العصافير

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : جـبـير المليـحان | المصدر : www.arabicstory.net

أشجار خضراء كثيرة...

و طيور ، و عصافير كثيرة ..

و أولاد كثيرون يلعبون في تلك القرية االتي تخبئ أشجارها عن الرياح بين جبال عالية ، فيما الغيوم الكثيرة تطل على نخيلها في المواسم و تمطر ...

تمطر ..

تمطركثيرا و كأنها تبكي بغزارة ..

تبكي حتى تمتلئ الأحواض .. و يسيل الوادي .. و يخرج الأهالي .. و الحيوانات .. و الطيور .. و يتطاير النمل في ضوء الشمس البارد .... تتطاير الكلمات .. و الضحك .. و الأطفال ... حتى الغروب .

ذلك لا يحدث في القرية دائما .. بل في مواسم معينة ، و قليلة أيضا ..

ربما مرت سنوات كثيرة دون أن تبرق غيمة واحدة ..

في تلك الأيام تتكاثر سحب الغبار في الطرقات الحزينة .. و يخرج الناس من بيوتهم صامتين .. يسوقون حيواناتهم الهزيلة .. و ينظرون إلى الأشجار الكثيرة و هي تتخلص من أوراقها ، و تنكمش حتى تصير قصيرة الجذوع .. و تنتصب أغصانها العارية .. و تتحول رويدا رويدا إلى أعواد ..

( ن ) أحد أولاد القرية ..

يطوف مع الأولاد .. ويلعب أحيانا .. لكنه لا يتحدث كثيرا .. و لا يرافق الأولاد في رحلاتهم الجماعية لصيد الطيور.. يعقد حاجبيه محتجا ، و يغادر المكان غاضبا عندما يصطاد أحدهم طيرا ...

يمر يوم أو يومان دون أن يروه ..

قبيل الغروب يسألون الرجل العجوز الجالس في زاوية البيت الطيني عنه .. فلا يجيب ، يمد يده مؤشرا ناحية الحقول البعيدة ، و يظل يحدق بعينين صغيرتين بعيدتين ...

يتجاهل الأولاد إشارته ، و يلهون بالكرة وسط أعمدة الغبار المنطلقة من أقدامهم و هم يلعبون حتى اختفاء الضوء ..

يحدق فيهم الرجل العجوز دون أن يتكلم .. أو يبتسم .. و عندما ينفضون أقدامهم من الأتربة .. و يتفرقون إلى بيوتهم .. يعود ( ن ) و يمر بقربه .. يرفع يده محييا الشيخ ، دون أن يتكلم .. يرفع العجوز يده محييا أيضا ، و يبتسم .. ويقوم متكئا على عصاه ، دون أن يلتفت إلى الآخرين ، و يوجه خطاه البطيئة نحو المسجد ..

في يوم ما اصطاد أحدهم طائرا كبيرا ملونا ، كان جميلا جدا .. شاهد ( ن ) الطائر و هو يسقط ، و دماؤه تتناثر على الأعشاب .. خطى خطوات كبيرة و هو يكوّر قبضته .. حدج الولد بنظرة قاسية .. واستدار راكضا ..

مرّ بالرجل العجوز مسرعا ، لم يحيه .. لم يبتسم العجوز .. و لم يخرج ( ن ) للعب مع الأولاد :

قيل أنه يستيقظ ، كل يوم مبكرا و يذهب إلى الحقول ...

و أن الكثير من العصافير كانت تلتف حوله ، عندما تراه ماشيا بين الأشجار ...

و تشاركه الغناء ...

أما الرجل العجوز فسمع ذلك اليوم ، و هو يشير بيده نحو الحقول ، و يحدق بعينيه البعيدتين ، و يبتسم ، يقول :

إن كثيرا من الأغصان تخضر عندما يمر ( ن ) بقربها ، و تكسوها العصافير بالغناء