زرع وجه
الناقل :
mahmoud
| الكاتب الأصلى :
د. رياض الأسدي
| المصدر :
www.arabicstory.net
ـ1ـ
لحظة ألقي حامض الكبريتيك، ماء النار، على الوجه الذي طالما خرجت به إلى العالم،ارتعبت، لأول مرة، حقيقة، فأنا قوي بما فيه الكفاية وأعرف نفسي جيدا. حدث ذلك بسرعة فائقة. وكان بإمكانهم اغتيالي. لكنهم فعلوا ذلك بي لإذلالي فقط. أعرفهم: أعدائي التاريخيين وخصومي السياسيين. القذرون. المجانين. الذين لم يحتملوا انتصاراتي في كلّ المحافل. ليكن. مازلت أنا هو. ذلك الحريف الذي يمتلك ما يكفي من الطاقات على مواجهة الصعاب، كلّ الصعاب ومهما كانت، ومن أي نوع، فقد دربت نفسي وعلى مدى خمسين عاما على ذلك، ولا يمكن أن تضيع خبراتي بفعل عمل مثل هذا. لكني بصراحة، أنا، في أسوأ حالاتي أيضا. وعليّ أن أثبت ذلك ليس لأعدائي، ولا لخصومي، ولا لأصدقائي وحلفائي، بل للتاريخ؛ هذا الذي بدأ يؤرقني على نحو دائم: بأني ما زلت موجودا، على خارطة العالم الحي. ولم أمت ولن أموت. أبدا. فما الذي يعنيه خسارة وجه؟ سأجد وجها آخر. حتما.
وجه قديم، أقرب إلى الشكل الحجري في استدارته، بارد, وعادي تماما, مثل تمثال نصفي في متحف نهب أخيرا؛ ثمّ استعيدت بعض منهوباته التي هي نماذج رديئة عن منحوتات أصيلة وليست بذات بال, كما عرف أخيرا سرّاقها غير المحترفين. ولذلك فقد ألقيت على أرصفة الطرق، وفي التقاطعات المهدّمة، أو بالقرب من مجاري المياه الآسنة وسط المدينة أحيانا، أو في القمامة أيضا؛ وتلك حالة نادرة على أية حال. أما أن يستعار من كلّ ذلك وجها لي؛ فهذا هو الجديد في القضية كلّها منذ البداية.
كان الوجه في البداية قد وضع بباب المتحف كنموذج لملك كوديا.. كنت أراه أثناء زياراتي للمتحف بعد عملية النهب.. ولم اكن أتوقّع – أنا ملك التوقّعات كلّها- أن يكون وجهي..هاهو يشبه مئات الوجوه الأخر، منذ القدم، ومن الصعب أن نتصور الآن أنه لكوديا المنهوب المسكين؟ كانت تلك مزحة ثقيلة بعد أن تعرّض التمثال النصفي المنحوت من حجر رديء إلى عمليات رفس وثلم أثناء التدافع للاستحواذ عليه. وكأنه وجه آخر الآن تماما؛ ربما يشبه الآلاف من تلك الوجوه التي تظهر على شاشات التلفاز في كلّ ساعة. ألم أقل لكم بان فكرة كوديا كانت لغرض المزحة التاريخية فقط، كما إني لا أعرف من تاريخنا القديم أسماء وجوه كثيرة.هذا ما خطر على ذهني لأول وهلة.
ولم يكن وجها معروفا جدا من تلك الوجوه التي تظهر على شاشة التلفاز يوميا، أو على صفحات الصحف، أو على المواقع الإلكترونية. ومع ذلك سأدعوه كوديا فقط من أجل التعريف به، ولعدم وجود أسم له. لكنه أصبح الآن وجها معروفا أكثر من شهرة كوديا نفسه في التاريخ القديم، وعلى نطاق عالمي, وبعد أن دخل معي في هذه المهاترة الغامضة.. ولهذا السبب بدأت أفكّر بكتابة قصة عنه. أي قصة أرويها لكم من اجل تقريب الحالة على الأقل. أجل. ليس مهما الآن، لأن الكتابة بالنسبة لي مجرد هواية غير دائمة، كما إني لست معنيا بنشر هذه القصة، فأنا أكتب القصص لنفسي غالبا؛ وعندما وضعت عنوان كوديا للقصة سخرت حتى من نفسي؛ فما علاقة كوديا بالأمر غير الاسم؟ حذفته. من أجل الحقيقة. وحدها. وجربت عنوانا آخر.. وآخر.. ولم أستقرّ على واحد بعد.
حدث ذلك بسرعة البرق. حسنا. إن العلم يتقدّم على نحو مذهل وسريع هذه الأيام، وخاصة في مجال التجميل. أعرف مغنية أجرت أحد عشر جراحة تجميلية لأنفها خلال مدة قصيرة. أما أنا فإن القضية اكبر من ذلك بكثير. العلم في جراحة تجميل الوجه هو أفضل ما يمكن بعد التلاعب بالجينات من اجل الوصول بالجنس البشري إلى اجمل الأشكال.. يمكن تصديق العلم دائما. هناك اكثر من مائة نظرية علمية تظهر في اليوم الواحد. فتقدّم العلم على نحو عجيب في القرن الماضي: من ركوب الحمار إلى ركوب (تشالنجر) ربما يجعل هذا الوضع من البشرية وفي وقت قريب عبيدا للعلم. ليكن مادام العلم ينفع في حلّ مشكلة وجهي أيضا. فالعلم هو كلّ ما يمكن أن يتعلّمه الإنسان في هذا العصر: عبارات تتكرر كثيرا هذه الأيام، وأرقام، وإحصاءات لا نهاية لها. كلّ شيء مقنّن ومحدد على نحو دقيق. علمي جدا. كم هم واهمون أولئك الذين لا يثقون بالعلم!. أما أن يصل العلم إلى وجهي, ويتدخّل فيه ،فهو قضية غريبة جدا. ولم تخطر على بالي. أبدا. أنا الذي أستشار في كلّ ما يمكن أن يقع..أصبح للعلم ما يكفي من السيطرة على وجوهنا أيضا. ياله من قائد عظيم سأقبل به في وقت متأخر من حياتي السياسية.
يمكننا أن نغيّر أنفك؛ سنجعله اكثر دقة، وأصغر قليلا، وإذا وافقتنا سوف نستبدله تماما. أما عيناك، فكارثة, حقيقية, آسف, إنهما سبب كلّ هذا الوضع الذي أنت فيه, بإمكاننا أن نستبدلهما بعينين زرقاوين جميلتين من متبرع أوربي مات في حادث سيارة. سيساعدنا بنك العيون كثيرا.لن تعود مهتما أبدا بتلك العدسات اللاصقة في حالات الاختفاء بعد ذلك. ويمكن تغيير الحنك، واستدارة الوجه تماما. ستكون اكثر إثارة للنساء حتما. يا سيدي. النساء لا يثبتن على لون عينين واحد كما تعرف.. سيفرح وجهك زوجتك اكثر من أية عشيقة عابرة بالتأكيد. سيدي. يمكننا, في الواقع, أن نستبدل وجهك كلّه؛ فانظر إلى هذه النماذج من المتبرعين الموتى: أي وجه تختار؟ العلم حلّ جميع المشكلات ببساطة: اخترْ ووقّعْ فقط. هنا لو سمحت. أنت لا ترى أنا أرى المكان جيدا. هذا هو العلم يا سيدي.
ـ هل أطلقتم على العملية أسما ما؟
ـ هناك أسم علمي طبعا.
ـ لا, أريد لها أسما سياسيا أيضا.
ـ كما تشاء يا سيدي.
ـ كوديا.
ـ ولم كوديا؟
ـ ليس شأنك.. إنه أسم فقط.
ـ كوديا كوديا!
المشكلة في أولئك الموتى المتبرّعين بأعضائهم، لديهم ولع بالعالم أكبر من مشكلتي أو ولعي؛ إنهم يريدون أن يبقوا في عالمنا أطول مدة ممكنة. هذا من حقّهم. قد تتوزّع وجوههم بين أشخاص كثيرين, فهل يمكنهم أن يكتشفوا إذا ما مرّوا في الشارع أنفسهم. إنهم يبقون معنا، أليس كذلك؟ لا دليل علميا حتى هذه اللحظة على مغادرتهم إلى العدم نهائيا. وفي هذا أو ذاك من المارة سيقعون في حيرة: هذا أنا أم ذاك؟ لا أريد أن أحيّر بشرا. في كلّ الظروف ينبغي على الناس أن يعرفوا القدر المتعلّق بهم. الحيرة مقيتة بالنسبة لأي بشر حتى وإن كان ميتا.سآخذ الوجه كلّه. مفهوم.
ـ طبعا، سيدي.
ـ حسنا. من يكون المتبرّع لي؟
ـ جون بول.
ـ من جون بول هذا؟
ـ رجل عصابة!
ـ ماذا قلت؟!
ـ لا تقلق, يمكننا أن نسوي هذه المسألة ببساطة مع القانون..
ـ ولماذا تبرّع جون بول بوجهه لنا؟
ـ قبل إعدامه, وقّع وثيقة التبرّع.. لم يخبر أحدا ـ للأسف ـ سبب ذلك.
ـ هل تظن أن خروجي إلى الناس بهذا الوجه العصاباتي لا يقلل من أهميتي؟
ـ سوف يزيد من شعبيتك, كما أظن، وستكون أسطورة سياسية لنا جميعا!
ـ ربما.. من يدري.. باشر العمل..
ـ2ـ
صفير. هياج عام في ملعب المدينة الكبير. أضواء كاشفة ومروحيات لمتابعة سلامة الحالة الأمنية. كانت الجماهير التي حضرت من مختلف الأحزاب الحاكمة أو المعارضة.كان يمكن ملاحظة منصة خاصة بكبار الشخصيات العالمية وقد حضرت للاحتفال بالحدث المهم. وحينما قدمت وسط حشود من الصحفيين ومراسلي وكالات الأنباء والفضوليين والمعجبين والاتباع، أحاطت بي دائرة كاملة من رجال الحماية الخاصة. كان من الصعب في هذا الظرف أن ألقي بتصريح أولى عما حدث.. لكن الجميع كان متطلّعا إلى الوجه الجديد.. أشرت بتحية إلى الجميع بيدي القديمة المعروفة فعلا هياج عام هادر من التصفيق والصفير المتواصلين.
وكنت طوال الطريق إلى المنصة التي أعدت لخطاب الأول بعد زرع الوجه أحاول أن أبتسم كعادتي, لكني لم أستطع كما كنت أفعل سابقا. وعند حشد الميكروفونات وجدت أن صوتي مختلف أيضا. كان من الصعب استعادة صوتي القديم أيضا. مشكلة أخرى لم تكن في الحسبان. وفكّرت بان ثمة مؤامرة قد حيكت بغموض وغرابة ضدّي أثناء العملية أيضا. ورغم ذلك حاولت أن أتحدث ببساطتي المعهودة على مدى خمسين عاما، فلم أستطع أيضا. مؤامرة حتما. وقلت بصوت مرتجف : أشكركم . يسعدني أن أعود لكم بوجهي الجديد. ثمّ غادرت المكان على عجل وسط هياج مستمر يتخلله صراخ: كوديا كوديا كوديا!