتكلم وعادت رائحته تعطر أنفي ، أشعل سيجارته لعلها كانت أخر سيجارة يدخنها .

قال قصتك تشبه قصتي ، الحب هو هدف الانتحار يا للنساء يجبرنا على الانتحار من أجلهن وهن يتمتعن بالحياة ، أحببتها منذ أن كانت صغيرة ، كنت أراقبها وهي تكبر وتزداد فتنة ، الجميع بارك زواجنا ، استعدنا للزواج ، أقمنا حفلا كبيرا حتى ....، وصمت احترمت صمته.

هو مطوية في البطانية ، أشعلت الثقاب ، خرجت إلى الأبد مغلقاً الباب خلفي ، إذ فيما بعد صادفت الرجل ..

كنا قد وصلنا إلى نهاية المرتفع سألته : ماذا حدث بعد ذلك ؟ ماتت ! لكنه سألني : خائف ؟!.

نظرت إلى الأسفل ، هززت رأسي بالنفي : لا .. لست خائف ، وأضفت ساخراً : أنا ، أتشوق إلى الانتحار ، أمسك بقوة معصمي ، قال بصوت عذب لم أعهده : لا .. لم تمت .. قبل ساعات من الحفل ، أخبرتني بأنها لا تحبني ، وروت لي علاقتها مع آخر ، كنت أظن بأني أحلم ، أو أنها كانت تمزح .. والحفل في غاية البذخ ، لكنها لم تأتِ .. أيقنت آنذاك بأني لم أكن أحلم ، وأنها لم تمزح معي ..

حركت رأسي أسفاً لأجله ، سألني أن كنت ما زلت أفكر في الانتحار ، أجبته بنعم ، وزادت قبضته بقوة على معصمي ، تراجعنا قليلاً إلى الوراء ، اندفعنا معاً إلى الأمام ، قفزنا إلى الأعلى ، ثم سقطنا إلى الهاوية .. الهاوية حيث ما زالت يده في معصمي سمعته يصرخ وصرخته تلحقنا قائلاً أتدري ! .. أنا من بعث إليك بالرسالة ، وهوت ضحكاته معنا إلى الأعماق ...