الراس أخفاك والدك في سلة من القش ورماك في النهر. هكذا بدأت تحدثني أمي, بصوتها الهادئ الجميل , أردت أن أتفوه بشيء إلا أني عجزت. بقي ثغري مفتوحاً بدهشة ممزوجة بعدم التصديق , وسألتها : وأنت من تكونين ؟ ابتسمت , ووضعت يدها على ذقني بلطف وتمتمت : أنا امرأة عجوز , أخذت على عاتقي أن أربيك وأجعلك أفضل رجال قريتك , ها أنت لم تبلغ بعد العشرين , لكنك أقواهم وأشجعهم . قلت غير مصدق : لم أشعر يوماً أنك لست أمي , لماذا أبي رماني في البحر. نظرت أمي إلى وجهي طويلاً , وكأنها تتفرس وجهي , ثم نهضت فجأة , ودخلت المطبخ وأحضرت وعاءً مليئًا بالدقيق , وقالت بصوت حزين ويدها تدلك الدقيق بالماء : ليحميك من الثأر, بني هي قصة طويلة مؤلمة, قبل عشرين سنه كانت هناك عائلتان في القرية المجاورة لنا , كل عائلة تكره الأخرى . أحد هذه العائلات هي عائلة والداك ، عائله ذات نفوذ وقوة والعائلة الأخرى كانت ضعيفة جدا , وطمعت العائلة الغنية بأرض العائلة الأخرى , وحدث بينهم اقتتال و.. وسكتت أمي العجوز وراحت لتحضر الماء وتصبه على الدقيق وكنت أراقبها , والقلق قد تملكني, قالت وهي تنظر إلى الدقيق : ستصبح العصيدة جاهزة بعد دقائق . لم أعد احتمل الانتظار فصرخت : ماذا حدث بعد ذلك يا أمي . نظرت إلي مبتسمة , ابتسامتها التي تشعرني بالدفء والاطمئنان , قالت : فقدت العائلة الفقيرة كل شي , مات أبناؤها الصغار الثلاثة , والزوج , أما الزوجة فأنها استطاعت الهرب . قدمت لي أمي العصيدة , وقالت : كلًّ يا ابني العزيز. ثم تابعت تقول ورأسها إلى سقف البيت : أنت أخفاك والدك في سله من القش ووضعك بالقرب من النهر, حتى لايقتلوك . هتفت بذهول : ولماذا لم يخفِ إخوتي معي . قدمت وجهها نحوي وقالت بصوت محشرج ومؤلم : ألم تفهم بعد؟ أنت ابن العائلة الغنية الوحيد. لقد أخفاك والدك حتى لا يصل إليك احد . كادت العصيدة أن تخنقني , تحركت في مكاني , وقلت في كلمات متلعثمة : يا الله .. أنا .. بقيت جالساً في مكاني كانت الصدمة قويه , بدأت أشعر بصعوبة التنفس والجفاف في حلقي , توقفت عن أكل العصيدة ورحت اشرب الماء بكثرة , وكانت أمي واقفة ووجهها نحو جدار .. سألتها والكلمات تخرج من فمي بصعوبة : لماذا إذاً لم تأخذيني إلى أبي . قالت وفي صوتها رنه غريبة لم اسمعها من قبل : لقد أقسمت الأم بالانتقام. أعدت إليها السؤال وكانت الكلمات تتحشرج في حلقي : لماذا .. لم تأخذيني إلى أبي. استدارت وتقدمت راكضة نحوي , وكاد وجهها يلتصق بي , أخافني شكلها وأخافتني وهي تتكلم, كانت تقذف الكلمات على وجهي : كل يوم ومثل هذا الوقت يذهب والدك للبحث عنك في النهر, كانت الأم تراقبه وتتلذذ وهي تراه يبكي ويتعذب , لقد أقسمت بدماء أولادها وزوجها بالانتقام . أحسست بأن جسدي كله مقيد لم أستطع التحرك , وكأن الشلل قد أصابني, أردت أن أتكلم, لكن فمي بقى مفتوحاً دون أن أتفوه بكلمه واحده. قالت وهي تنظر إلى العصيدة : إن العصيدة طعمها اليوم مختلف جداً. وضحكت. وسقط جسدي على الأرض , حاولت أن أجر نفسي إلى خارج البيت , لكني لم أستطع بقيت في مكاني وكأني مقيد بجبل , سمعتها تقول:أكثر مما تتمنى الأم , وهي ترى وجه والدك وهو يرى جثه ابنه بين ذراعيه. أدرت عنقي نحوها بصعوبة, شاهدتها تذهب بخطوات ثقيلة إلى الدولاب وتخرج منها لفافة قماش قديمة , كنت قد سألتها منذ سنوات : ماذا تخفين في هذه اللفافة يا أمي, ابتسمت لي ابتسامة ساحرة, قبلتني وقالت: إنها هديتك, عندما تكبر سأعطيك إياها. ها هي ألآن, تفرش أللفافة أمامي وتسحب منها هديتها لي سيف طويل,التمعت عيناها على صفيحة السيف , وتقدمت مني بنفس الخطوات البطيئة , حيث كنت أنا جالساً عاجزاً عن الحراك , سوى عيني أتحكم يهما,رأيتها ترفع السيف عاليا , حاولت أن أحرك جسدي بعيداً عن السيف , لكن جسدي المشلول , قيدني في مكاني ,توسلت إليها بعيني أن تبقيني حياً , وجهها كان متجهماً , حدقت بي للحظات بقسوة , ثم.. هوى السيف للأسفل, وتدحرج رأسي في الغرفة مبعثراً العصيدة