ما مكانة التسامح فى منظومة القيم الأخلاقية الإسلامية ؟ والجواب : تعرض القرآن الكريم لوحدة المنبع الإنساني، ونشأة الإنسانية في صور شتى، وألوان مختلفة من التعبير، وأول صورة ذكرها الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز هي قصة خلق آدم أبي البشر وأصل الإنسانية، وهي كذلك القصة الوحيدة التي تعرَّضت لها المذاهب والشرائع الأخرى في صدد الكلام على أصل البشرية ووحدة منبعها. وفي شأن هذه القصة يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}(1). فالبشر جميعهم عائلة واحدة من أب واحد، وهم جميعا ورثة تلك الخلافة في إعمار الأرض ونشر الأمن والسلام. وإن سفك الدماء وفساد الأرض مسلك بغيض لا يريده الله سبحانه وتعالى من البشر على مختلف أديانهم؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(2). وقال عز من قائل في ذم من كان نهجه كذلك في الفساد: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ} (3). وقد وضع القرآن الكريم قواعد واضحة للعائلة البشرية، وأعلن الإسلام أن الناس جميعًا خُلِقوا من نفس واحدة؛ مما يعني وحدة الأصل الإنساني، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}(4)، والناس جميعًا في نظر الإسلام هم أبناء تلك العائلة الإنسانية، وكلهم له الحق في العيش والكرامة دون استثناء أو تمييز. فالإنسان مكرَّم في نظر القرآن الكريم، دون النظر إلى دينه أو لونه أو جنسه، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (5). وما اختلاف البشرية في ألوانها وأجناسها ولغاتها وديانتها إلا آية من الآيات الدالَّة على عظيم قدرة الخالق تعالى، قال عز وجل: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (6). وهذا الاختلاف لا يجوز أن يكون سببًا في التنافر والعداوة، بل إنه يجب أن يكون سببًا للتعارف والتلاقي على الخير والمصلحة المشتركة، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (7)، وميزان التفاضل الذي وضعه القرآن الكريم، إنما هو ما يقدمه هذا الإنسان من خير للإنسانية كلها مع الإيمان الحق بالله تعالى، فالله يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(8) ولم ينظر القرآن الكريم لغير المسلمين نظرة انتقاص، بل نظر لهم نظرة إجلال، وإن خالفونا، فلم يأمرنا ربنا بقتل من لا يدين بديننا، بل قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (9) قال ابن كثير في تفسير تلك الآية: «أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكْرَه أحد على الدخول فيه»(10). وسبب نزول الآية كما ذكر المفسرون يبين جانبًا من إعجاز هذا الدين؛ حيث إن الإسلام لم يسمح للمسلمين أن يأخذوا أبناءهم الذين هوَّدوهم وهم صغارًا. فقد رووا عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مِقْلاتًا(11) فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّدَه(12)، فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقال آباؤهم: لا ندع أبناءنا(13)، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}. وأما القاعدة التي وضعها القرآن في التعامل مع غير المسلمين فتتمثل في قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}(14)، فالآية واضحة في أننا - نحن المسلمين - عندما لا يرغب غير المسلمين أن ينضموا إلى ديننا فعلينا صلتهم، والعدل معهم، ومعاملتهم المعاملة الطيبة؛ بناء على مبدأ الاحترام المتبادل والعلاقات الطيبة والمصالح المشتركة. وقد ذهب فقهاء المسلمين لفهم هذا المعنى في الصلة بين المسلم وغير المسلم فقالوا: لا بأس بأن يَصِلَ المسلمُ المشركَ قريبا كان - أي بينه وبينه رحم - أو بعيدًا, محاربًا كان أو ذِميًّا؛ لحديث سلمة بن الأكوع قال: صليت الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدت مس كف بين كتفي, فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هل أنت واهب لي ابنة أم قرفة؟» قلت: نعم، فوهبتها له، فبعث بها إلى خاله حزن بن أبي وهب, وهو مشرك وهي مشركة(15). فالإسلام دين يعيش مع الواقع ويقوده إلى فضائل الأخلاق، ومن خلال نظرة متأنية للواقع نلاحظ أن مفكري العالم ومُصلحيه الآن يدعون البشرية إلى التعايش والتقارب، وفي هذا تبدو للإسلام أسبقية في موضوع التعايش السلمي بين دول العالم وإحلال السلام الشامل العادل بيئةً تعيش فيها الشعوب. إن كل من طالع تراث الحضارة الإسلامية عبر تاريخها المشرق المُشَرِّف، وكان يتسم بالحياد والنزاهة - تقرر عنده بوضوح أن الدين الإسلامي هو دين الرحمة والسماحة بأسمى معانيها ومنتهى درجاتها، فالتسامح هو ثمرة الإيمان، ودليل أكيد على الزهد في حطام الدنيا الفانية، والرغبة في القرب من رب العالمين. نصوص القرآن دستور التسامح المنشود : لا شك أن الإسلام هو أوضح الأديان في الدعوة إلى التسامح، وبقليل من الجُهد يتضح ذلك المعنى، ونحن بصدد الاستشهاد بآيات القرآن التي تدعو إلى التسامح، وتعلن في غاية البيان أن دين الإسلام هو دين السماحة. أولا: آيات التسامح المتعلقة بالنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هو رمز هذه الأمة الإسلامية، وهو النموذج الفريد الذي يسعى كل المسلمين إلى التشبُّه به ظاهرًا وباطنًا؛ ولذلك سوف نورد تلك الآيات التي تعاملت مع قمة المسلمين ورأس أمرهم النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأُولى هذه الآيات، قوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(16)، عن ابن عباس في قول الله في كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قال: من آمن بالله واليوم الآخر كُتِب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف(17). وإن كان غير المسلمين لا يُصدِّقون بالقرآن، ولكنهم يعتقدون أننا نصدق بالقرآن، ويعتقدون كذلك أننا نجمع أن هذه الآية في كتابنا العزيز المقدس، إذن فعليهم أن يعتقدوا كذلك أننا سنتعامل مع العالم في إطار هذه الآية بميراث الرحمة المحمدية، ونكون ورثة نبينا العظيم في أخلاقه كلها، والتي على رأسها الرحمة. وإن لم يكن من القرآن غير هذه الآية العظيمة في معنى سماحة الإسلام لكَفَتْ، ولكن الله سبحانه أكد هذا المعنى العظيم بأكثر من آية، كقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (18)، ذكر الطبري تأويلها فقال: «يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم جوابًا له عن دعائه إياه إذ قال: {إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} (19): فاصفح عنهم يا محمد وأعرض عن أذاهم وقل لهم: سلام عليكم، ورفع (سلام) بضمير عليكم أو لكم»(20). وهذه الآية خطاب من الله سبحانه وتعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه في كل عصر، فأمَرَه الله بالصفح وتَرْك المؤاخذة، وهذا الأمر يشمل نهيه عن الانتقام والمؤاخذة، وقرن الله سبحانه وتعالى الصفح بقول: (سلام)، والسلام هو الأمل المنشود الذي سعى إليه المسلمون عبر تاريخهم وفي تاريخهم الحديث سعيًا صادقًا لم يتمثل في الادعاءات وبعض المظاهر الخادعة، والله يعلم بما في قلوب الناس. ورغم أن الله سبحانه وتعالى أمَرَه صراحة بالصفح في الآية السابقة، إلا أنه تعالى أراد أن يؤكد على هذا الأمر ويزيده جمالا، فقال سبحانه وتعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ}(21)، فبيَّن ربنا سبحانه وتعالى أن الصفح المراد ليس مطلق الصفح، بل صفح مخصوص وهو الصفح الجميل، الصفح الذي به جمال وكرم، فيقول الطبري في «تفسيره»: «الصفح الجميل: يقول: فأعرض عنهم إعراضًا جميلا واعف عنهم عفوا حسنا»(22). وكذلك كان صلى الله عليه وسلم متبعا لأوامر مولاه في شأنه كله لا يفتر عنها أبدًا. ومن لم يتبع رسولنا الكريم في دينه بعد بعثته هو منتسب إلى أُمَّته باعتبار كونه من أُمَّة الدعوة، تلك الأمة التي حفظها الله كلها - متبعين وغير متبعين - بوجوده بينهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}(23). ومن آيات التسامح الإسلامي المتعلقة بجناب النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم قوله جل اسمه: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}(24)، فأمره ربه تعالى بأخذ العفو، وقبول اليسير من الناس، وألا يشدد عليهم، وأمره كذلك بالإعراض عن الجاهلين وعدم مؤاخذتهم؛ تأكيدا على معنى الصفح والحلم والسماحة، وهذا توجيه للأمة الإسلامية جميعها في كل عصورهم. والخُلُق المنشود لا يصير سلوكا بمجرد الأمر والنهي، وإنما بالفعل والعمل؛ ولذلك قالوا: عمل الرجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل. والله سبحانه وتعالى على جلال قدره وعظيم قوته تعامل معنا بالرحمة والصفح والعفو. وفي هذا التوجيه الرباني يأمر سبحانه أحبَّ خلقه إليه بأن يتعامل مع أصحابه كذلك، فقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (25)، فبعد أن أخبر سبحانه أن لين النبي صلى الله عليه وسلم رحمة من الله بأتباعه أمره مع ذلك اللين أن يعفو عن أصحابه، فكانت رحمة بعد رحمة، ورحمة على رحمة، وهذا كله حتى يُعلِّم أصحابه الرحمة واللين والرفق، فكان صلى الله عليه وسلم مراد الله يمشي على الأرض، وعلَّم العالَم بأسره الرحمة والعفو. ولم يقتصر أمر الله سبحانه وتعالى لحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم بالرحمة والعفو على أصحابه وأتباعه فحسب، بل أمره الله بأن يسلك نفس المسلك في الرحمة مع اليهود، وقد يتعجب مطالع هذا النص القرآني؛ إذ كان الأمر بالرحمة والعفو يعقب ذكر بعض جرائم اليهود، فقال سبحانه وتعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}(26). وكأن الله عز وجل يريد أن يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: حتى وهم ينقضون الميثاق مع ربهم، ويحرفون كلامه لمصالحهم الدنيوية، لا تعاملهم بمعاملتهم، بل اعف عنهم واصفح؛ لتُعَلِّم العالَمين نزاهة الأخلاق ومكارم الأخلاق، ولا غرو فقد كان صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم. بل أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم صراحة أن يقابل السيئة بالحسنة، فقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (27). فأعلم الله نبيه لما يكون من فائدة العفو والتسامح والدفع بالتي هي أحسن من سلام اجتماعي، حتى يصبح العدو كالولي الحميم، فما أجملها من صورة سعى إليها الإسلام، ودعا إليها في منهجه النظري، وطبَّقها المسلمون عبر تاريخهم المشرق. وفيما يلي نذكر آيات القرآن في التسامح الإسلامي والتي لم تختص برسولنا وحده بل بالأمة الإسلامية جميعها: ثانيًا: آيات القرآن التي تدعو كل المسلمين للتسامح: كانت توجيهات القرآن الكريم للأُمَّة الإسلامية بالتسامح والعفو واضحة، ليس بين أفراد المجتمع الإسلامي فحسب، بل حتى مع من يؤذونهم من المشركين؛ حيث أمر الله المؤمنين أن يعفوا ويغفروا لغير المسلمين، كرد فعل عما يلاقونه من الأذى، وهذا سمو أخلاقي ما له نظير بين أمم البشر. ولعل قائلا يقول: إنهم كانوا يتسامحون مع الذين يؤذونهم لأنهم ليس لهم شوكة ولا قوة، فالجواب: لو أن المسألة مسألة ضعف لقال الله لهم: اصبروا حتى تتمكنوا فتنتقموا، ولكنه قال: اعفوا واغفروا واصفحوا، كما في قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(28)، ويؤكد القرآن الكريم على الدفع بالتي هي أحسن وفوائده وكون ذلك مع الذين يريدون أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فقال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(29). فهذا سياق تحتار فيه العقول، بعد أن أخبر سبحانه بما يضمره أهل الكتاب من مشاعر حقد وحسد يأمر المسلمين بالعفو والصفح، ويطلب منهم أن ينتظروا أمر الله ولا ينتقموا لأنفسهم. وامتدح الله المؤمنين الذين يحافظون على طاعة الله، وإذا ما وقعوا في المعصية يرجعون من قريب، وامتدحهم أيضا بأنهم يتسامحون إذا ما هم غضبوا فقال جل اسمه: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}(30). وامتدح الله الصابرين على الأذى، والتاركين للانتقام لأنفسهم بصيغة تحث على الترغيب في العفو والتسامح، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(31). كذلك امتدح الله عباده المؤمنين الذين اجتمعت فيهم خصال الخير، من الإنفاق في سبيل الله، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس جميعهم، فقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}(32). وتتعدد أساليب الدعوة إلى العفو في القرآن الكريم، فتارة تكون بصيغة الأمر، وتارة بصيغة مدح من يعفو، وأخرى بالتذكير بأن الثواب من جنس العمل، فيدعو الله المؤمنين إلى هذا الخُلُق الرشيد وهو العفو؛ حتى يعاملهم الله به، فيقول تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(33). ثم يؤكد المولى سبحانه وتعالى نفس المعنى، من أن جزاء المغفرة غفران، وجزاء الإحسان إحسان، وإن كان سياق هذه الآية في صيغة الشرط، فيقول عز من قائل: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(34). ويستمر القرآن في بيان أن أفضل الأخلاق هو ترك المؤاخذة، والتسامح، فيبين المولى سبحانه وتعالى أن العفو أجره لا يعلمه إلا الله، مما يفيد عظيم الثواب كما في الصيام، فقال سبحانه: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(35). ونختم هذا الاستشهاد القرآني بدعوة القرآن الكريم للعفو حتى في مواطن القتل؛ حيث يدعو اللهُ وليَّ الدم للعفو عن القاتل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (36). فرب العالمين يبيِّن أن هذا الخُلُقَ هو تخفيف من الله سبحانه وتعالى ورحمة منه، وعلى عباد الله الصادقين المؤمنين أن يتخلقوا بأخلاق الجمال من ربهم، ويتعلقوا بأخلاق الجلال من ربهم. وفيما يلي نتعرض لذكر نصوص السنة النبوية المشرفة على من سنها أفضل الصلاة وأتم التسليم. التسامح في السنة يقرر حقيقة مكارم الأخلاق : أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن ربه أرسله سبحانه وتعالى ليحقق به كمال الأخلاق، ويتم به مكارمها، وهذا المعنى لم يكن مستنبطا من الأحاديث بقدر ما كان صريحًا في أقواله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»(37). قال صاحب "فيض القدير": «قال الحكيم: أنبأنا به أن الرسل قد مضت ولم تتم هذه الأخلاق، فبُعث بإتمام ما بقي عليهم. وقال بعضهم: أشار إلى أن الأنبياء - عليهم السلام - قبله بعثوا بمكارم الأخلاق وبقيت بقية صلى الله عليه وسلم بما كان معهم وبتمامها»(38). وقد أخبرنا رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الأمة كلها مبعوثة من ربها، وأن الله ابتعث هذه الأمة للتيسير على عباده، وليس للتعسير عليهم، فعن أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه وهريقوا على بوله سَجْلا من ماء أو ذنوبًا من ماء؛ فإنما بعثتم مُيَسِّرين، ولم تُبعثوا مُعَسِّرين»(39). أما عن مسألة التسامح والعفو خاصة فقد امتلأت كتب السنة بالأحاديث الداعية للتسامح والعفو، فأرشد النبي العظيم صلى الله عليه وسلم أمته إلى التحلي بالتسامح في معاملاتهم كلها، سواء كانت هذه المعاملات مع المسلمين أم مع غير المسلمين. فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله رجلا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى»(40). ويشهد لهذا الحديث أيضًا ما رواه سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدخل الله رجلا الجنة كان سهلا مشتريًا وبائعًا»(41). وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين الإسلامي سَمْحٌ وسهل ويسير، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: قيل لرسول صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: «الحنيفية السمحة»(42). واستنبط الشافعي من الحديث قاعدة: أن المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع(43). وأمر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم المسلم أن يسمح ويتسامح؛ حتى يسمح الله معه، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمح يُسمح لك»(44). كما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن السماحة إذا غابت من المسلمين فإن الموت أفضل لهم من الحياة، وإذا انتشرت السماحة بينهم فإن الحياة أفضل لهم، ونستطيع أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم وضع دستور الإصلاح الداخلي في الدولة المسلمة، قبل أن ينادي به هؤلاء الذين لا يعرفون التسامح ولا السماحة، ويسعون في الأرض فسادًا؛ وإنما ينادون به ذريعةً لإهلاك البلاد والعباد والله لا يحب الفساد. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها»(45). ولم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته للأمة بالتسامح على الإرشاد بالكلام فحسب، بل ضرب النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أروع أمثلة التسامح والحلم؛ ليُعلِّم أصحابه والمؤمنين من بعده والعالم بأسره كيف يتسامح الإنسان مع أخيه الإنسان، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشى مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثَّرَتْ به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مُرْ لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه، فضحك ثم أمر له بعطاء(46). قال الإمام النووي بعد أن ذكر هذا الحديث: «فيه احتمال الجاهلين، والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة, وإعطاء من يتألف قلبه، والعفو عن مرتكب كبيرة لا حد فيها بجهله، وإباحة الضحك، ثم الأمور التي يتعجب منها في العادة، وفيه كمال خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه وصفحه الجميل»(47). وعن عائشة - رضي الله عنها-: هل أتى عليك يا رسول الله يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلَال فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب, فرفعتُ رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني, فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك, وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئتَ فيهم, فناداني ملك الجبال فسلم علي وقال: يا محمد, إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بما شئت, فإن شئت أطبقتُ عليهم الأخشبين, فقلت: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا»(48). كما أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاهتمام بالسماحة والجمال حتى في الصوت والآذان، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد مؤذنيه: «إن الأذان سهل سَمْحٌ، فإن كان أذانك سمحًا سهلا، وإلا فلا تؤذِّن»(49). وطالما حث النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أُمَّته على العفو والتسامح في أكثر من حديث، فعن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصتْ صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله»(50). وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن أفضل أخلاق أهل الدنيا على الإطلاق هو خُلُق العفو، وكأنه ينوع صلى الله عليه وسلم أساليب الحث والترغيب في هذا الخلق الكريم. فعن عبدالله بن أبي الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على خير أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ من عفا عمن ظلمه، وأعطى من حرمه، ووصل من قطعه, ومن أحبَّ أن يُنسأ له في عمره ويزادَ له في ماله فليتقِ اللهَ ربَّه وليصلْ رَحِمَه»(51). بل كان دَيْدَنُه دائمًا صلى الله عليه وسلم العفو، وكان يُرَغِّب صاحب الحق في القصاص في العفو، فعن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: «ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رُفِعَ إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو»(52). وقال صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظًا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنًا وإيمانًا, ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعًا كساه الله حلة الكرامة, ومن زوج لله توجه الله تاج الملك»(53). كما كان صلى الله عليه وسلم يمتدح العافين من أصحابه على الملأ، ويرشد باقي أصحابه بأن يتأسوا به، فعن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج من منزله قال: اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك»(54). والنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن هذا خلق حسن، أن يسامح المسلمُ كلَّ من يتناوله بالغيبة أو السباب أو ما إلى ذلك من انتهاك للعرض قد حرَّمه الله سبحانه وتعالى. وأما عن الرحمة في السنة الشريفة العاطرة، فرسولنا الكريم - صلوات ربي عليه وتسليماته - هو رسول السلام والمحبة والرحمة إلى الكون كله، فهو الذي حث أُمَّته على الرحمة بكل من في الأرض، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»(55). ولقد فاضت رحمته وسماحته البَشَرَ كلَّهم حتى وصلت إلى كل كائن حي؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث - يأكل الثرى من العطش - فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له». قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرا؟ فقال: «في كل ذات كبد رطبة أجر»(56). وامتدح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الرحماء، وبيّن أن رحمتهم هذه نعمة جليلة من الله سبحانه، وأرشد كذلك المحتاجين إلى التوجه إلى الرحماء، فعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اطلبوا المعروف من رحماء أمتي تعيشوا في أكنافهم، ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم؛ فإن اللعنة تنزل عليهم، يا علي، إن الله خلق المعروف وخلق له أهلا فحببه إليهم وحبب إليهم فعاله ووجه إليهم طلابه كما وجه الماء إلى الأرض الجدبة ليُحيِيَ به أهلها، وإن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة»(57). وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم صراحة من القسوة وانعدام الرحمة، وبيّن أن هذا المسلك الذميم يَحْرِم الإنسان من رحمة رب العالمين في الآخرة فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يَرحم الله من لا يَرحم الناس»(58). وهذا يوضح أن الرحمة المأمور بها هي رحمة عامة لكل الناس، وليست قاصرة على من يتفقون معنا في الدين أو في الجنس أو في اللون، بل هي رحمة عامة؛ لأنه رحمة مستقرة في قلب المسلم. وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق أبا القاسم صاحب هذه الحجرة يقول: «لا تُنزَع الرحمة إلا من شقي»(59). كما اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم اعتناء فائقا بتوجيه الرحمة للفئات الضعيفة في المجتمع والأقليات، مع أنه من المفهوم أن مثل ما سبق من التوجيهات والإرشادات النبوية الشريفة تشمل كل فئات المجتمع، وكذلك تشمل كل الناس، بل ثبت أنها تشمل الحيوانات كذلك. إلا أن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم واسعة، فأراد التأكيد على العفو والتسامح والرحمة بهذه الفئات بأحاديث مخصوصة، فعن عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كم أعفو عن الخادم؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله، كم أعفو عن الخادم؟ فقال: «كل يوم سبعين مرة»(60)؛ ولأن الخادم من الفئة الضعيفة في المجتمع فالنبي صلى الله عليه وسلم يبالغ في الرحمة به، وكذلك في العفو عنه إذا ما هو أخطأ. وكذلك اهتم النبي صلى الله عليه وسلم اهتمامًا فائقًا بالرحمة والتسامح والعفو مع الأقليات الدينية - بالتعبير العصري - وحذّر أشدَّ التحذير من ظلم واحد منهم فقال صلى الله عليه وسلم: «من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًّا أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»(61). كل هذه النصوص الكثيرة المذكورة توضح سماحة الإسلام في تراثهم وفكرهم ونظرياتهم، مع ما لا يتعارض معه عقل مسلم في أي بقعة من بقاع الأرض.
الهوامش: --------------------- (1 ) الآيات 30 : 33 من سورة البقرة. ( 2) من الآية 32 من سورة المائدة. (3 ) الآية 205 من سورة البقرة. ( 4) الآية 1 من سورة النساء. ( 5) الآية 70 من سورة الإسراء. ( 6) الآية 22 من سورة الروم. ( 7) من الآية 13 من سورة الحجرات. ( 8) من الآية 13 من سورة الحجرات. ( 9) من الآية 256 من سورة البقرة. ( 10) «تفسير ابن كثير» (1/ 311). ( 11) أي: قليلة النسل. ( 12) كان يفعل ذلك نساء الأنصار في الجاهلية. ( 13) يعنون: لا ندعهم يعتنقون اليهودية. ( 14) الآية 8 من سورة الممتحنة. ( 15) ذكره السرخسي في «شرح السير الكبير» (1/ 96) باب صلة المشرك. ( 16) الآية 107 من سورة الأنبياء. ( 17) «تفسير الطبري» (17/ 106). ( 18) الآية 89 من سورة الزخرف. ( 19) من الآية 88 من سورة الزخرف. ( 20) «تفسير الطبري» (25/ 106). ( 21) من الآية 85 من سورة الحجر. ( 22) «تفسير الطبري» (14/ 51). ( 23) من الآية 33 من سورة الأنفال. ( 24) الآية 199 من سورة الأعراف. ( 25) من الآية 159 من سورة آل عمران. ( 26) الآية 13 من سورة المائدة. (27 ) من الآية 34 من سورة فصلت. ( 28) الآية 14 من سورة الجاثية. ( 29) الآية 109 من سورة البقرة. ( 30) الآية 37 من سورة الشورى. ( 31) الآية 43 من سورة الشورى. ( 32) الآية 134 من سورة آل عمران. ( 33) من الآية 22 من سورة التوبة. ( 34) من الآية 14 من سورة التغابن. ( 35) من الآية 40 من سورة الشورى. ( 36) من الآية 178 من سورة البقرة. ( 37) أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 381) حديث (8939) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 188) وقال: «ورجاله رجال الصحيح». (38 ) «فيض القدير» للحافظ المناوي (2/ 572). ( 39) أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» باب «صب الماء على البول في المسجد» حديث (220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ( 40) أخرجه البخاري في كتاب «البيوع» باب «السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن طلب حقًّا فليطلبه في عفاف» حديث (2076) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. ( 41) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/ 70) حديث (508)، والنسائي في «المجتبى» في كتاب «البيوع» باب «حسن المعاملة والرفق في المطالبة» حديث (4696)، وفي «السنن الكبرى» (4/ 60) حديث (6295)، وابن ماجه في كتاب «التجارات» باب «السماحة في البيع» حديث (2202)، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (2/ 353) وسكت عنه. ( 42) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/ 236) حديث (2107)، والطبراني في «الكبير» (11/ 227) حديث (11572). ( 43) «فيض القدير» للحافظ المناوي (1/ 170). ( 44) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/ 248) حديث (2233)، والطبراني في «الأوسط» (5/ 211) حديث (5112)، وفي «الصغير» (2/ 281) حديث (1169)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 193) وقال: «ورواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجالهما رجال الصحيح». (45 ) أخرجه الترمذي في كتاب «الفتن» باب «ما جاء في النهي عن سب الرياح» حديث (2266). ( 46) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «فرض الخمس» باب «ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه» حديث (3149)، ومسلم في كتاب «الزكاة» باب «إعطاء من سأل بفحش وغلظة» حديث (1057)، واللفظ للبخاري. ( 47) «شرح صحيح مسلم» للنووي (7/ 147). ( 48) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «بدء الخلق» باب «ذكر الملائكة» حديث (3231)، ومسلم في كتاب «الجهاد والسير» باب «ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين» حديث (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها. ( 49) أخرجه الدارقطني في «سننه» (2/ 86). ( 50) أخرجه مسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «استحباب العفو والتواضع» حديث (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (51 ) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/ 237- 238) حديث (35652)، والبيهقي في «الشعب» (6/ 312) حديث (8300)، والطبراني في «الكبير» (19/ 155). ( 52) أخرجه أبو داود في كتاب «الديات» باب «الإمام يأمر بالعفو في الدم» حديث (4497)، والنسائي في كتاب «القسامة» باب «الأمر بالعفو عن القصاص» حديث (4784)، وفي «السنن الكبرى» (4/ 230) حديث (6986)، واللفظ لأبي داود. (53 ) أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «من كظم غيظًا» حديث (4777)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1/ 269) حديث (437) من حديث سويد بن وهب عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه. (54 ) أخرجه عبدالرزاق في «مصنفه» (9/ 77)، وقد أخرج أبو داود نحوه في كتاب «الأدب» باب «ما جاء الرجل يحل الرجل قد اغتابه» حديث (4887) من حديث أنس رضي الله عنه. ( 55) أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في الرحمة» حديث (4941)، والترمذي واللفظ له في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في رحمة الناس» حديث (1924)، والحاكم في «مستدركه» (4/ 175) حديث (7274) وصححه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». ( 56) أخرجه البخاري في كتاب «المظالم والغصب» باب «الآبار على الطرق إذا لم يُتأذَّ بها» حديث (2466)، وفي كتاب «الأدب» باب «رحمة الناس البهائم» حديث (6009) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ( 57) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 357) حديث (7908) وصححه. ( 58) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «التوحيد» باب «قول الله تبارك وتعالى: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ }» حديث (7376)، ومسلم في كتاب «الفضائل» باب «رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال» حديث (2319) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، واللفظ للبخاري. (59 ) أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 461) حديث (9941)، (9946)، (2/ 539) حديث (10964)، وأبو داود في كتاب «الأدب» باب «في الرحمة» حديث (4942)، والترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في رحمة الناس» حديث (1923)، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن». (60 ) أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في حق المملوك» حديث (5164)، والترمذي واللفظ له في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في العفو عن الخادم» حديث (1949)، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 151) وسكت عنه. (61 ) أخرجه أبو داود في كتاب «الخراج والإمارة والفيء» باب «في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات» حديث (3052)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (9/ 205) من حديث صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم.
المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة