ممَّا يميِّز العقل الواعي، الطامح للنماء والنهضة والثراء الفكري والعلمي، تلك الروح التربويَّة المتفائلة غير الحاقدة أو الحاسدة، والتي تعتني بصياغة أي عمل تربوي فاعل يفيد الأمَّة المسلمة بشتَّى شرائحها ومنتسبيها، وصناعته وتشجيعه ، لكي يكون لهذه المشاريع والأعمال أثر طيب في المستقبل.
وهناك الكثير من الرموز والقادة والمفكرين الذين أنتجوا وصنعوا للأمَّة الشيء الكثير، وخلَّفوا وراءهم رموزاً ونجباء عرفت الأمَّةُ بعد ذلك قدرهم ، وكانت كلماتهم أعراساً من الشموع جامدة، حتَّى إذا ماتوا من أجلها انتفضت مشاريعهم وكلماتهم فصارت حيَّة وعاشت بين الأحياء وقَّادة مضيئة! تلك النماذج نفتقد منها الكثير في عالمنا وواقعنا المعاصر، والتي نذرت نفسها لصناعة الجيل، وتربية النشء ، وتشجيعهم على الابتكار والعمل والإبداع والخدمة لهذا الدين في مجالات الحياة.
غير أنَّ هناك نفوساً عجيبة تنظر إلى العمل الدعوي والإسلامي كله، نظرة متشائمة، وليتها تقف عند هذا الحد، بل تزيد النار أُواراً، واللهب اشتعالاً، حينما تجدها قد تصدَّت لإبراز المثالب، وشرح المعايب، وتحرير الأوراق في النقض باسم النقد وهكذا دواليك !
العمل الإسلامي ـ ولا شك ـ بحاجة إلى مطارحة همومه، وتبيين بعض نواقصه، ولكن في إطار التقويم والتحفيز والتشجيع، وليس على أساس التجريح
وهذا أمر واقع، قد يكون من أسبابه : الحسد، أو الغيرة، أو قلَّة الحيلة وضعف التدبير بصناعة مشاريع تربويَّة، أو الانهزاميَّة الفكريَّة، أو قلَّة الإنصاف، أو حالة نفسيَّة لازمته طول عمره فهو يعيش من خلالها على تطويح جهود الآخرين.
ولقد كان بإمكان هؤلاء أن يعدُّوا أنفسهم جزءاً من هذا المشروع، وبدلاً من أن يقوموا بالتشنيع والتبشيع على أصحابهم وحسب، فإنَّه كان بإمكانهم أن يقوموا بنصرة هذا الدين من خلال عملهم الدؤوب وسعيهم الحثيث لعمليَّة الإصلاح والبذل، وخصوصاً أنَّ الأمَّة المسلمة اليوم تعيش حالةً تتماثل فيها من داء أزمن وأعيا؛ فلا بد من رفع الهمم, وتشجيع أية بادرةٍ لخير؛ فإنَّ ذلك خطوة في الاتجاه الصحيح...
إنَّ من المعلوم أنَّ أسهل شيء على المرء قيامه بالنقد والإسفاف وتحقير جهود الآخرين، ظانَّاً أنَّ القيام بالمشاريع والتفكير فيها من أسهل ما يكون، ولكن حين تدعوه إلى أن يفكر معك ويستنهض همَّته لتقليب عقله فيما ينفع ويفيد، فسيجد أنَّ الشروع في هذا المشروع أمر ليس من السهولة بمكان، بل قد يستصعب كثير من هؤلاء المضي في مثل هذه المشاريع، سواء أكانت فكرية أو توجيهية أو سياسية أو تربوية أو اقتصادية، حيث يرى بأمِّ عينيه أهميَّة مواصلة المسير إلى الهدف وعدم الانحراف عنه، ويشعر بأنَّه قد تقف رجله وتتعثر أخرى بسبب بعض العراقيل، وحدوث الأزمات، وفتور العاملين، وقلَّة المعينين، ومع هذا فهو يلحظ أولئك الذين ينتفخون أمامه قائلين له: إنَّ عملك الذي قمت به أوهن من بيت العنكبوت، أو هو عمل غير صحيح، أو غير ذلك من الأراجيف التي يتمنطقون بها ليل نهار، ويظنون أنَّهم فاعلون في حياتهم شيئاً من خلال نقدهم وردِّهم وتشنيعهم وتحطيمهم لجهود الآخرين وكفى، وصدق الله تعالى:(أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا)
يقضى على المرء في أيَّام محنته * حتَّى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ نرجو من الله ـ تعالى ـ أن يتوب علينا وعليهم ويغفر لنا ولهم تقصيرنا وتقصيرهم، فإنَّه لا راحم سواه، ولا غافر إلاَّه ! • فرق بين هدم المشاريع ونقدها: العمل الإسلامي ـ ولا شك ـ بحاجة إلى مطارحة همومه، وتبيين بعض نواقصه، ولكن في إطار التقويم والتحفيز والتشجيع، وليس على أساس التجريح والتنكيد على الآخرين في عملهم ومشروعاتهم، ومحاولة نسف جهودهم، والتقليل من شأنهم، والتثبيط من همَّة القائمين بها.
وأذكر أني تحدثت مرَّة إلى الأستاذ الدكتور جعفر شيخ إدريس ـ حفظه الله ـ عن جدوى طروحات هؤلاء المثبطين المحطِّمين لجهود الآخرين فقال لي: ( يا أخي! هؤلاء يقلُّ عمل أحدهم بمقدار كثرة نقده، فيكون ما يفسد أكثر ممَّا يصلح!). تذكرت حينها كلاماً لأحد علماء السلف حيث قال: إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فتح له باب العمل وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبدٍ شرَّاً أغلق عليه باب العمل وفتح له باب الجدل.
أنَّه من أخلاق المسلمين بعامة, والعلماء والدعاة منهم بخاصة, الإنصاف؛ بذكر المحاسن والإيجابيات حتى في الخصوم
سيقول قائل: وهل تبغي من حديثك هذا أن يكون باب النقد والنصح لكل مسلم مقفلاً؟ والجواب عن سؤال كهذا أن يقال: نحن مع النقد البنَّاء، ومع النصح الهادف، ومع توضيح الأخطاء سواء كان من وضَّح الخطأ صغيراً أو كبيراً، ورحم الله ـ تعالى ـ الإمام ابن تيميَّة حين قال : (ولهذا يسوغ بل يجب أن نبين الحق الذي يجب اتِّباعه وإن كان فيه بيان مَنْ أخطأ مِنَ العلماء والأمراء) مجموع الفتاوى:(19/ 123). وهكذا كتب الحافظ ابن رجب، فقال في كتابه (الفرق بين النصيحة والتعيير)، حين كان يتحدَّث عمَّن يبيِّن الخطأ ويوضِّح وجه الصواب، حيث قال:(فإن كان مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق ولئلا يغتر الناس بمقالات من أخطأ في مقالاته، فلا ريب أنه مثاب على قصده ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم، وسواء كان الذي بيَّن الخطأ صغيراً أو كبيراً) وهذا كلام نفيس! إذن نتفق سوياً أنَّ القصد ليس بمن يريد أن يوضح الخطأ، أو يبين القول الصواب والحق، فإنَّ هذا أمر لا غبار عليه، بل قد يجب كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة!
بيد أنَّه من أخلاق المسلمين بعامة, والعلماء والدعاة منهم بخاصة, الإنصاف؛ بذكر المحاسن والإيجابيات حتى في الخصوم , بل والكافرين؛ فكيف بالمسلمين؛ وهم يخوضون المحاولات للنهوض والظفر! مجتهدين في أمثل الطرق, متحرين للصواب والحق؟ أمَّا أن ينتقل الأمر إلى مسبَّة أي جهد إسلامي، والتهوين من أي عمل يراد به نصرة الله تعالى، بحجج واهية وغير موضوعيَّة، فهذا مما ينبغي ألاَّ يفعله عاقل فضلاً عن مسلم ! ونحن نقول لهؤلاء: تفضلوا واقتحموا الميدان، ونحن من خلفكم مشجِّعين، ولكم مؤيدون إن كان عملكم لا يخرج عن ضوابط المنهج الإسلامي، فأتونا بما ينصر حقَّنا، ويغيظ عدونا، ويهزم الباطل وأهله.
• نماذج من الإساءة لجهود الآخرين: أتذكر أنَّه حين قامت (الحملة العالمية لمقاومة العدوان) قام ثلَّة من المتحمِّسين لدينهم فقالوا الأقاويل وكتبوا الردود، وكانت من قبيل : ما فائدة هذه الحملة؟ وما جدواها، ونحن نعيش في زمن الاستلاب الحضاري والفكري! وقد تضمَّنت تلك الأقاويل والردود قدراً كبيراً من التحقير والتهوين من شأن هذه الحملة المباركة، التي لو لم يكن لها دور إلاَّ جمع العلماء وأهل الفكر والرأي بل من يختلفون في المنهج ليقولوا للعالم الغربي: لا لاحتلالكم ديار الإسلام، وسنقاومكم إعلامياً وشعبياً ونخبوياً، لو لم يكن من جهد لهذه الحملة المباركة إلاَّ هذه لكفى؛ فكيف وقد كان لها دور في صناعة محاضرات علمية، وندوات فكرية، ومواقع إلكترونية، ومؤتمرات عالمية فضحت فيها أساليب الطغيان الأمريكي ومن عاونهم من شلل الزنادقة والمنحلِّين!