ما مكانة خلق (الحياء) فى منظومة القيم الإسلامية ؟ والجواب : جاء الدين وحث على الحياء باعتباره خُلقًا محمودًا على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع حتى شاع الذم بعبارة (قليل الحيا) في الاستعمال اليومي، مع حذف همزة الحياء؛ لأن العرب تقصر كل ممدود ولا تمد بالضرورة كل مقصور، وفي الحديث النبوي الشريف عندما عاتب أحدهم آخاه على كثرة حيائه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «الحياء خير كله»(1). وقال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت»(2). وكان الحياء ينشئ ثقافة سائدة تمنع من الانحراف وتضبط إيقاع العمل على المستوى الشخصي والمستوى الجماعي، وانعدام الحياء يوصلنا إلى فقد المعيار الذي به التقويم والذي به القبول والرد والذي به التحسين والتقبيح، وفقد المعيار هذا يؤدي إلى ما يشبه الفوضى وهي الحالة التي إذا استمرت لا يصل الإنسان إلى غايته، ويضيع الاجتماع البشري وتسقط الحضارات في نهاية المطاف حيث لا ضابط ولا رابط. 1- وعلى ذلك فمن العبارات الشائعة وهي خطأ قولهم: (لا حياء في الدين) ويقصدون أن الإنسان يجب عليه أن يسأل في كل شيء دون خجل يصده عن التعلم فلا يخجل من عدم معرفته ولا يخجل أن يعرف كل شيء في جميع المجالات، فليس هناك حدود للمعرفة والعبارة الصحيحة التي حرفت من أصلها إلى هذه العبارة الجديدة الخاطئة هي: (لا حرج في الدين) وهناك فارق كبير بينهما فصحيح أنه لا حرج في الدين، فإن اليسر يغلب العسر، ومن طبق الدين لا يجد فيه ضيقًا ولا تضييقًا فقد قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا} (3) وفي الحديث الشريف: أنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما(4). والقاعدة الفقهية الأم: «المشقة تجلب التيسير». فالتيسير من أصل الدين، وهو يشتمل على الرفق في المعاملة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه»(5)، ويشتمل التيسير على الرحمة يقول صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»(6)، ويشتمل على رفع الضرر، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»(7)، ويشتمل على الاستمرار في العمل وفي الحديث: كان عمله صلى الله عليه وسلم ديمة(8). والحياء خلق يمنع صاحبه من الفحش في القول والعمل، ولذلك فإنه ضد بعض معاني الشفافية التي يدعو إليها بعضهم في عصرنا هذا، والشفافية قد تعني الصراحة في القول والصدق في العمل وهو خلق محمود بلا شك، وقد تعني التبجح بالفاحشة وإظهار المعاصي والفجور بدعوى الحرية التي تساوي حينئذ التفلت والعبث، ولقد نهينا عن هذا التبجح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه»(9)، فالمجاهر يتبجح بالمعصية، إنه يريد أن تشيع فعلته في الناس حتى يكونوا مثله ويكونوا في الفاحشة سواء قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (10) ولقد ابتلينا بهذا الصنف من الناس الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. والحياء المذكور في القرآن جاء على ثلاثة أنحاء الأول: ما أسند إلى الله تعالى قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِى أَن يَضْرِبَ مَثَلًا} (11). وذلك أن هذا ليس بحال الحياء؛ لأنه مجال تعليم كما سبق والحياء إنما هو خلق يمنع صاحبه من السوء وإظهار المعصية وحب إشاعة الفحشاء، ولا علاقة له بالخجل من السؤال في العلم وطلب التعلم؛ لأن العلم وطلبه من الحق قال تعالى: {لاَ يَسْتَحْيِى مِنَ الحَقِّ} (12) والثاني: حياء منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنه قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ} (13) وهو حياء من كمال خُلقه ورحمته بأتباعه؛ حيث يقـول لهـم: «أنا لكم بمنزلة الوالد»(14). والثالث جـاء منسوبًا إلـى النساء العفيفات اللائي تربين في بيوت النبوة {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} (15) 1- وأثر الدعوة إلى قلة الحياء نراها في التصرفات الدولية، حيث يحتل المحتل الأراضي ويسلب الخيرات ويسرق الوثائق والمستندات التاريخية ويعذب السجناء ويلتقط لهم الصور أثناء التعذيب حتى يبعثها لأهله مفتخرًا بنفسه أنه عذب البشر. وخسة أخلاقه حيث ذهب الحياء، وتكذب الأجهزة والدول جهارًا نهارًا بدعوى أسلحة الدمار الشامل والكامل ثم يتبين أنه لا دمار ولا عمار ويستمر الكذب والبهتان ومخالفة الواقع دون حياء، فصدق الأنبياء إذا لم تستح فاصنع ما شئت. فإننا كنا معتمدين على أن الحياء يمنع صاحبه من إظهار السوء وإن ظهر يمنعه من الاستمرار فيه وإن تكرر يمنعه من البقاء عليه أو الاستهانة بمن حوله بشأنه ولكن قلة الحياء مكنت هؤلاء من ذلك كله. وقلة الحياء نراها أيضا في أولئك الذين حرفوا كلام الله سبحانه وتعالى، ولا يزال التحريف والتخريف مستمرًّا يقول الله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (16) ويقول تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ } (17). فعلاج قلة الحياء العفو والصفح والإحسان والصبر على ما ابتلانا الله به؛ ويقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (18). فقلة الحياء شائعة في المنافقين الذين آمنوا بأفواههم وتأبى قلوبهم، وشائعة في الكافرين الذين تبجحوا بالكفر أيضًا وعلاج هؤلاء أيضا هو الإعراض عنهم، قال تعالى يؤكد ذلك المعنى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (19). 1- ومن قلة الحياء على مستوى المجتمع أن يطلب الرئاسة أسافل الناس، بعد كل ما قدموه من فاحشة وسمعة سيئة، ويصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في علامات فساد الزمان وأهله: «يأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيهم الرويبضة». قيل: يا رسول الله، وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة»(20). فهذا نموذج من يطلب الرئاسة عملاً بالديمقراطية وأمثال هؤلاء الذباب كثير. ويحكى فضيلة المفتى أن أحدهم ناقشه في إحدى الهيئات العلمية فترك المناقشة ، وقال لأحد الجالسين المبعوثين إلى الولايات المتحدة للدراسة على سبيل التفاخر بقلة الحياء وسوء الدين، واستهتارًا لكل قيمة وخلق كريم: «يا فلان، بعد اللقاء سأعطيك عناوين دور الرذيلة في الولايات المتحدة فهي في حقيبتي» ونسي المسكين أن الرذيلة ممنوعة في الولايات المتحدة التي يتشدق بذكرها ، ونسي المسكين أن قلة الحياء لا ينتج منها خير، ولا تزيد صاحبها إلا خساسة ودناءة وانحطاطًا عند الله وعند الناس. ويبدو أن المخرج من قلة الحياء هو التربية المستدامة والإصرار عليها، وإرجاع القيم التي تمنع التفلت وجعل تلك الآية دستورًا للتربية.
الهوامش: ----------------- (1 ) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان» حديث (37) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. (2 ) أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» حديث (6120) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه. ( 3) الآيتان 5، 6 من سورة الشرح. ( 4) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «صفة النبي صلى الله عليه وسلم» حديث (3560)، وفي كتاب «الأدب» باب «قول النبي صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا وكان يحب التخفيف واليسر على الناس» حديث (6126)، وفي كتاب «الحدود» باب «إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله» حديث (6786)، ومسلم في كتاب «الفضائل» باب «مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته» حديث (2327) من حديث عائشة رضي الله عنها. ( 5) أخرجه مسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «فضل الرفق» حديث (2594) من حديث عائشة رضي الله عنها. ( 6) أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في الرحمة» حديث (4941)، والترمذي واللفظ له في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في رحمة الناس» حديث (1924)، والحاكم في «مستدركه» (4/ 175) حديث (7274) وصححه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». ( 7) أخرجه ابن ماجه في كتاب «الأحكام» باب «من بنى في حقه ما يضر بجاره» حديث (2341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والحاكم في «مستدركه» (2/ 66) حديث (2345) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وذكره ابن رجب الحنبلي في «جامع العلوم والحكم» ص302 وذكر أن له طرقًا يقوّي بعضها بعضًا. ( 8) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الصوم» باب «هل يخص شيئًا من الأيام» حديث (1987)، وفي كتاب «الرقاق» باب «القصد والمداومة على العمل» حديث (6466)، ومسلم في كتاب «صلاة المسافرين وقصرها» باب «فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره» حديث (783) من حديث عائشة رضي الله عنها. ( 9) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «ستر المؤمن على نفسه» حديث (6069)، ومسلم في كتاب «الزهد والرقائق» باب «النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه» حديث (2990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ للبخاري. ( 10) الآية 19 من سورة النور. ( 11) من الآية 26 من سورة البقرة. ( 12) من الآية 53 من سورة الأحزاب. ( 13) من الآية 53 من سورة الأحزاب. ( 14) أخرجه أبو داود في كتاب «الطهارة» باب «كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة» حديث (8)، والنسائي في كتاب «الطهارة» باب «النهي عن الاستطابة بالروث» حديث (40)، وابن ماجه في كتاب «الطهارة وسننها» باب «الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة» حديث (313)، والدارمي في كتاب «الطهارة» باب «الاستنجاء بالأحجار» حديث (674)، وابن خزيمة في «صحيحه» (1/ 43) حديث (80)، وابن حبان في «صحيحه» (4/ 279) حديث (1431) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لأبي داود. (15 ) من الآية 25 من سورة القصص. ( 16) الآية 75 من سورة البقرة. ( 17) الآية 13 من سورة المائدة. ( 18) الآيتان 41، 42 من سورة المائدة. ( 19) من الآية 63 من سورة الفرقان. ( 20) أحمد في «مسنده» (2/ 291) حديث (7899)، وابن ماجه في كتاب «الفتن» باب «شدة الزمان» حديث (4036)، والحاكم في «مستدركه» (4/ 512) حديث (8439) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه.
المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة