متأبطاً ناييْ القديمَ،
ذهبتُ أبكي فوقَ أبراجِ الحمامْ!
لكأنني رجلُ الكهانةِ
في كنائسِ حزنيَ العالي،
وأتباعي اللقالقُ واليمامْ.
أَوَكُلَّما أصغيتْ أسمعُ من بعيدٍ
صوتَ روحيَ ضائعاً يتوجّعُ؟
أو كلما أحببتُ امرأةً
غرقتُ بحزنها؟
وأنا وحيدٌ ضائعُ!!
والروحُ ثكلى
والكمنجةُ لا تملُّ من الهزامْ!
والأرضُ أمُّ الناسِ
لم تشعرْ بآلامي
ولم تسمعْ صراخيَ في الحطامْ!
فحملتُ مزماري القديمَ
***
ورحتُ أبكي فوق أبراجِ الحمامْ!
لكأنّني شيخوخةُ الخسرانِ
في مُتَعَزَّلي العالي
وحارسُ وحشة المعتزّلينْ!
النائحينَ، المبعدينَ، الغائبينَ،
الموحشينَ المفردينْ!
أنا كلُّ هذا الثكل
محمولاً على أكتافِ من غابوا،
ومرفوعاً على الصلبانِ
من حواءَ حتى مريم الحزنِ المجدّفِ
في بحارِ النادمينْ!
نذراً عليّ لئنْ رأيتكَ
يا عزيزَ الروحِ من بعدِ الغيابِ
لأبكينَ إليكَ من مُتَعَبَّدي النائي
بكاءَ الفاقدينْ!
أنّى حللتَ وأنتَ مخلوقٌ فروقٌ،
موحشُ الدنيا، حزينْ؟
في أيّ (أيلولٍ) من الأيامِ
خلَّفكَ الخريفُ؟..
تضمُّ دنياكَ الحزينةَ في إزاركَ
لا تُبانُ ولا تبينْ!
ما زالَ صوتكَ لائباً في الروحِ
ما زلتْ خيولُ الريحِ
تحملُ في المساءِ
أنينَ مثواكَ الجريحْ!
يا ليتني حجرٌ على ذاكَ الضريحْ!
لأظلَّ أسمعَ نايكَ المعتلَّ
في الأيامِ..
ينشجُ: يا مسيحْ:
لهفي عليكَ وأنت ريحانٌ وريحٌ،
أن تباعدكَ السنينْ!
ضاقتْ عليكَ الأرضُ وهيَ رحيبةٌ
والنفسُ وهي عزيزةٌ..
فضممتَ روحكَ وانسللتَ بوحشةٍ،
كالخلدِ في رحمِ الظلامْ.
وتركتني مستوحشاً في ركنكَ النائي
يأوّهني هديلُ الروحِ كالناياتِ..
والحسراتُ تذروني كأصداءِ
المراثي فوق أبراج الحمامْ.
كلُّ الذينَ أحبهمْ حملوا حقائبهمْ وخلّوني وحيداً
بين عائلةِ اللقالقِ واليمامْ!
أبكي فيحفرُ ثعلبٌ في الأرضِ
أنفاقاً ليأسِ الروحِ
ثم يجوسُ في عتماتها
بحثاً عن المعنى الذي فقدتهُ باصرةُ الخليقةِ
حينما اكتشفَ الكلامْ.
ويشجّرُ اللبلابُ وحشته على الجدرانِ
بحثاً عن أنينِ الناي في الأعلى
فتسقطُ جثّةُ النهوندِ فوق الضارعينْ.
أبكي فيحتطبُ النشيجُ جراحهُ
بالفأسِ من حلقِ الرياحِ المرِّ
معتصراً ثمالتها على شفتيهِ
كالسكّيرِ
ثم يخرُّ مذبوحاً بسكّينِ الحنينْ.
ويضرّجُ الأفقَ الجريحَ
بصرخةِ الموتِ الأخيرةِ
ثم يسقطُ في انتحارٍ رائعٍ
فوق البراري
طائرُ الموتِ الحزينْ!
أبكي فتضربُ وحشةُ الحزنِ القديمةُ
في عراءِ الروحِ ميتمها الكئيبَ
وتقرعُ الأجراسُ ناحبةً
على أبوابِ مريمَ في ظلامِ الليلِ
قرعَ اليائسينْ!
ويرجّعُ الناقوسُ وحدتها الثقيلةَ
بالرنينِ الصعبِ ساعاتِ السآمةِ
ثم يغرقُ في دماءِ المنشدينْ!
وأنا حزينٌ
وسطَ هذي الريح
أنظرُ في فجاجِ الأرضِ كالنسرِ الجريحِ
وأكتفي بالدمعِ مثلَ العاشقينْ!
فالليلُ هذا المولويُّ الكهلُ
لم يتعبْ مَنَ التحديقِ في ندمي
ولم تحدبْ على روحي غداةَ اليأسِ
عاهلةُ الظلامْ!
فضربتُ كالبجعِ المهيضِ
بجانحي السكرانِ جدرانَ الهواء
وطرتُ كي أبكي وحيداً
فوق أبراج الحمامْ!
آنستُ ليلاً هادئاً
فجلستُ أنصتُ كاليسوعِ
إلى بكاءِ الروحِ
في مُتَعَبَّدي العالي..
وأحتطبُ النياحةَ من أعالي السنديانْ!
غيرُ الغيومِ السودِ
لم تشرفْ على يأسي..
وما سمعتْ بكائي
غيرُ أصواتِ الآذانْ!
وأنا الذي باكيتُ كلَّ حزينةٍ
ثكلى
فما قرأتْ على ليلي مراثيها..
ولا رقّتْ على روحي
سوى الناي الكفيفةِ والربابة والكمانْ!
يا ليتني شجرٌ أشيلُ الريحَ
بين جوانحي..
وأهزُّ أغصاني ليغفو العمرُ
في مهدِ الحفيفِ بلذّةٍ،
ويفيءَ تحتيَ عاشقانْ!
يا ليتني إبريقُ راهبةٍ
يذهبهُ غروبٌ (أخضرٌ)
وحمامتانِ حزينتانْ!
يا ليتني نايٌ
تكفكفُ دمعه شفةٌ
وتحضنهُ يدان رحيمتانْ!
يا ليتني مرآةٌ عاشقةٍ
تسرّحني ضفائرها الشفيفةُ
في سهولِ البيلسانْ!
يا ليتني قمرٌ طليقٌ في سماواتِ الأذانْ!
لا أقْرَبُ الأرضَ الضريرةَ
أو ألامسُ صدرها
إلا كما يرتاحُ عصفورٌ على صفصافها
وقتاً ويرجعُ للغمامْ!
فالأرضُ أمّ الناس
لم تشعرْ بآلامي،
وما سمعتْ صراخي في الحطامْ!
فحملتُ مزماري القديم!
ورحتُ كي أبكي وحيداً
فوق أبراج الحمامْ!