أنواع الأنساك
قلت: فإذا انتهى مما يشرع للإحرام وعزم على المسير ينوي الدخول في النسك الذي يختاره ويلبي به، فلا بد من النية مع التلبية، كما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه - أو سوق الهدي - كما هو رواية عن أحمد وغيره، واختاره شيخ الإسلام، وقال: بل متى ما لبى قاصدا للإحرام انعقد إحرامه باتفاق المسلمين، ولا يجب عليه أن يتكلم قبل التلبية بشيء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع شيئا من ذلك، ولا كان يتكلم بشيء من ذلك، ولا كان يتكلم بشيء من ألفاظ النية، لا هو ولا أحد من أصحابه، بل كان يقول: لبيك عمرة وحجا . وكان يقول للواحد من أصحابه: بم أهللت؟
ويخير الشخص بين أنواع النسك الثلاثة وهي:
فإذا وصل مكة طاف وسعى للعمرة، وحلق أو قصر فإذا كان يوم التروية- وهو اليوم الثامن من ذي الحجة- أحرم بالحج وحده، وأتى بجميع أفعاله. ولا يوصف الناسك بالتمتع إلا إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج أما من أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج كرمضان فإنه يقال عنه معتمر ولا يقال متمتع وهكذا من أحرم بالحج وحده في أشهر الحج يقال له مفرد ولا يقال له متمتع.
ودليل التخيير بين هذه الأنساك الثلاثة ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة- رضي الله عنها- قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج... . الحديث. وفي صحيح مسلم عنها- رضي الله عنها- قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل الحديث . وقد حكى النووي وابن قدامة وغيرهما - رحمهم الله تعالى- إجماع العلماء على جواز الأنساك الثلاثة.
الأفضل من هذه الأنساك :
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- في التفضيل بين أنواع النسك-: التحقيق أنه يتنوع باختلاف حال الحاج:
فإن كان يسافر سفرة للعمرة، وللحج سفرة أخرى أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج، ويعتمر ويقيم بها، فهذا الإفراد أفضل له باتفاق الأئمة.
وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس، وهو أن يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة، ويقدم مكة في أشهر الحج، فهذا إن ساق الهدي فالقران أفضل.
وإن لم يسق الهدي- يعني وجمع بين العمرة والحج، وقدم مكة في أشهر الحج- فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل له، وهو التمتع.
فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة التي لم يختلف في صحتها أهل العلم بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما حج حجة الوداع هو وأصحابه أمرهم أن يحلوا في إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر .
قلت: ومما رجح به أهل العلم التمتع:
قال الترمذي- رحمه الله: وأهل الحديث يختارون التمتع بالعمرة إلى الحج، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق.
النسك الذي أهل به النبي صلى الله عليه وسلم
تقدمت الإشارة فيما سبق إلى أن القران وهو الجمع بين العمرة والحج بتلبية وبإحرام واحد دون فصل بينهما بتحلل هو النسك الذي أهل به النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو النسك الذي اختاره الله له فإنه ساق الهدي معه من المدينة وهذا هو الذي منعه صلى الله عليه وسلم من التحلل بالعمرة وأن يفعل مثل الذي أمر به أصحابه.
وقد دل على ذلك أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما فعن ابن عمر- رضي الله عنهما-: أنه- يعني النبي صلى الله عليه وسلم - قرن الحج إلى العمرة متفق عليه. وقال عمران بن حصين. في مرضه الذي توفي فيه- لمطرف: اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حج وعمرة رواه مسلم .
وفي البخاري عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق- يقول: أتاني آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجة . وعند مسلم عن أنس- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما جميعا: لبيك عمرة وحجا، لبيك عمرة وحجا .
صفة التلبية وما ينبغي لها
ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أن تلبية النبي صلى الله عليه وسلم : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك .
وقد أجمع المسلمون على لفظ التلبية في حديث ابن عمر- كما حكاه غير واحد- واختلفوا في الزيادة عليه مثل ما روي عن عمر و ابنه- رضي الله عنهما- أنهما كانا يزيدان: لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل . فكرهها بعض أهل العلم وأجازها طائفة منهم واستحبها آخرون.
ولعل الذي يترجح- والله أعلم- الجواز لأنه ثبت في صحيح مسلم عن جابر- رضي الله عنه- وذكر تلبية النبي صلى الله عليه وسلم قال: وأهل الناس بهذا الذي يهلون به- يعني من الزيادة على تلبيته صلى الله عليه وسلم - فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فهذا يدل على جواز الزيادة التي أقرهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا من السنة التقريرية وهي أحد أنواع السنة لكن الاقتصار على تلبيته صلى الله عليه وسلم أفضل.
ومما ينبغي أن يعلم:
والعج: هو رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة دماء الهدي. ولهذا يستحب رفع الصوت بها من الرجال ما لم يفض إلى مشقة تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولأنها شعار الحج، وليقتدى به.
قال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية. وفي الموطأ والسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي، أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال يعني التلبية . ولفظ الموطأ: أن آمر أصحابي، أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال .
ولأحمد وابن ماجة وصححه ابن حبان عن زيد بن خالد رضي الله عنه مرفوعا: أتاني جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تأمر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج .
قلت: وروى الشافعي عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنه كان يلبي راكبا ونازلا و مضطجعا وروى ابن أبي شيبة عن ابن سابط قال: كان السلف يستحبون التلبية في أربعة مواضع: في دبر الصلوات، وإذا هبطوا واديا أو علوه، وعند التقاء الرفاق وثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما موسى كأني أنظر إليه إذا انحدر في الوادي يلبي .
فينبغي الإكثار من التلبية خصوصا عند تغير الأحوال والأزمان، إذا علا مرتفعا أو هبط منخفضا وعند الدخول والخروج، والركوب والنزول، وإقبال الأوقات وأدبارها، وعند تلاقي جموع الناس في الطرقات، فإن الاشتغال بالتلبية ورفع الصوت بها من الرجال إعلانا للتوحيد وتعظيما لتلك الشعيرة، وشغلا للوقت بالذكر، واشتغالا عما لا يفيد أو يضر من الكلام.
واستحب بعض أهل العلم الدعاء بعد التلبية والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه موضع يشرع فيه ذكر الله تعالى فشرعت فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كالصلاة والأذان وقد روى الدارقطني وغيره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من تلبيته سأل الله الجنة واستعاذ برحمته من النار .
الاشتراط في الإحرام
إذا خاف المحرم أن لا يتمكن من أداء نسكه لعارض من مرض، أو مطر أو خوف، أو غلب على ظنه أن يمنع من قبل ولاة الأمر بسبب الإجراءات النظامية، ونحو ذلك من العوائق، يستحب له أن يشترط عند الإحرام، فيقول ما ورد في الحديث: لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني رواه الترمذي وغيره وصححه .
وفي الصحيحين عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: أن ضباعة بنت الزبير قالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وأنا شاكية- أي مريضة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني . ولأحمد قال صلى الله عليه وسلم : فإن حبست- يعني مرضت- فقد حللت من ذلك بشرطك على ربك فمتى حبس عن الحج بمرض أو عدو أو مطر أو نظام، حل من إحرامه، ولا شيء عليه، وهذه فائدة الاشتراط عند الإحرام. أما من لا يخاف من عائق يعوق عن أداء الحج أو العمرة، فإنه لا ينبغي له أن يشترط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط ولم يأمر به إلا من كان مريضا.