كنت مملوء بالسأم والموت , والوقت ثقيلا عاتيا وشديد الوطأة . لم يكن ثمة مايجلب الحياة والبهجة .. كل ماحوالي صار داكنا ومعتما . رأيت في الفراغ عشرات من الأشباح تتقاتل أمامي بوحشية ضارية , وأنا مسلوب الأرادة والتفكير والكلام . كل واحد يغرز نظراته العمياء في
عيني ويريد أن ينفرد بالضحية السائغة. لحظتها كنت أتمنى أن أغيب الى الأبد , أو أفقد عقلي , أتلاشى حثيثا , أو أتحول الى نتف
صغيرة لا ترى , وأنسى أنني هنا بلا فائدة وبلا عمل .
أنا كنت معزولا وغارقا في يأس طويل وطاعن . عيناي معلقتان على الظلام ومفتوحتان بقسوة .. حاولت أن أطبقهما , أن أصدهما عن
التحديق , أو أنساهما , لكني مشدود وموثق بهما بقوة .
ياليت.. أن تنفتح ذاكرتي على الماضي , وتنتزعني من هذا السأم . لم يعد يهمني وقتها ماذا يخرج منها . المهم أن أنسى أنني
هنا . ليتني أتذكر حتى ذلك اليوم , الذي تمرغت فيه في الخطيئة من رأسي حتى قدمي , أو اتذكر أيام الفساد والألم ! والعبث
والمجون , وأنسى أنني هنا مصاب بالسأم والموت والهزيمة .
وكان علي أن استسلم !
فقد طرقت كل الأبواب , قابلت أناسا شتى , ابتسمت لهم , تفرست في وجوههم و أصابعهم , وحتى ملابسهم وألوان أحذيتهم والصور المعلقة على جدران مكاتبهم .
كنت ملتصقا بالجدار كطفل مذعور وضائع , وكنت أشعر فعلا أنني أندثر . لا أدري كم من الوقت مضى .. ربما ساعة أو يوم أو أكثر .
فجأة , رأيت نفسي كأنني أتحرك وعيني تدوران . لم أصدق , غير أني استطعت أن أرى يدي , وأتعرف على ألوان السجادة وسط الغرفة :
مربعات حمراء صغيرة , ودوائر سوداء داخلها خطوط مستقيمة ومتقاطعة . كنت منهوكا وخائر القوى . قمت بصعوبة , وكأنني أخرج من
داخل وعاء ضيق . وصلت الى الباب وفتحته . خرجت الى الشارع . رأيت جاري يودع أطفاله ويدخل في عربته , ويمضي الى عمله .
أرخيت رأسي وتلمست أوراقي , ومضيت أبحث عن عمل . كان الشارع يتهيأ ويفرد أرصفته وأسفلته للعابرين والراكبين , والدكاكين تفتح أبوابها , وأنا كنت أمشي وأفكر . ت! وقفت عند بقالة صغيرة , وطلبت علبة سجائر وجريدة , وجلست أنتظر صديقي ليأخذني في طريقه مثل كل يوم الى تعب جديد وبحث آخر .
ركبت السيارة , تكلمنا عن الطقس , وبعد قليل تبادلنا الصمت الصباحي المعتاد ومضينا . كنت أقرأ اللوحات المعلقة فوق البنايات والدكاكين , واذا توقفت السيارة عند الأشارة , أنظر الى وجوه الآخرين , وأحيانا أرى وجهى على الزجاج اللامع وأقول لنفسي .. انه يوم جديد , ولكنه لايلبث أن يمضي .. ستنطفيء شمسه وتنحدر بعيدا ويأتي الليل . يهبط عليك ويخنق أنفاسك , وستركض مكسورا الى غرفتك , وتجد نفسك هناك في الغرفة نفسها والزاوية نفسها , وقرب الجدار نفسه , وستجدك وحيدا بائسا ومعزولا , وتختنق بالسأم والموت .
حاولت أن أفكر في شيء آخر يبعدني عن هذه الدوامة والكوابيس ,فتحت الجريدة فأحدثت صوتا مألوفا نبه صديقي فسألني هل من جديد , لم أرد وهو لم يهتم . طويت الجريدة بعصبية , وقلت هاهنا اذا سمحت .
نظرت الى عينيه الودودتين , وقلت له اننى سأكون بانتظاره في المكان نفسه! صباح غد . هز رأسه وابتسم ومضى