قصَّة الخلق

الناقل : mahmoud | المصدر : www.khayma.com

قصَّة الخلق:

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {وإذ قال رَبُّكَ للملائِكَةِ إنِّي جاعلٌ في الأَرضِ خَلِيفَةً قالوا أتَجْعَلُ فيها مَن يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدِّمَاءَ ونحن نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لك قال إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ(30) وعَلَّم آدَمَ الأسمَاءَ كُلَّهَا ثمَّ عَرَضَهُم على الملائِكَةِ فقال أنبِئُونِي بأسماءِ هؤلاءِ إن كُنتُم صَادِقِينَ(31) قالوا سُبحَانَكَ لا عِلمَ لنا إلاَّ ما عَلَّمتَنَا إنَّكَ أنت العَلِيمُ الحَكِيمُ(32) قال ياآدَمُ أنبِئْهُم بأسمائِهِم فلمَّا أنبَأَهُم بأسمائِهِم قال ألم أقُل لكم إنّي أعلَمُ غَيبَ السَّمواتِ والأَرضِ وأعلَمُ ما تُبدُونَ وما كنتُمْ تَكْتُمُونَ(33) وإذ قُلْنَا للملائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبليسَ أَبَى واسْتَكْبَرَ وكان من الكَافِرينَ(34) وقُلْنَا ياآدَمُ اسكُنْ أنتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلا منها رَغَداً حيثُ شِئْتُمَا ولا تَقْرَبَا هذه الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا من الظَّالِمينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عنها فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فيه وَقُلْنَا اهبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ولكم في الأَرضِ مُستَقَرٌّ ومَتَاعٌ إلى حِينٍ(36) فَتَلقَّى آدَمُ من ربِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عليه إنَّهُ هو التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37)}

سورة الأعراف(7)

وقال أيضاً: {ولقد خَلَقنَاكُم ثمَّ صَوَّرنَاكُم ثمَّ قُلنَا للملائِكَةِ اسجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبليسَ لم يكن منَ السَّاجِدِينَ(11) قال ما مَنَعَكَ ألاَّ تَسجُدَ إذ أمَرتُكَ قال أنا خَيرٌ منهُ خَلَقتَنِي مِن نارٍ وخَلَقتَهُ مِن طِينٍ(12) قال فاهبِط منها فما يكون لك أن تَتَكَبَّرَ فيها فاخرج إنَّكَ منَ الصَّاغِرِينَ(13) قال أَنْظِرني إلى يوم يُبعثون(14) قال إنَّك من المُنْظَرين(15) قال فَبِمَا أغوَيتَنِي لأَقعُدَنَّ لهم صِراطكَ المُستَقِيمَ(16) ثمَّ لآتِيَنَّهُم من بين أيدِيِهم ومن خَلفِهِم وعن أيمَانِهِم وعن شَمَائِلِهِم ولا تَجِدُ أكثَرَهُم شَاكِرِينَ(17) قال اخرجْ منها مَذؤُوماً مدحُوراً لَمَن تَبِعَكَ منهم لأملأَنَّ جَهَنَّمَ منكم أجمَعِينَ (18) وياآدَمُ اسكُنْ أنتَ وزَوجُكَ الجَنَّةَ فَكُلاَ من حيثُ شِئتُمَا ولا تَقرَبَا هذه الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا من الظَّالِمِينَ(19) فَوَسوَسَ لهما الشَّيطَانُ لِيُبدِيَ لهما ما وُورِيَ عنهما من سوْءَاتِهِمَا وقال ما نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عن هذه الشَّجرةِ إلاَّ أن تَكُونَا مَلَكَينِ أو تَكُونَا من الخَالدينَ(20) وقَاسَمَهُمَا إنِّي لكما لَمِنَ النَّاصِحِينَ(21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فلمَّا ذَاقَا الشَّجرةَ بَدَت لهما سَوءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخصِفَانِ عليهِمَا من وَرَقِ الجَنَّةِ ونَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَم أَنهَكُمَا عن تِلكُمَا الشَّجرةِ وأقُل لكُمَا إِنَّ الشَّيطَانَ لكما عَدُوٌّ مبِينٌ(22) قالا رَبَّنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنَا وإِن لم تَغفِر لنا وتَرحَمنَا لَنَكُونَنَّ من الخَاسِرِينَ(23) قال اهبِطُوا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ ولكم في الأَرضِ مُستَقَرٌّ ومَتَاعٌ إلى حينٍ(24) قال فيها تَحيَونَ وفيها تَمُوتُونَ ومنها تُخرَجُونَ(25)}

سورة الحجر(15)

وقال أيضاً: {ولقد خَلَقْنا الإنسان من صَلصال مِن حَمَأٍ مَسْنُون(26) والجَانَّ خَلَقْناه من قبلُ من نارِ السَّموم(27) وإذ قال ربُّك للملائِكَةِ إنِّي خَالقٌ بشراً من صَلصالٍ من حَمأٍ مَسنون(28) فإذا سوَّيتُه ونَفختُ فيه من روحي فَقعوا له ساجدين(29) فَسَجَد الملائِكةُ كُلُّهُم أجمعون(30) إلاَّ إبليس أَبَى أن يكون مع السَّاجدين(31) قال ياإبليس ما لك ألاَّ تكون مع السَّاجدين(32) قال لم أكن لأسجدَ لبشرٍ خَلَقْتَهُ من صَلصالٍ من حَمأٍ مَسنون(33) قال فاخرج منها فإنَّك رجيم(34) وإنَّ عليك اللَّعنةَ إلى يومِ الدِّين(35) قال ربِّ فَأَنظِرني إلى يومِ يُبعثون(36) قال فإنَّك من المُنْظَرين(37) إلى يومِ الوَقتِ المَعلوم(38) قال ربِّ بما أغْويتَني لأُزيِّننَّ لهم في الأَرض ولأُغْوينَّهم أجمعين(39) إلاَّ عِبادكَ مِنهم المُخْلَصين(40) قال هذا صراطٌ عليَّ مستقيم(41) إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ إلاَّ منِ اتَّبعك من الغَاوين(42) وإنَّ جهنَّمَ لَموعِدُهُم أجمعين(43) لها سبْعةُ أبوابٍ لكلِّ بابٍ منهم جُزءٌ مَقسوم(44)}

/ ومضات:

ـ الله تعالى هو الخالق المبدع، وهو الواسع العليم، الحكيم الفعَّال لما يريد. خلق الأرض ثمَّ خلق آدم، ووضع لكلٍّ منهما نواميس وموازين تتواءم وتتلاءم لتصلح حياة آدم على الأرض، ولتصلح الأرض بحياة آدم؛ فيتجلى بذلك إعجاز الله تعالى في خلقه ودقَّة صنعه.

ـ إن في تعليم الله لآدم أسماء الأشياء كلِّها {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} إشارة دقيقة إلى قدرة الإنسان على الوصول إلى درجات عليا من المعرفة والكمال، وإلى أهميَّة العلم وضرورته للحياة الإنسانية حسب المنهج الإلهي.

ـ أعطى الله آدم القدرة على الكلام منذ خلقه وعلَّمه {قال ياآدم أنبِئْهُم}.

ـ كرَّم الله الإنسان المؤمن بالله، الممتثل لأمره؛ على سائر مخلوقاته بما فيهم الملائكة والجن، ولذلك أمرهم الله بالسجود لأبي البشريَّة آدم عليه السلام سجود تكريم وتقدير؛ للروح الإلهية المودعة فيه، وللعلم الَّذي أكرمه الله به، فسجدوا إلا إبليس أبى.

ـ دأْبُ الملائكةِ وشغلُهم الشاغل التسبيح لله، وتنزيهه عن كلِّ ما لا يليق بذاته القدسيَّة.

ـ عرض الله تعالى علينا في الآيات السابقة صورتين متشابهتين في البداية متعارضتين في النِّهاية، هما صورتا آدم المذنب، وإبليس المتمرِّد. فاشتركت الصورتان في أنَّهما تمثِّلان مخالفة لأمر الله تعالى، إلا أنَّ الأولى انتهت باعتراف آدم بذنبه وطلبه الصَّفح والغفران من الله تعالى، بينما انتهت الثانية بإصرار إبليس على ذنبه وتماديه في غيِّه، ولذا فقد نال آدم العفو والمغفرة من الله الغفور الرحيم، واستحقَّ إبليس الوعيد والعقاب من الله الشديد العقاب، وهكذا فالبشر جميعاً لهم مطلق الاختيار لأحد النموذجين في سلوكهم في هذه الحياة ولاشكَّ أنه سينال الجزاء الَّذي يتناسب مع اختياره.

ـ من تواضع لله رفعه، ومن تكبَّر عليه وضعه.

ـ إن الله عزَّ وجل يقبل التَّوبة من عباده المنيبين إليه، ويحفُّهم برحمته إن كانوا صادقين في الرجوع إلى بابه، ملتزمين بآداب التوبة بين يديه.

/ في رحاب الآيات:

خلق الله تعالى الأرض وأودع فيها ما شاء من أسباب الحياة والنعيم، فأبدع خلقها وأحسنه، وكانت الملائكة ـ بتسبيحها وتقديسها لله تعالى ـ ترى لنفسها مكانة خاصَّة عنده، فلما خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه، أخبر الملائكة أنه سيجعل من هذا المخلوق خليفـة له في الأرض، فـتـعجَّبوا من أمر استخلافه عليها بعد أن أدركوا ـ بعلم الله ــ ما سيكون عليه حال ذريَّة آدم من فساد في الأرض وسفك للدِّماء، وعلى الرُّغم من معرفتهم وإدراكهم لطبيعة البشر فقد تعذَّر عليهم إدراك الحكمة من خلقهم؛ وهي أن الله تعالى أراد أن يودع الأرض لدى هذا المخلوق الفريد ويملِّكه زمامها، ويطلق يده فيها، ليَكِل إليه من وراء ذلك مهمَّة إظهار إعجازه تعالى في الخلق والإبداع، وكشف ما اختزنته هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كلِّه ـ بإذن من الله ـ في المهمَّة الجليلة الَّتي أولاها الله له، وهي بناء هذه الأرض وعمارتها، وتحقيق إرادة الخالق في تطويرها وترقيتها، قال تعالى: {وإلى ثمودَ أخاهُم صالحاً قال ياقومِ اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيرُهُ هو أنشأكُم من الأرضِ واستعمركُم فيها فاستغفروهُ ثمَّ توبوا إليه إنَّ ربِّي قريبٌ مُجيب} (11 هود آية 61) (استعمركم فيها: أي كلَّفكم بإعمارها)، و لهذا فقد جاءهم القول الفصل من الله تعالى: {إنِّي أعلمُ ما لا تعلمون} ليضع حداً لتساؤلاتهم واستفساراتهم.

ويُستشفُّ من سياق هذه الآيات الكريمة أن الله تعالى خلق الجنَّ من نار ثمَّ خلق آدم من طين، ووهبه من العلوم ما لم يهبه لغيره من خلقه، فعلَّمه أسماء الأشياء والأجناس وغيرها ممَّا شاء، وبذلك شرَّفه ورفعه إلى مكانة سامية. وفي هذا تشريفٌ للعلم والعلماء، ورفعٌ لمكانة العابد العالم على العابد الجاهل.

والملائكة ما خُلقوا إلا ليعبدوه ـ عزَّ وجل ـ ويسبِّحوه وينفِّذوا ما يُوْكَلُ إليهم من مهمَّات محدَّدة، بينما خُلق آدم وبنوه ليسلكوا سُبُل العلم الموصلة إلى معرفة الخالق، وعبادته حقَّ العبادة.

وتعرض الآيات صورة الاختبار الَّذي أقام فيه تعالى الحجَّة البيِّنة على ملائكته بسعة علمه، وتفرُّده في تصريف شؤون خلقه، وذلك قبل أن يأمرهم بالسجود لآدم، وفي هذا درس تعليميٌّ لطيف في آداب المناظرة وتصريف الأمور، فالله تعالى مع استغنائه عن إقامة الحُجَّة والدليل لمخلوقاته على شمولية علمه، لم يمنعهما عن ملائكته تكريماً لهم، وتعليماً للناس كي يحسنوا محاكمة الأمور من جهة، ولكي يحلم قويُّهم على ضعيفهم، ويتواضع كبيرهم لصغيرهم ويأخذه بالرِّفق والحكمة من جهة أخرى. فقد عرض الله تعالى على الملائكة أشياء ثمَّ أمرهم أن يخبروه بأسمائها فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، واعترفوا بعجزهم وبأنه لا علم لهم إلا ما علمهم إيِّاه، وعند ذلك أمر عزَّ وجل آدم أن يخبرهم بالأسماء الَّتي يجهلونها، فلما أخبرهم أدركوا السِّر في خلافة آدم وذريَّته.

لقد كان ذلك السرُّ يكمن في صلاحيَّة البشر للاشتغال بالماديَّات الَّتي لا تقوم الدنيا إلا بها، وذلك لأن المادَّة جزء من أجزاء تركيبهم الخَلْقي، فقد خُلق آدم عليه السلام من تراب، فاختلف بهذه النشأة هو وذريَّته عن الملائكة، وعلى أساس هذا الاختلاف اختلفت الحكمة في خلق كلٍّ منهما. فبعد أن أقيمت الحُجَّة على الملائكة بسعة علم الله، وعظيم حكمته في وضع علمه حيث يشاء، قال تعالى لهم: {أَلَم أقل لكم إنِّي أَعلمُ غيبَ السَّمواتِ والأَرضِ وأَعلمُ ما تُبْدونَ وما كُنتم تَكْتُمون}، ثمَّ أمرهم وإبليس أن يسجدوا لآدم، سجود تحيَّة وتكريم، واحترام وتقدير، للقدرة الإلهية المودَعَة فيه، لا سجود عبادة وتقديس وتعظيم، فامتثلوا للأمر جميعاً، عدا إبليـس ـ وهذا الاسـم معناه الآيس البعيد من رحمـة الله ــ الَّذي عصى أمره تعالى بالسجود لآدم حسداً واستكباراً، واعتدَّ بأصل تكوينه وهو النار، فقال لربِّه متبجحاً ومُغْتَرّاً: {أنا خيرٌ منه خَلَقْتني من نارٍ وخَلَقته من طين} فباء بغضب من الله لارتكابه خطيئتين من أكبر الخطايا، أولاهما: عصيـان أمر الله تعالى والإصرار على هذا الذنب، والثانية: التكبُّر والاعتداد بمادة خلقه مقارنة بمادة خلق آدم، جاهلاً بأن مكوِّنات التراب أفضل من تكوين النار، وأنَّ عناصر التراب لا ينجم عنها إلا الخير، وأنَّ في النار قوى مهلكة ومدمِّرة. وأصبح بعصيانه وإصراره مخلوقاً لا يستطيع العمل إلا وفق اتِّجاه واحد وهو الشرُّ المطلق.

وبهاتين الخطيئتين استحقَّ إبليس العقوبة العادلة من الله تعالى، وهي الهبوط من الجنة الَّتي كان فيها، وخروجه من دائرة الرحمة الإلهيَّة. وعند ذلك طلب من ربِّه أن يمهله إلى يوم القيامة ليثأر من آدم وذريَّته بإغوائهم، فأجابه تعالى إلى طلبه: {قال فإنَّك من المُنظرين * إلى يومِ الوقتِ المعلوم} فلما أخذ الوعد من الله بذلك، واستوثق من الإمهال أخذ يتمادى في العناد والتمرُّد على خالقه، وأقسم بعزَّة الله ليفسدنَّ في الأرض عن طريق إضلال ذريَّة آدم وتزيين المعصية لهم، وتلبيس الحقِّ عليهم بالباطل، حتَّى يصبح أكثرهم عصاة كافرين. فأعلمه الله بأنه لا سلطان له على عباده المخلَصين المصطَفَين، من رفعوا شعار التَّوحيد، وأخلصوا الإيمان والعمل لله، فهم يستظلُّون في ظلاله، يعصمهم ويكلؤهم برعايته في الدنيا، ويدخلهم جنته في الآخرة. أمَّا من يتَّبع الشيطان من عباده فقد أقسم الله ليعذِّبنَّه وإيَّاهم فقال تعالى: {لأَمْلأنَّ جهنَّمَ منك وممَّن تَبعك منهم أجمعين} (38 ص آية 85) وذلك عقاباً لهم لأنهم أعمَوْا بصائرهم عن الحقيقة بعد أن تبدَّت لهم واضحة جليَّة، فضَلُّوا وأضلُّوا.

ويُطوى هذا المشهد وإبليس يتحرَّق غيظاً من آدم، متمنِّياً غوايته وسلبه النِّعَم الَّتي منحه الله إيَّاها، ليُعْرَض مشهد آخر هو مشهد آدم وقد خلق الله تعالى له زوجة تسكن إليها نفسه، وتطيب بها حياته، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة...} (30 الروم آية 21)، ويأمرهما بالدخول إلى الجنة حيث النعيم الخالد، ويبيح لهما أن يأكلا من ثمار الجنة ومن خيراتها ما شاءا، إلا شجرة واحدة حرَّمها عليهما لغاية يعلمها الله عزَّ وجل. وهذا أوَّل تكليف إلهي لآدم وزوجه، فيه أمر بعدم الاقتراب من شجرة معيَّنة، سبقه توضيح مدى حقد إبليس عليهما، وعداوته لهما.. وفيه إنذار لآدم بأن التجاوب مع إبليس لن ينجم عنه إلا الشقاء، قال تعالى: {فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عدوٌّ لكَ ولِزَوْجِكَ فلا يُخْرِجَنَّـكُما منَ الجنَّة فتشْقَى} (20 طه آية 117) وبطبيعة الحال، فقد اغتاظ إبليس وهو يرى آدم يرفل في نعيم الجنة المقيم، وراحت نيران العهد الَّذي قطعه على نفسه بإغواء آدم وذريَّته تتأجَّج في صدره، ما دامت الحياة قائمة.

ويأكل آدم وزوجه من الشجرة المحظورة مدفوْعَيْن بوسوسة الشيطان، ومُنْخَدِعَين بمسوح التديُّن الَّذي ظهر به أمامهما ــ وهذه أخطر نقطة ضعف يمكن أن يُستغلَّ بها الأناس الطيبون ـ حيث صار يقسم لهما الأيمان على صدقه، وإرادة الخير لهما، {وقاسمهما إني لكما من الناصحين}، وانساب إليهما من نقطة ضعفهما، بعد أن عرف هذه النقطة، وهي الانقياد لغريزتي حبِّ التملُّك والبقاء، وهما من أقوى النَّزَعات الَّتي تتملَّك الإنسان وأهمِّها، فقال له: {..ياآدمُ هل أَدُلُّك على شجرةِ الخُلدِ ومُلكٍ لا يبلى} (20 طه آية 120) فاستجاب آدم وزوجه لإغوائه وأكلا من الشجرة ناسيين، وما كادا يفعلان، حتَّى انكشف ما خفي عليهما من سوء عاقبة مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى، وأدركا فداحة خطئهما، عندها تدخَّلت الذَّات الإلهيَّة معاتبة مؤنِّبة؛ بأَنْ كنتُ قد نهيتكما عن الأكل من هذه الشجرة، وبيَّنت لكما أن الشيطان عدوٌّ لكما، فلِمَ المعصية؟.

على أن سرعة الانزلاق نحو المعصية عند آدم، قابلتها سرعة الرُّجوع والإنابة إلى الله، وهذا هو الفرق بين آدم وإبليس، فالأوَّل أحاط بخطيئته ورجع عنها، والثاني أحاطت به خطيئته بإصراره عليها. وهكذا ندم آدم على مخالفته، وأعلن وزوجَه التَّوبة والإنابة كما علَّمهما سبحانه فقالا: {ربَّنا ظَلمْنَا أنفُسَنا وإن لم تغفر لنا وتَرحَمنا لَنَكوننَّ من الخاسرين} فقبل تعالى توبتهما واجتباهما. أمَّا إبليس فقد أصرَّ على ذنبه، وركبه الغرور، فأمهله تعالى إلى يوم الدِّين، ومكَّنه من أن يرى بني آدم من حيث لا يرونه، وأن يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم، ولكنَّه حصَّنهم في مواجهته بالهداية والإيمان، وأعدَّ لإبليس في الآخرة جحيماً دائماً وعذاباً مقيماً.

وأمَّا ما كان من أمر آدم عليه السلام فإن الله بعد أن تاب عليه، أمره هو وزوجه وإبليس أن يهبطوا إلى الأرض، وحذَّر آدم من مهادنة إبليس أو الرُّكون إليه، وبيَّن له أن الأرض هي مسكنه في الدُّنيا إلى أن ينقضي أجله فيها. وبذلك أَذِنَ تعالى ببدء المعركة بين الخير والشرِّ إلى آخر الزمان، ثمَّ يكون يوم الحساب وتكون العاقبة الحسنى للمتَّقين الأخيار.

وختاماً لهذا الفصل أرى أن نأخذ العبرة من هذه الآيات الكريمة، دونما حاجةٍ إلى الدخول في جدلٍ عقيمٍ حول حقيقة الجنَّة الَّتي عناها الله تعالى ومكانها؛ أفي الأرض هي أم في السماء، وعلينا أن نبتعد عن المخاصمة الفلسفية لئلا نهبط في متاهات تُفَرِّق القلوب وتُشتت العقول؛ والأهم من ذلك كلِّه أن نَصْدُقَ في امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه؛ متجملين بأدب الحوار الإيجابي المثمر، وأن ندرك أن كلَّ فرد منَّا مسؤول شخصياً عن إدارة الخلافة الربَّانية على هذه الأرض، وأن واجبه الأهم أن يتعلَّم {..وعَلَّمَ آدمَ الأسْمَاءَ كُلَّها..} وأن يقوم بالتالي بمهمة تعليم الآخرين {قالَ يا آدمُ أَنْبِئْهُم بأَسمَائِهم ..}، وأن يكون النموذج الصادق في تطبيق ما تعلَّم، وأن يكون النموذج الأصدق في حسن تعليمه للآخرين بالحكمة والموعظة الحسنة.

ومن الإشارات اللطيفة التي يحسن ذكرها في ختام هذا البحث؛ أن الله تعالى عندما حذَّر آدم من التجاوب مع إبليس ذكر له أن نتيجة ذلك سوف تكون خروجه مع زوجه من الجنَّة، وشقاؤه بذلك؛ قال تعالى: {... فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنَّةِ فَتَشَقَى} ولم يقل تعالى: (فتشقيا)، وهذا يعني أن الرجل سيصبح هو المكلَّف في هذه الدنيا بالتعب والمشقَّة، تلبية لحاجات المرأة، وصوناً لها وتأميناً لرفاهيتها