التدقيق والتحقيق وإحسان العمل منهج إسلامى

الناقل : heba | المصدر : www.dar-alifta.org.eg

بينما امتازت الحضارة الحديثة بالدقة والإتقان ، نرى كثير من المسلمين يفتقدون هذه المعانى فيما يقومون به من أعمال ، فما هو حكم هذه الظاهرة فى الفكر الإسلامى ؟

والجواب :

أن المسلمين فقدوا للأسف هذه الخصائص التى كانوا يمتازون بها وقتما كانوا بناة حضارة ، فمثلا صحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري المتوفى سنة 256هـ، أصح كتاب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى في نقله، وفي اهتمام المسلمين به، لاسيما وأنه ينقل إلينا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرق فيها غاية توثيق المصدر وغاية النقد العلمي، ولقد سماه الإمام البخاري؛ «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه» غير أنه اشتهر بين الناس «بصحيح البخاري».
وقد سمع ذلك الكتاب من البخاري خلق كثير في كل مدينة وقرية كان ينزل بها البخاري، وقد روى الفربري أنه سمعه منه تسعون ألف نفس، ورواه لمن بعده رواة كثيرون، منهم حماد بن شاكر المتوفى سنة 290هـ، وإبراهيم بن معقل النسفي المتوفى سنة 240هـ، ومنهم محمد بن يوسف بن مطر الفربري المتوفى سنة 320هـ.
ورواية الفربري هذه هي التي وصلت إلينا، فقد سمعها منه عدة منهم أبو محمد الحموي المتوفى 381هـ، وأبو الهيثم محمد الكشميهني المتوفى سنة 389هـ، ورواه عن الحموي الداودي المتوفى سنة 467هـ، وعنه أبو الوقت المتوفى سنة 553هـ، وعنه الإمام النووي المتوفى سنة 676هـ.
واهتم أولئك الرواة بصحيح البخاري أشد الاهتمام؛ فكانوا يقرءونه كلمة كلمة، حتى رأينا اثنين من كبار علماء العربية والحديث يجلسان مع جماعة من الفضلاء لتحرير كل الروايات على مستوى الحركة في صحيح البخاري، وهما: جمال الدين محمد بن مالك صاحب الألفية المشهورة في النحو المتوفى سنة 672هـ، وشرف الدين علي بن محمد اليونيني - نسبة إلى يونين إحدى قرى بعلبك - المتوفى سنة 701هـ، وتمت هذه الجلسات في دمشق، وبلغ عددها إحدى وسبعين جلسة، وذلك من سنة 667هـ، فخرجت هذه النسخة في غاية التحقيق والتدقيق، وأصبحت من أوثق النسخ المعتمدة لصحيح البخاري، بل لو أطلقنا القول بأنها أوثقها وأعظم أصل يوثق به لما كان بعيدا، وقد جعلها الإمام القسطلاني المتوفى سنة 923هـ عمدته في شرح صحيح البخاري، فحقق المتن حرفًا حرفًا على تلك النسخة.
1- هذا الفريق العلمي الذي يتعاون لإخراج العمل منهج افتقدناه، وهذا التدقيق الذي يصل بنا إلى معرفة الأسس والأصول والمنطلقات منهج افتقدناه، وهذا السعي الدءوب عبر العصور والتواصل العلمي الدائم والبناء على ما انتهى إليه السابق منهج افتقدناه، والغريب أنه ذات المنهج الذي وصل به الآخرون في علوم الطبيعة إلى ما وصلوا إليه.
2- انتقلت هذه النسخة الفريدة في خزائن كتب السلاطين والخلفاء حتى استقرت لدى السلطان عبد الحميد الخليفة العثماني، فأرسل بها إلى شيخ الأزهر؛ ليقوم بطباعة البخاري، ويقص الشيخ حسونة النواوي القصة في مقدمته لما سمي بعد ذلك بالمطبعة السلطانية للبخاري؛ نسبة إلى السلطان عبدالحميد خان الثاني التي تمت طباعتها سنة 1311هـ: 1313هـ في تسعة أجزاء تجلد عادة في 3 مجلدات كل مجلد يحتوي على ثلاثة أجزاء.
يقول الشيخ حسونة: "ففكر - أيده الله - في أجل خدمة يسديها للسنة النبوية الحنيفية، فلم ير - وفقه الله - أكمل من نشر أحاديثها الشريفة على وجه يصح معه النقل، ويرضاه العقل، وقد اختار - أجله الله - من بين كتب الحديث المنيفة، كتاب «صحيح البخاري» الذي اشتهر بضبط الرواية عند أهل الدراية، فأمر - وأمره الموفق - بأن يطبع في مطبعة مصر الأميرية؛ لما اشتهرت به من دقة التصحيح، وجودة الحروف بين كل المطابع العربية، وبأن يكون طبع هذا الكتاب في هذه المطبعة على النسخة اليونينية - المذكورة آنفا - المحفوظة بالآستانة العليا؛ لما هي معروفة به من الصحة القليلة المثال في هذا الجيل وما مضى من الأجيال...".
3- وقد قام جماعة من مصححي المطبعة الأميرية معدودين من العلماء بتصحيح النسخة على قدر طاقتهم، إلا أن لجنة الأزهر لاحظت عليهم ملاحظات أثبتوها في آخر كل جزء، وكان من هؤلاء المصححين بالأميرية: محمد بك بن علي المكاوي، ومحمد الحسيني، ومحمود مصطفى وآخرون، وكان محمد بك مكاوي من المهتمين بتصحيح البخاري، فقد قام بطبعه قبل ذلك في سنة 1286هـ، فكتب تصحيحا على لجنة الأزهر في تسع ورقات ذكر فيه 289 خطأ أغلبها مما له وجهان كمنع المصروف، أو صرف الممنوع، أو ضبطان لعلم معين، أو كلمة فيها الوجهان.
فتم طباعة تلك الطبعة السلطانية، وقد انتهت، وبعدما انتهت تلك الطبعة أعادت المطبعة الأميرية طباعة البخاري مع مراعاة ما وقع في السلطانية من ملاحظات، وكان ذلك على نفقة السيد محمد حسين عيد الفكهاني سنة 1315هـ - 1317هـ، فسميت هذه الطبعة بالطبعة الفكهانية؛ تمييزا لها عن السلطانية، فعقب عليها أيضًا محمد بك ابن علي المكاوي في ست صفحات لا تخرج ملاحظاته عما سبق ذكره، وهذه التعقيبات موجودة في دار الكتب المصرية حتى اليوم.
4- فانظر إلى المنهج الذي فقدناه، فعلى رغم أن الفكهانية على منوال السلطانية الحرف بالحرف، والكلمة بالكلمة، إلا أن الأمانة اقتضت التفريق بينهما؛ لمجرد اختلاف من تكفل بطباعتها، حتى رأينا بعد ذلك الناس طبعوا على الفكهانية ويقولون إنهم طبعوا على السلطانية، فخرجت طبعاتهم لا على هذه ولا تلك من تحريف وتصحيف وتغيير في الصفحات، ثم شاع عند كثير من طلبة العلم أن هذه هي السلطانية يقصدون ما طبع لدى مطابع الشعب، أو مصطفى الحلبي أو غيرها على الرغم من البون الشاسع بينهما.
وانظر إلى اهتمام المكاوي الزائد في تحرير النص إلى درجة لا يتهاون فيها بالخطأ إذا تكرر، ولا بالوجه من الإعراب أو الضبط إن كان معتبرًا. إن الذي ينظر إلى منهج الأطباء والمهندسين وأهل العلم بعامة يعرف أن تلك الملكة لا تُربى في النفس إلا بذلك المنهج، وأن الاتجاه العام من الاستهتار وعدم المبالاة أُصِبنا به عندما لم نقرأ البخاري في طبعته السلطانية كرمز من رموز ثقافتنا يجسد الرجوع إلى مضمونه والعمل به وتربية باحثينا في كل المجالات عليه، فليس لدينا من الأوقات ما يسمح بهذا التسيب الفظيع الذي أصاب مؤسساتنا العلمية وأصاب معها جُل العلماء والباحثين.

المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة .