بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإن العالم اليوم يمر بثورات هائلة، ثورات علمية، وثورات تقنية، ثورات في التكنولوجيا، وثورات في المعلومات، وثورات في الاتصالات، وثورات في الجينات، وثورات في البيولوجيا، وثورات في الفضاء. أعتقد أنه لم يمر على العالم مثل هذه التقنايات، ولم يجمع على مر العصور مثل هذه الثورات، فسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم. ومع هذا أعتقد أن هذه الثورات في يوم من الأيام ستصبح أثراً بعد عين، وخبراً بعد أثر، فإن الله لم يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه، وهذه سنة كونية. جاء من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – مرفوعاً:« حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ وَضَعَهُ ».أخرجه البخاري(2872). تأمل معي هذه الآيات، وتفكر في هذه الكلمات التي قصها علينا رب الأرض والسموات عن قومٍ بلغوا في الدنيا مبلغاً، وحازوا منها مفخراً، ونالوا منها ما لم ينله من قبلهم، ثم كان عاقبتهم بسبب العصيان، والتعدي والطغيان، الغضب والعذاب، والمقت والإبعاد؛ يقول الله تعالى:{ َألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَفَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}. [الفجر:6-14]. يقول سيد قطب – رحمه الله تعالى - معلقاً على هذه الآيات:( وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات. والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء. ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام، وكلها مما كان المخاطبون بالقرآن أول مرة يعرفونه؛ ومما تشهد به الآثار والقصص الباقية في الأجيال المتعاقبة، وإضافة الفعل إلى " ربك " فيها للمؤمن طمأنينة وأنس وراحة. وبخاصة أولئك الذين كانوا في مكة يعانون طغيان الطغاة، وعسف الجبارين من المشركين، الواقفين للدعوة وأهلها بالمرصاد) في ظلال القرآن(6/1622). لكن هذا الفناء، الذي كتبه الله على الدنيا لا يمنعنا من عمارتها، ولا يسلبنا زراعتها، بل الذي أخبر بأن هذه الدنيا فانية هو الذي أمرنا بعمارتها، والذي بين أنها زائلة هو الذي حثنا على زراعتها. ثبت في مسند أحمد(3/183) من حديث أنس – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :« إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ وَفِى يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا ». وبعد هذا البيان ندلف إلى موضوعنا الذي أرى أن هذا الموضوع ليس موضوعاً بسيطاً أو مقالاً تسود به صفحات المواقع والمنتديات، بقدر ما هو من الأهمية بمكان، بل كنت أفكر أن يكون هذا الموضوع بحثاً تناقش جوانبه، وتبحث غوائله، وتسبر أغواره، حتى يفهم فهماً عميقاً، ويتضح اتضاحاً جلياً، ثم يتلو هذا الفهم خطوات عملية، وبرامج واقعية، وأعمال تطبيقية. المبادرة، وما أدرك ما المبادرة؟! المبادرة: فن من فنون العمل، وباب من أبواب الوصول إلى الأمل، ونافذة تطل على المستقبل. المبادرة: فن يجيده العقلاء، وعمل يطيقه الأبطال، وقول يبلغه البلغاء، ومرتبة يصلها النجباء. المبادرة: فرصة بيضاء، في ليلة ظلماء، يصل إليها المبصرون، الحاملون قناديل الضياء. المبادرة: فتح باب وإغلاق آخر، فتح باب خير، وإيصاد باب شر. المبادرة: عدم احتقار الذات، وغمط النفس التواقة للحق والحقيقة. المبادرة: بسمة ونقاء، وبذل ووفاء. المبادرة: نظرة حانية، ويد باذلة. المبادرة: دعوة للإخاء، وجمع للأخلاء. المبادرة: كلمة طيبة، فهي بذرة طيبة، تكون – بإذن الله تعالى - شجرة باسقة طيبة. المبادرة: عمل يسير، يغفل عنه الكثير، يحوز به العبد على الأجر الجزيل. المبادرة: نصيحة صادق، وبيان ناصح. المبادرة: إنكار منكر، ونصح مقصر. المبادرة: صراحة صادق، وصدق سامع. المبادرة: قلب لا يغل ونفس لا تحقد. المبادرة: استخراج واستثمار للطاقات الكامنة. هذه هي المبادرة، وليست أكثر من هذا، نحن في هذا الزمن الذي تكالب أعداء الله على المسلمين في كل مكان، وتفننوا في حرب المسلمين. أتعقلون يا مسلم! أنها وصلت بهم المبادرة القذرة إلى وضع مواقع خاصة على شبكة المعلومات لمسابقة قذرة للغاية، وهم يرون أنهم يقدمون شيئاً يفخرون به. تتعجب أخي إذا قلت لك أن المسابقة هي المنافسة فيمن يضع على وجهه وبدنه أكبر كم من الغائط – أكرمك الله – فبعضهم يغطي وجهه ويلطخ بدنه بالعذرة. هذه هي مبادراتهم، وهذه هي حضارتهم، ومع ذلك لا يستحيون من إظهار قبحهم ورذائلهم. هم يرن أن هذه مبادرة، وأن هذا سبق، وأن هذا تنافس، هذا في الباطل أخي فأين أنت يا صحب الحق من المبادرة الشريفة، والمسابقة النزيهة. أيها العالم الصادق: أين أنت من بيان الحق، وردع الظلم. أيها الخطيب المسقع: أين أنت من المنابر التي أصبحت تشكو حسرة وتألماً؟!. أيها الداعية الصابر: أين أنت من ساحات العمل والدعوة إلى الله؟!. أيها الكاتب المبدع: أين قلمك الذي اشتكى بياض أوراقك من هجرك؟!. أيها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: أين أنت من المنكرات التي أصبحت تعج بها بلاد المسلمين؟!. أيها المجاهد الباذل: أين أنت من نصر المسلمين في أسقاع المعمورة؟! أيها الصادقون، أيها المحتسبوون، أيها العقلاء، أيها البلغاء، أيها الباذلون، أيها المجاهدون أين أنتم من أمتكم، أين مبادراتكم في نصرة قضيتكم ومنهجكم؟!!!. نحن بحاجة إلى مبادرين يتصفون بصفات المبادر الناجح: يتصفون بأنهم يعلمون ما يعملون، ويعملون بما يعلمون، ويحلمون ولا يجهلون، ويصبرون ولا ييأسون، ويستمرون ولا ينقطعون، ويبنون ولا يهدمون، وينصحون ولا يغشون، ويبذلون ولا يشحون، ويحسنون ولا يمنون، ويتشاورون ولا يستبدون، ويتواضعون ولا يتكبرون، ويلينون ولا يتعصبون، ويجدون ولا يكسلون، ويتنافسون ولا يتحاسدون. مبدؤهم:{ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}، وشعارهم:{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}،. ووصيتهم:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} إن العلاج لحل مشاكل الأمة هو في فن المبادرة الشريفة، التي تأتي على الباطل فتدكدكه، وعلى المنكر فتبدده، وعلى الظلم فتنفيه. صور من المبادرة الشريفة: 1- المبادرة من العالم للتعليم. 2- ومن الداعية للدعوة. 3- ومن المربي للتربية. 4- ومن المجاهد للنصرة. 5- ومن المعلم للإصلاح. 6- ومن الكاتب بالنصح والتوجيه. 7- ومن المرأة للتربية والبناء. 8- ومن التاجر للبذل في وجوه الخير. 9- ومن التقني لتوظيف التقنية لخدمة هذا الدين. 10- ومن المبدع في الحاسب أن يستثمر هذا العمل للدعوة إلى الخير. 11- ومن الشيب بالدعاء. ومن كل مبدع في مجاله. وأختم بكلمة للإمام مالك بن أنس – رضي الله عنه - تكتب بماء الذهب يقول في رده على عبدالله بن عبدالعزيز العمري العابد حينما كتب إليه يحضه على الانفراد والعمل؛ قال الإمام مالك:( إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد. فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر) سير أعلام النبلاء(8/114). فكل على ثغر فالله الله لا يؤتى الإسلام من قبلك، وكن من ثغرك مبادراً، وفي خندقك مجاهداً، وفي محرابك داعيا.