صاحب الكراسة والقلم

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمد بروحو | المصدر : www.arabicstory.net

 

 

عبأ متاعه وحزم حقائبه . غدا صباحا يوم سفره ، على أ ول حافلة تمر عبر قريته . فهذه آخر ليلة سيبيتها بها ، ولن يعود إليها ، إلا وقد عظم شأنه ، وتحسنت أحواله . هذا ما كان يقوله لأقرانه وأهل قريته .
 
 

 

 التهم عشاءه ثم صعد الأدراج نحو غرفة نومه ، بالطابق العلوي من البيت ، تمدد فوق فراشه ، وضع رأسه على الوسادة ، علق بصره بسقف الغرفة . وسرح في خياله . حدج ببصره متاعه ، حقائبه وأوراقه .. إنه مسافر إلى مكان ، سيجعل منه شخصا محترما . له هيبته وقيمته .

 

 هكذا كان يفكر ، وهذا ما كان يردده دائما مع نفسه ( مهاجر إلى تلك القارة .. إلى أي مكان في هذا العالم ) .

 

عاش عاشور مزارعا ،كرس حياته خادما لأرض أجداده ، يحرث ويحصد . يطوي أكوام البرسيم . كما يطوي الزمان أيامه . كطائر يريد أن يحلق بلا قيود ، في فضاء يمتد فوق سهول ، نقشت بها أمطار الشتاء ، أخاديد شكلت ساقيات .. 

 

كان يمد بصره نحوها. من فوق ربوة تحوي قريته ، وكان تنقله بين تلك الربوع الممتدة من قريته إلى الطريق الرئيسية ، كما أيامه عبر شهور السنة ، صباح فمساء ، ثم ذهاب فإياب ، يجعله يحس برتابة وقنوط ، إنه يجتر خيبة أمل أضاعه ، كما الكثير من غيره . فهو محاصر بعادات وتقاليد ، يحاول أن ينفلت منها ومن عقالها مهما كلفه ذلك من ثمن . يريد أن يفك قيدها عنه . وعن حياته ، أن يدفنها في ماضيه . إن تم زواجه من بنت تربت غير تربيته ، يريدها شابة متفتحة . تعشق الحياة . ذات تربية حضرية ، متحررة ، حواره بين أهل بيته أو قريته غالبا ما كان يدور حول هذا الأمر.

 

( زواجه من بنت متحررة وسفره معها إلى بلد من بلدان الغرب ) .

 

غدا الجميع يتحدثون عنه ، فهم الذين يعرفون طموحاته وأفكاره وما يجول بخاطره . بعضهم كان يشجعه ، وغيرهم كانوا  يحذرونه . وهو لم يدرك لحد الآن مخاطر هذه المغامرة .

 

يعتقد أن أهل قريته عاجزون عما يستطيع هو أن يحققه . إنهم جاهلون . منهم من يرى فيه ذاك الفتى المتمرد ، على تقاليد قريته وتقاليد مجتمعه . الذي عاش وترعرع في كنفه .

 

كلمات تتمدد في خاطره كلما حاور أقرانه ثم نفسه . كما أيامه في قريته القنوط . يريد أن يكون من الأوائل الذين حققوا لأهل قريتهم شيئا يذكرونه به . هو متيقن من أنه قادر أن يفعل ذلك . هذا ما كان يقوله .

 

تمر أيام وتتوالى شهور ، وتحل أيام الصيف الدافئة . تكثر حفلات الأعراس وتحل مواسم الأضرحة ، ويكثر الوافدون على قريته لزيارة الأحباب ،  أو لحضور موسم الولي الصالح سيدي بوزيد .

 

في صيف هذا العام وككل السنوات التي مرت ، سيقام حفل هذا الولي ، يعتبر الاحتفاء به عند أهل القرية ، رمزا من رموز العشق . وطقسا من طقوس تقاليد توارثوها أبا عن جد .

 

تحل أيام الاحتفال فتتقاطر جموع بشرية ، على مكان الضريح . إنهم وافدون من قرى مجاورة ، وآخرون من مدن بعيدة . وقد يوجد بعض من الوافدين من خارج الوطن يصاحبهم أجانب ، ممن تغريهم سياحة من هذا النوع .

 

مناسبة تتكرر كل عام ، تفكير عاشور هذه المرة ليس كما من قبل . بدأ يعتمد خطة التخلص من عيشته التي مل رتابتها . وله فرصة مناسبة ، فبذكائه وخبرته يستطيع حل مشكلته . فلا بد أن يهاجر ، حتى يفيد أهله وقريته ..

 

تدوم أيام الاحتفاء بالمناسبة ، ثلاثة أيام . ففي اليوم الأول من الاحتفال ، حلق رأسه وسوى ذقنه ثم لبس أحسن ما عنده ، هيأ نفسه ، سيدخل مغامرة يريد أن يخرج منها ظافرا .

 

 بدأ تجواله قرب ساحة الضريح ، خص هذا المكان بإقامة عروض الاحتفال . تنصب فيه خيام ، تهيأ عليه أماكن للتبضع ، وبعض المقاهي تقدم للزبائن الزوار مرطبات ومشروبات .

 

جلس إلى طاولة داخل خيمة من الخيام التي نصبت هناك .. طلب مشروبا غازيا وملأ كأسا ، شربها ثم ثانية ، ظل ينظر إلى الفقيعات الصادرة عن المشروب ، أحس بانتعاش .

 

أيستطيع أن يطير كما هذه الفقيعات ..؟ سأل نفسه . خمن أن يسافر بنظره ، عبر أرجاء المكان ( مكان الاحتفال ) . أناس يتحركون هنا وهناك ، في أعمار مختلفة . قوافل بشرية ، تتقاطر على عين المكان .

 

نظر نحو جهة ازدحمت بالوافدين . كاد يغير اتجاه نظره ، لكنه وبسرعة عاد بنظره نحو تلك الجهة . تبسم ابتسامة تنمشها فرحة ، كأنه أبصر إنسانا عزيزا عليه ، لم يره منذ مدة طويلة .

 

رشف من كأس المشروب . تمتم في هدوء . وقف ثم جلس . أخرج مشطا من جيب قميصه ، بدأ يمرره على شعر رأسه ، ثم انحنى على حذائه ، مسحه بيده ، قد ملابسه . يريد أن يحقق حلمه .

 

كانت فتاة في هذه اللحظة ، تتجه نحوه مسرعة ومبتسمة . ابتسم لها هو الآخر ، وأسرع بدوره نحوها . وقف بقربها ، صافحها ، نظر إليها بنظرة .. دغدغت إحساسها ، فضحكت حتى قهقهت. جلس فجلست إلى جانبه . لامس شعرها . تطلع إلى عينيها . كانت فتاة بقد ممشوق وبلباس يكشف كتفيها وفخذيها .

 

سافر عبر خياله . شريكة لحياته كما تمناها. هي الآن أمامه سألها ، من أين هي ؟ . أخبرته ، مقيمة خارج الوطن . أسرعت دقات قلبه متتابعة ، وتحرك شعوره بالأمل ، فلربما تحققت رغبته . فرك بين يديه وهو يخاطب نفسه ، إن التي يبحث عنها هي الآن أمامه و بجانبه ، إن تزوجها سيحقق حلمه ويسافر معها .

 

تحاورا وتساءلا .. خبر منها أنها غير متزوجة . أخذ بيدها واندفع بها داخل خيمة لكتابة عقود النكاح .

 

نصبت هذه الخيمة لهذا الغرض . جلس وسطها رجل ، وضع كراسة على ركبتيه ودواة قرب قدميه ، وقلما من قصب بين يديه .

 

أخذا دورهما ، ينتظران . إنه ينظر إليها ، وهو غارق في تفكيره . يدون صاحب الكراسة والقلم أسماء الأزواج والشهود ،ويثبت عناوينهم في كراسته .

 

حل دورهما ، ازدادت سرعة دقات قلبه . أحس ببرودة تلف جسده . جف حلقه وثقلت جثته . نزل به إحساس غريب ، لم يعد قادرا على الحركة . حين وصل دورهما ، لم يقو على الوقوف ، بصعوبة تحرك ، وهو يتقدم نحو صاحب الكراسة والقلم ، متثاقلا ومتلعثما .

 

سأله : تريد الزواج منها ؟ أومأ برأسه ، وهو يجيب بصوت خافت . نعم . سألها : تريدين الزواج منه ؟ . أجابت : نعم .

 

سأله : أعزب ؟ . أجاب : نعم . سألها : عزباء ؟ . أجابت : نعم .. بدون بكارة ..

 

انحنى صاحب الكراسة والقلم ، يدون أقوالها . انتفض عاشور من مكانه صارخا وهو متجه نحو باب الخيمة مهرولا ، ويصيح بصوت مرتفع ويردد : لا أريد هذه المغامرة . أسرع دون اتجاه . حين تعثر سقط على الأرض . فتح عينيه وجد عائلته قد تحدق فيه . هو لا زال يصرخ ويردد . لا أريد هذا الزواج . لا أريد هذه المغامرة .

 

الجميع يحدقون فيه باستغراب . سأله أحدهم . أي زواج ..؟ وأية مغامرة ..؟ أجابهم : أن أتزوجها لا .. أن أهجر قريتي لا.. تحسس جسده .

 

كان ساقطا على الأرض ، بجانب سريره ، استدار فألقى نظرة على متاعه .. تبسم ابتسامة عريضة ، ثم أغمض عينيه .

 

وفي الصباح ، لما استفاق من نومه ، ركب أول حافلة.كانت متوجهة نحو المدينة