أخذنا والدي في ذلك الصباح الباكر الجميل ، كان يوم خميس .. و السماء مليئة بالغيوم .
قادنا بسيارته بجانب البحر ، شاهدت الكثير من النوارس تحط و تطير تحركت السيارة بنعومة بجانب البحر و كأنها إحدى أمواجه الهادئة .. كنت أنظر إلى الزرقة البعيدة الواسعة و أمتد معها .. أسافر كأحلامي الكثيرة ..كان أخي يهزهزني ، و يوقظني من سبات الزرقة .. السيارة تدخل في غابة من النخيل .. و عيناي تطيران كطيور فرحة .. كان أبي يقود السيارة صامتا إلا مع اهتزازات مرحة مع صوت الموسيقى الخفيفة كالبحر .. كم أنت يا أبي ...... وصلنا سوق الخميس : ياله من عالم عجيب .!!
في مثل هذا اليوم من كل أسبوع يجتمع عشرات الناس و الباعة يعرضون أنواعا لا حصر لها من البضائع و الألعاب . كان والدي قد وعدنا : أنا و أخي بهديتين مكافأة لنا على نجاحنا في المدرسة .. إلا أنه لم يفعل .. في كل مرة يقول أنه مشغول .. أنا أراه كذلك ، لكن أخي يتذمر .. هو دائما يتذمر..
ونحن نتجول بين الناس و البضائع و الأصوات والألوان و الأشياء اتسعت عيوننا .. كنت أفكر في هدية جديدة سأختارها من مئات الأصناف الموجودة هنا ، أخي سيختار هديته .. لم أسأله عما يريد ، و لن أتدخل في رغباته : إنها هديته و سيتفاهم مع والدي حولها .
هكذا كنا نمشي .. و كنت مشرقة بفرح كبير .. وصلنا إلى بائع الطيور .. طيور من كل نوع و حجم ، هنا توقفت ، توقفت عند كل قفص : فأنا أحب الطيور .. أحبها كثيرا كالبحر .. فكرت في كل طائر صغير أمامي : من أي أرض جاء ؟ و في أي عش كان يغرد سعيدا فرحا ؟ كيف جاء ؟ و لماذا ؟ هل افتقدته أمه و أخوته هناك ؟ لماذا يستورد الناس الطيور و الحيوانات ؟ أبي مرة حدثنا بأن الناس كانوا يستوردون الناس ؟ يبيعونهم و يشترونهم .. نعم .. ناس للبيع .. طيور .. و غنم .. و أشياء .. أبي يسحبني من يدي قائلا :
ـ هل أعجبتك الطيور ؟
ـ نعم .. نعم .. إنها مدهشة .. أريد أرنبا يا أبي !!
ـ و أنت ؟ قال أبي لأخي .
ـ يعني .. بعضها جميل !!
ـ هل نمشي ؟ قال والدي
و مشينا .. لكنني لمحت قفصا صغيرا تستكين في داخله حمامتان صغيرتان .. أمسكت يد والدي و تسمرت أمام القفص :
ـ أريدهما !! هكذا صرخت . كنت أنظر إلى عيونهما المدورة الصغيرة الخائفة .. و رأسيهما الناعمين المتحركين كهواء صغير .. وضعت قدمي بقوة على الأرض وكأنني أخاف أن أنتزع .. أبي كان يشاهدني ..ضحك ، و قال :
ـ لا تصرخي .. سأشتريهما ، واحدة لك و أخرى لأخيك .. أسود وجه أخي و رد بجفاف و بسرعة :
ـ أريد دراجة !!
أضاف بضيق واضح لفت انتباه البائع :
ـ أنا لا أحب الحمام !
قال والدي موجها حديثه له :
ـ سأشتريهما لكما ، و فيما بعد نفكر بشراء الدراجة . . بإمكاننا أن نشتري قفصا آخر .. و تضعان القفصين على السطح ..
حسم الأمر و أحببت البحر أكثر .. و أحببت عيني والدي و هما تبرقان بالفرح وبالحمامتين .. هو يحب الحمام أيضا ، هكذا قلت لنفسي .. ياله ... أبي هذا .. حملت القفص بالحمامتين .. و ركضت ، أمامهما ، إلى السيارة .. أبي جاء و من خلفه مشى أخي يحمل القفص الفارغ مطأطئ الرأس حزينا ، و كأنه عائد من مدرسة .
في الطريق إلى البيت ركبت في الخلف ، و وضعت القفص قريبا مني ، و أخذت أنظر إلى العيون الذهبية المشعة المدورة الوجلة ، و ابتسم لها .. و الرأسين المهتزين ..كان المنقاران أحمرين طريين .. و القدمان حمراوين قصيرتين و جميلتين .. فتحت القفص لألمس الريش الناعم .. ففزعت الحمامتان ورفتا .. فنهرني أبي :
ـ دعيهما حتى نصل !!
كان البحر ممتدا بعيدا .. علي الآن أن أقسم نظري بينه و بين الحمامتين .. .. سحبت القفص و رفعته حتى واجه الزجاج ، كان أبي ينظر إلي في المرآة ، أومأ برأسه قائلا :
ـ أنت ترينهما البحر !! هما يودان الطيران في الفضاء ..... و واصل القيادة .
وصلنا البيت فركضت و أريت أمي الطيرين ، كنت سعيدة جدا .. ركضت إلى السطح و ناديت والدي ، وضعنا القفصين في زاوية السطح .. كان أخي يراقبنا بفتور.. وضعنا كل حمامة في قفص .. و ركضت لأحضر لهما الماء و الطعام .
في كل صباح : استيقظ مبكرة.. أخرج حمامتي .. تتنزه قليلا ، ثم أغلق عليها القفص ، و أذهب إلى المدرسة .. أما أخي فكان يضع طعام حمامته داخل القفص ..
أخيرا كبرت الحمامة و أخذت تطير قليلا ثم تحط على كتفي ويدي .. و أنا أضحك لها .. أخذت أتركها تحوم حول البيت وسطوح الجيران ثم تعود قبيل الغروب و تدخل إلى بيتها .
في أحد الأيام صعدت إلى السطح و وجدت أخي يقص ريش حمامته .. نظر إلي و قال :
ـ حتى لا تطير !!
و هكذا .. ففي كل يوم أنهي واجباتي ، و أصعد إلى السطح و أفتح باب القفص فتطير الحمامة .. لقد كبرت و كبرت أختها ، و طال ريشها..قلت لأخي أن يفتح لها الباب لتطير .. و ستعود إلى بيتها .. هز رأسه رافضا ..
كانت الحمامة تنظر إلي و أنا أفتح لأختها الباب .. عيناها الذهبيتان تدوران بحزن .. طارت حمامتي عاليا ، و أخذت تصفق بجناحيها ثم تهوي و تستقيم .. إنها تلعب في الهواء الواسع .. حرة طليقة .. و أنا سعيدة بهذا.. أخذت أضحك .. التفتّ ، و رأيت الحمامة الأخرى تزاحم باب القفص بمنقارها ، اقتربت منها و قررت أن أساعدها و أفتح الباب .. قلت دعها تطير مع أختها .. كان أخي يجلس عابسا و هو ينظر إلى ألعاب حمامتي في الهواء .. مددت يدي و فتحت باب القفص الثاني .. فرّت الحمامة ، و لحقت بأختها في الجو .. لعبت الحمامتان كثيرا هناك .. و قبيل الغروب حطت حمامتي فوق يدي ..توجهت بها لتدخل بيتها .. كانت أختها ما زالت تحوم حول البيت و تلعب .. حامت كثيرا .. ثم انطلقت عاليا حتى غابت عنا .
انتظرت حتى عم الظلام و لم تعد .. نزلت و لم يسألني أخي .. هو لا يكترث للحمام .
الآن و في كل يوم تخرج حمامتي من بيتها .. و تطير .. كثيرا .. و كثيرا ما شاهدنا أختها تلعب معها في الأجواء .. غير أنها تعود وحيدة عند المساء