كان صغيرا عندما فتح عينيه.
رأى العالم كبيرا .. خاف .. بكى.
ضمته أمه ، و أرضعته ، لكن عينيه ظلتا تشاهدان العالم كبيرا.. كان يرى العالم واسعا و يبكي ، ويركض إلى أمه .
كبر قليلا:
و خرج إلى الشارع .. رأى أشياء كثيرة كثيرة ..
خاف و عاد باكيا لأمه ..
كبر أكثر :
و لاحظ أن الأشياء من حوله ، كل الأشياء تتحرك .. لا .. ليس ذلك فقط .. بل إن لها أصواتا .. أصوات كثيرة كثيرة .. خاف و عاد إلى البيت ...
كبر أيضا :
و لاحظت أمه أنه لا يملك غير البكاء .. والصراخ الشديد ..كانوا يتحدثون إليه ، و كان يصغي صامتا ، و لكنه لا يتحدث.. أبدا لا ينطق ..
أخذته أمه ، بعد أن خافت عليه كثيرا إلى الطبيب ، و هناك بكى كثيرا .. و لم يسكت حتى عندما دس الطبيب في يده بالونا صغيرا على شكل طيارة .. تأمله ، و احتضنه ، و ظل يبكي ..
قال له الطبيب قصة طريفة عن ولد يحب أكل الحلوى كثيرا .. و لذلك فقد مرضت أسنانه .. سكت و كشر عن أسنانه الصغيرة البيضاء .. فضحك الطبيب .. لكنه لم يتكلم .. فحص الطبيب أذنيه ، و حلقه .. و قال لأمه :
- ابنك سليم !!
- و لماذا لا يتكلم ؟
- أنه سليم .. و ذكي ، و يسمع كل ما يقال .. و سيتحدث .. لا تقلقي ..
الأم حملت ابنها و خرجت و هي تكاد تبكي .. لماذا لا يتكلم كالأولاد الآخرين .. قالت له ذلك ، و مرّت بدكان ، و أخذت له العصير الذي يحبه ، و قطع البسكويت اللذيذ ، و قالت : ستخبرني عن طعمها في البيت .. ابتسم لها ، و هز رأسه .. فرحت الأم لابتسامته ، فعادة لا يعرف غير الصراخ ..
بشرت أباه و أخوته .. و تحلقوا حوله .. ابتسم لهم .. لكنه بكى عندما أخذوا يلحون عليه..
قال الأب ساخرا :
- لو كان الكلام من فضة فالصمت من الذهب !
ضحك الولد .. تركوه مع أخته الصغيرة ..كانت أكبر منه بعامين .. حدثته عن المدرسة .. قام و أحضر حقيبتها ، و أخرج كراسة الرسم و الألوان .. و أشار لها أن ترسم له ، قالت :
- هل تريد أن أرسم لك ؟ هزّ رأسه بالنفي ، فقالت :
- هل تريد أن أعلمك الرسم ؟ هزّ رأسه موافقا ، فقالت له :
- لم أسمعك .. ماذا تقول ؟
- أن أرسم ... قال ذلك بصوت خفيف !!
صرخت البنت على أمها ، فبكى الولد بصوت عال ...
لم يتحدث في ذلك اليوم ، و لا حتى في الأيام التالية . لكن أخته كانت تعلمه الرسم كل يوم .. و في الأسبوع الأخير عندما يكونان لوحدهما يبدأ الحديث معها بصوت خافت .. كان يقول لها جملا جميلة :
ـ العالم مليء بالأشياء .. العالم مزدحم بالأصوات .. الكلام كثير جدا ..أحب الرسم .. الألوان جميلة .. السماء.. البحر .. الشجر .. الغيوم ... و صف طويل من الكلمات ، كلها يقولها بصوت خفيف ، و يرسمها في كراساتها ....
كبر الولد ، و كان يحدث أهله بصوت خفيف ، و عندما يكون في الصف يظل صامتا حتى يسأله المعلم ، فيقف ، و يقول كلاما موجزا لا يتعدى الإجابة .. و عادة ما تكون إجابته مميزة .. ثم ينهمك في الرسم ..
كبر و هو قليل الكلام .. لكنه كان يحدث أخته كثيرا ، و يقول لأهله بعض الحكايات ، و عندما يسأله أصدقاؤه عن سكوته الطويل ، يبتسم ، و يقول لهم ، و هو يرسم بألوانه الكثيرة :
ـ العالم مليء بالأصوات .. و الضجيج ... هيا نرسم ، و يبتسم