هو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة سيد الخزرج (أبو قيس)، أسلم مبكرا وشهـد بيعة العقبة والمشاهد كلها مع الرسـول -صلى الله عليه وسلم-، سخر أموالـه في خدمة الإسلام وكان يسأل الله قائلا: (اللهم إنه لا يصلحني القليل ولا أصلح عليه)0 حتى أصبح مثلا بالجود والكرم، وكان يحسن العَوْمَ والرمي فسمي بالكامل.
علمت قريش بأمر الأنصار ولقائهم مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فلحقت بهم وأدركت سعد بن عبادة أحد الاثنى عشر نقيبا، وأخذوه وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، وأدخلوه مكة وهم يضربونه، يقول سعد: (فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع علي نفر من قريش، فيهم رجل وضئ أبيض، شعشاع حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا... فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة فقلت في نفسي: والله ما عندهم بعد هذا من خير!.
فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوى لي رجل ممن كان معهم فقال: (ويحك! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟)... فقلت: (بلى والله لقد كنت أجير لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف تجّاره، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف)... قال: (ويحك فاهتف باسم الرجلين ،واذكر ما بينك وبينهما).
قال: ففعلت وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: (إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح ويهتف بكما ويذكر أن بينـه وبينكما جوار)... قالا: (ومن هـو؟)... قال: (سعـد بن عبادة)... قالا: (صدق واللـه، إن كان ليجير لنا تجارنا، ويمنعهم أن يظلموا ببلده) ... فجاءا فخلصا سعـد من أيديهـم، فانطلق، وكان الذي لكم سعـدا سهيـل بن عمرو العامـري، وكان الرجـل الذي آوى إليه أبا البختري بن هشام.
كان سعد بن عبادة مشهوراً بالجود والكرم هو وأبوه وجدّه وولدُهُ، وكان لهم أطُمٌ -بيت مربع مسطح- يُنادَى عليه كل يوم: (من أحبَّ الشّحْمَ واللحْمَ فليأتِ أطمَ دُليم بن حارثة)... وكانت جَفْنة سعد تدور مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيوت أزواجه.
استأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على سعد بن عبادة فقال: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)... فقال سعد: (وعليك السلام ورحمة الله وبركاته)... ولم يُسْمع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى سلّمَ ثلاثاً، وردَّ عليه سعد ثلاثاً، ولم يُسْمِعْهُ، فرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتبعه سعدٌ فقال: (يا رسول الله! بأبي أنت ما سلّمتَ تسليمة إلا وهي بأذُني، ولقد رددتُ عليك ولم أسْمِعْكَ، أحببتُ أن أستكثرَ من سلامِكَ ومن البركة)... ثم دخلوا البيت فقرّب إليه زبيباً فأكل نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، فلمّا فرغ قال: (أكلَ طعامكم الأبرار، وصلّتْ عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون).
جاء سعد بن عبادة وابنه قيس بن سعد بزاملةٍ -ناقة يُحمل عليها- تحمل زاداً، يؤمّان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني يوم ضلّتْ زاملتُهُ -صلى الله عليه وسلم- في حجّة الوداع، حتى يجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفاً عند باب منزله، فقد أتى الله بزاملته، فقال سعد: (يا رسول الله! بلغنا أن زاملتَكَ ضلت مع الغلام وهذه زاملةٌ مكانها).
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قد جاءَ الله بزاملتِنا، فارجِعا بزاملتكما بارك الله عليكما، أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتكَ منذ نزلنا المدينة؟).
قال سعد: (يا رسول الله! المنّة لله ولرسوله، والله يا رسول الله للذي تأخذ من أموالنا أحبُّ إلينا من الذي تَدَعُ)... قال -صلى الله عليه وسلم-: (صدقتُم يا أبا ثابت، أبشِرْ فقد أفلحت، إن الأخلاقَ بيد الله، فمن أراد أن يمنحَه منها خُلقاً صالحاً منحَهُ، ولقد مَنَحَكَ الله خُلقاً صالحاً)... فقال سعد: (الحمد لله هو فعل ذلك).
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: (كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المواطن كلها رايتان، مع علي بن أبي طالب راية المهاجرين، ومع سعد بن عبادة راية الأنصار).
في غزوة الغابة أقام سعد بن عبادة في المدينة في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة خمسَ ليالٍ حتى رجع النبـي -صلى اللـه عليه وسلم- وبعث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأحمالِ تمر، وبعشر جزائر -ناقة- بذي قرد وكان في الناس قيس بن سعد بن عبادة على فرسٍ له يُقال له الوَرْد، وكان هو الذي قرّب الجُزُرَ والتمرَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا قيس، بعَثَك أبوك فارساً، وقوّى المجاهدين، وحرس المدينة من العدو، اللهم ارحم سعداً وآل سعد).
ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (نِعْمَ المَرْءُ سعد بن عبادة)... فتكلمت الخزرج فقالت: (يا رسول الله! هو نقيبنا وسيّدنا وابن سيدنا، كانوا يُطعمون في المَحْـلِ، ويحملون في الكَـلِّ، ويَقْرون الضيـف، ويُطعمون في النائبـة، ويحملون عن العشيرة)... فقال النبـي -صلى الله عليه وسلم-: (خيارُ النّاس في الإسلام خيارُهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدّين).
كانت شخصية سعد تتسم بالشدة والقوة، ففي يوم فتح مكة جعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- أميرا على فيلق من جيش المسلمين، ولم يكد يصل الى مشارف مكة حتى صاح: (اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة)... فكأنه عندما رأى مكة مستسلمة لجيش الفتح، تذكر كل صور العذاب الذي صبته على المؤمنين وكان ذنبهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، فدفعه الى توعدهم... فسمعه عمر بن الخطاب وسارع الى النبي قائلا: (يا رسول الله، اسمع ما قال سعد بن عبادة، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة)... فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عليا كرم الله وجهه أن يدركه، ويأخذ الراية منه، ويتأمر مكانه.
أعطى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أعطى من العطايا ولم يكن للأنصار منها شيء، حتى كثرت منهم القالة، وقال قائلهم: (لقي والله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه)... وقال سعد للرسول: (يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء)... فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (فأين أنت من ذلك يا سعد؟)... قال: (يا رسول الله ما أنا إلا من قومي)... قال: (فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة).
فلما اجتمعوا أتاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه وقال: (يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم! ألم آتكم ضُـلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم!)... فقالوا: (بلى، الله ورسوله أمـن وأفضـل)... ثم قال: (ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟).
قالوا: (بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل!)... قال -صلى الله عليه وسلم-: (أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدقتم ولصُدّقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكَلْتكم الى إسلامكم! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله الى رحـالكم؟ ... فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجـرة لكنت أمرأ من الأنصـار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار! اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار)... فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا وسعد معهم: (رضينا برسول الله قسما وحظا).
ولما قبض الرسول -صلى الله عليه وسلم- انحاز بعض الأنصار الى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة منادين بأن يكون خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخطب فيهم سعد -رضي الله عنه- موضحا أحقية الأنصار بذلك ،ولكن لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد استخلف أبا بكر على الصلاة أثناء مرضه، فهم الصحابة أن هذا الاستخلاف مؤيدا لخلافة أبي بكر... وتزعم عمر بن الخطاب هذا الرأي.
وسارع أبوبكر وعمر وأبوعبيدة بن الجراح -رضي الله عنهم- إلى الأنصار، واشتد النقاش حول أحقية الخلافة، وخطب أبوبكر الصديق خطبة بين فيها فضل المهاجرين والأنصار وقال في خاتمتها:(هذا عمر وهذا أبوعبيـدة فأيهما شئتـم فبايعـوا)... فقال الاثنان:(لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك)... ثم قال عمر:(ابسط يدك نبايعك)... فسبقهما بشير بن سعد -رضي الله عنه- وهو من كبار الأنصار وبايع أبا بكر وتلاه عمر وأبو عبيدة، فقام الحاضرون من الأنصار والمهاجرين فبايعوه... وفي اليوم التالي اجتمع المسلمون في المسجد وبايعوه بيعة عامة.
في الأيام الأولى من خلافة عمر -رضي الله عنه-، ذهب سعد الى أمير المؤمنين، وقال بصراحته المتطرفة: (كان صاحبك أبو بكر -والله- أحب إلينا منك، وقد -والله- أصبحتُ كارهاً لجوارك)... فأجاب عمر بهدوء: (إن من كره جوار جاره، تحول عنه)... وعاد سعد فقال: (إني متحول إلى جوار من هو خير عنك)... وبهذا أراد سعد ألا ينتظر ظروفا قد تطرأ بخلاف بينه وبين أمير المؤمنين، خلاف لا يريده ولا يرضاه.
شـدّ سعد بن عبادة -رضي اللـه عنه- الرحال إلى الشام، وما كاد أن يبلغهـا وينزل أرض حوران حتى دعـاه أجله وأفضى إلى جوار ربـه الرحيم سنة (14 هـ).