التراث الإسلامى – من آليات فهمه : الفلسفة اللغوية

الناقل : heba | المصدر : www.dar-alifta.org.eg

ما أهمية الفلسفة اللغوية ودورها فى محاولة فهم التراث الإسلامى ؟
والجواب : 
    تلعب "الفلسفة اللغوية" دورًا مهمًا جدًا في فهم التراث، بعد فهم التصور الكلي الذي سيطر على الأذهان تلقياً وأداءً وفهماً للكون و الإنسان والحياة. فاللغة موروث وليست مخترعاً، أي إن وضع الألفاظ بإزاء المعاني أمر يرثه الإنسان ولا يصطنعه. ومن أجل ذلك كان لابد عليه أن يدرك ذلك الوضع، فيفهم دلالات الألفاظ، وقد اهتم المسلمون القدماء جداً بهذه القضية: قضية دلالات الألفاظ. 
    ودلالات الألفاظ جعلتهم يتكلمون عن قضية "الجذور اللغوية" التي هي موجودة في المعاجم، لبناء النظام الصرفي الذي يُخرِج من هذه الجذور الفعلَ الماضي، والمضارع والأمر، واسم الفاعل واسم المفعول، والمصدر، والصفة المشبًّهة، واسمي المكان والزمان ... وسائر أنواع التصاريف اللغوية التي تستعمل في مواطن شتى. وهذا درسوه بتفصيل كبير جدًا، وكشفوا من خلال هذه الدراسات أشياء كثيرة، نسميها الفلسفة اللغوية.
    والحقيقة أن دراسة هذه الفلسفة اللغوية بمثل هذه الخطوات التي سوف نــتـعرض لها يجعل الإنسان أكثر فهماً سواء للنصوص الشرعية أو للكتابات التراثية. وسوف يزداد الأمر جلاء عند التعرض لنص تراثي وتطبيق ذلك عليه.
    وهنا سوف نتطرق إلى بعض التفصيلات -التي وإن لم يتم إيرادها لذاتها- إلا أنها تسهم في بيان الفجوة القائمة بين الباحث المعاصر -طالب العلم- وبين تراثه، ومدى أهمية إعارة العربة اللغوية أهمية أكبر كي نصل إلى الأهداف بكفاءة وفاعلية.
    فلنبدأ من المكون الأساس للكلمة وهو الحرف. والحرف له نوعان: حروف المباني، وحروف المعاني.

حروف المباني:
    حروف المباني ثمانية وعشرون حرفاً في لغة العرب، وكانت قديماً مصاغة في صورة تسمى "الأبجدية"؛ لأنها كانت تبدأ بكلمة "أبجد":(أبجد هوَّز حُطّى كَلَمُن، سعفص قرشت ثخذُُُ ضظغُ). ثم تم تطويرها فيما بعد، حتى وصلنا إلى نظام يُسّمى النظام الهجائي أو الألفبائي، وهو النظام الذي تعلمنا عليه حديثًا (أ،ب،ت،....،هـ،و،ي)، وسمّي الهجائي لأنها الحروف التي نتهجَّى الكلمة بها.. هذه الحروف تسمى حروف المباني، وهي لا معنى لها، فالألف وحدها لا معنى لها في اللغة العربية!
وبالمناسبة، تشترك اللغات السامية في اثنين وعشرين حرفاً، وتنفرد العربية عن بعض اللغات السامية في ستة حروف. والأبجدية أيضاً كانت تشير إلى هذا فمن (أبجد) حتى (قرشت) هذه هي الاثنين والعشرين حرفاً التي تشترك فيها العربية مع العبرية والآرامية والسُّريانية والحبشية وهكذا. أما (ثخذُ ضظغُ) فتنفرد بها العربية عن اللغات الأخرى. ولذلك يسمّون هذه الحروف الستة بـ"الحروف الروادف"؛ لأنها مُردَفة أي ملحَقة. وهذه الاثنان والعشرون حرفًا المشتركة –تقريبًا- هي الحروف اللاتينية أيضاً، مع إسقاط الحاء وإضافة الثاء.
    فهذه حروف المباني التي يهتم بها الذين يدرسون "الأداء الصوتي" ودارسو "التجويد". وقد صنفها القدماء واستنبطوا لها صفاتٍ ومخارجَ، وحقًّا ومستحقًا: الحق يعني إخراج الحرف من مخرجه الخاص به: من الحلق ومن وسط اللسان، ومن طرف اللسان، ومن مجموعة الأسنان، ومن الشفتين، ومن الخيشوم أو الأنف. والمستحق مراعاة موضع الحرف من الحروف المجاورة له وأثر نطق الحروف على بعضها البعض. ولهذا، فإن من الإعجاز أن القرآن الكريم ورد إلينا بالأداء الصوتي نفسه الذي تركه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي بالطريقة الصوتية المعيَّنة التي تجعل كل حرف له اعتبار. وهناك جدول يحفظه رجال التجويد، وله أداءات مفردة، وأداءات مركّبة، ثم يتراكب ثم نتعلم علم التجويد في أحكام التنوين والنون الساكنة وأحكام الميم والراء واللام، وحروف المد.. وغير ذلك.
    فحروف المباني –وإن لم تكن لها معانٍ في ذاتها- إلا أن الأداء الصوتي الصحيح لها هو من الضرورة بمكان في ثقافة أمية اعتادت على نقل تراثها مشافهة، ونقلت بهذه الطريقة كتاب الله تعالى وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد ارتبط بذلك فنون الفصاحة والخطابة والبيان في التراث الإسلامي، وهي فنون لا تزال لها مكانتها، بل وتعد من المهارات الاجتماعية والسياسية التي تدرس ويعنى بها في الحضارات المختلفة.

حروف المعاني:
    وحروف المباني هذه نبني منها الكلمة، لكنها تختلف عن "الكلمة" نفسها في اللغة العربية، والتي نجدها على ثلاثة أنحاء: الاسم، الفعل، الحرف... الحرف هنا ليس هو حرف المباني، إنما هي هنا حروف المعاني التي يؤدي كل واحد منها معنًى معينًا، وهي في اللغة العربية تسعون حرفاً، على خمسة أقسام: 
منها ما هو حرف واحد مثل: الواو، الباء، الكاف، الفاء، اللام...، ومنها ما هو حرفان مثل: من، في، عن، لن، إنْ ...، ومنها ما هو مكون من ثلاثة حروف مثل: إلى، على، ثمَّ، إنَّ...، ومنها المكون من أربعة مثل: لعلّ، كأنَّ...، ومنها ما هو من خمسة مثل: لكنَّ (وهي تُنطق: لاكنَّ بألف مدٍّ، لا تكتب، وبشدّة على النون). وليس هناك من حروف المعانى ما هو مكوّن من أكثر من خمسة حروف.
    هذه التسعون حرفاً، إما أن لهم عملاً نحويا أو ليس لهم عمل، أي إما أن تؤثر نحويا فيما بعدها أو لا تؤثر، فبعضها يَجرُّ، وبعضها يَنصبِ، وبعضها يَجزم، وبعضها لا عمل له ولا أثر. لكن الأثر شيء والمعنى شيء آخر. فهذه الحروف تَسُتعمل في ستة وخمسين معنى. والمعاني الستة والخمسون منها: الابتداء, والغاية، والانتهاء، والتبعيض، والظرفية، والاستعلام، والاستفهام، والقَسَم، والتحضيض، والتمني، والترجّي، والتأكيد،... وهكذا.
    وعندما نرسم جدولاً فيه الـتسعون حرفاً بصورة رأسية تقابلها الـست والخمسون وظيفة بصورة أفقية، نجد أن الحرف الواحد قد يدل على معنى أو اثنين أو حتى قد يدل على نحو خمسة عشر معنى!  فمثلا "الباء" تدل على أشياء كثيرة منها: المصاحبة، الملابسة، الابتداء، الظرفية، السببية،... ففي قوله سبحانه - ]وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ[- الآية 123, سورة آل عمران: تدل هناك على المكان أي الظرفية؛ أي "في بدر". أو في قوله تعالى : ]فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ[- الآية 160, سورة النساء. فهي هنا بمعنى: "بسبب ظلمٍ من الذين هادوا"، فنقول: دلالتها على السببية.

  مِن إلى كم هل مع الباء الواو إنْ إنَّ أو ....
السببية *         *          
العطفية   *     *   *     *  
الشرطية     *         *      
التوكيد                 *    
الاستفهام     * *              
............                      

    هذا الجدول البسيط يساعد بقوة للدخول إلى عمق اللغة، ويجعل الإنسان من أقرب طريق يفهم العربية بعمق شديد.
    فهمُ فلسفة حروف المعاني هذه ينقل الإنسان إلى أعماق أخرى، وترتقي بتعامله مع التراث الذي كُتب بالعربية –وعلى يد فقهاء لغة مدركين لفلسفتها- إلى آفاق عالية، حتى يجد الإنسان وكأنه قد انفتح على نور بعد الظلام.. لأن الانبهار الشديد بالقرآن –الذي يجب أن يتمتع به المؤمن- يأتي من إدراكه وفقهه لمجموعة من القواعد الأساسية، أولها إدراك فلسفة اللغة وفلسفة الحروف. وقد أدرك ابن هشام هذه المسألة، وأن اللغة العربية يمكن أن يكون لها مدخل من حروف المعاني، فألف كتابًا ماتعًا أسماه "منع اللبيب عن كتب الأعاريب": أي دعك من كتب النحو والإعراب هذه وتعالَ نفهم العربية جيداً بطريق أخرى. وهو كتاب يجعل المدخل لفهم العربية قضية حروف المعاني.

ثم هناك قضية الفارق بين الأثر وبين المعنى في الحرف:
    الأثر هو ما يصنعه الحرف بما بعده من حالات الإعراب "الجزم ، النصب، الجر...". فهناك عشرون حرفّا من التسعين تجّر ما بعدها وتسمى حروف الجرّ:
هاك حروف الجر وهي: من، إلى،         حتى، خلا، حاشا، عدا، في، عن، على
من، منذ، ربَّ، اللام، الكاف، واوٌ ،       والباء، والكاف، ولعل، ومتى

    وهناك حروف أخرى تنصب وتسمى حروفاً ناصبة، كأن تنصب المبتدأ وترفع الخبر على خلاف (كان) وأخواتها، وهي:
لإنَّ، أنَّ، ليت، لكنَّ، لعلْ         كأنّ ، عكس ما لـ"كان" من عملْ
      أما كان وأخواتها فترفع المبتدأ وتنصب الخبر:
ترفع كان مبتدًا اسمًا، والخبر         تنصبه، كــــ" كان سيدًا عمر"

    هذه الحروف أيضاً مقسمة إلى أقسام: منها ما يدخل على الفعل ومنها ما يدخل على الاسم ومنها ما يدخل على كل منهما، ومنها ما له أثر ومنها ما ليس له أثر، ومنها ما له معنى واحد ومنها ما له أكثر من معنى أو وظيفة.فـ"هل": لا أثر لها، ومعناها أو وظيفتها الاستفهام، وتدخل على الفعل والاسم، و"في": من حروف الجر باعتبار الأثر، ومن حروف الظرفية باعتبار المعنى، ولا تدخل إلا على الاسم، و"لم": من حروف الجزم باعتبار الأثر، وهي تنفي باعتبار المعنى، وتدخل على الفعل فقط.
    ولكل حرف استعمالاته الممكنة ولا يمكن استعماله في غيرها، فلا يصح أن نأتي بحرف مثل (الكاف) للاستفهام؛ لأن الكاف لا تستعمل للاستفهام، ولا يمكن أن نستعمل الحرف (في) للسببية؟
في هذا الجدول اللطيف الذي نــتخيله نجد أمراً آخر: إن الحرف قد يستعمل في معانٍ قد تبلغ الـخمسة عشر معنى كما قلنا، فكيف ذلك؟ قالوا: إن معنىً معينًا منها هو على سبيل الحقيقة، والمعاني الأخرى على سبيل المجاز. فالحرف يستعمل في معنى معين بشكل مكثف أو أكثر تداولاً، ثم بصورة أقل قد يستعمل في معانٍ أخرى. فالباء –مثلاً- هي في الأصل للسببية، أما عبارة (ببدر) التي جاءت فيها للظرفية فهي قليلة؛ ولذلك ليس هناك سوى هذا المثال.
    فهل يمكن أن يستعمل اللفظ أو الحرف في معنيين مختلفْين حقيقةً؟ نعم، وهذا ما يُسمى بالمشترك، حيث يكون معنياه على الحقيقة وليس فيه مجاز. وسوف نتعرض له لاحقًا.

التعـلق:
    هذه الحروف حروف معانٍ؛ بمعنى أنها مرتبطة في التكوين للجملة العربية بفعل. وهذا ينقلنا إلى شيء آخر. فنحن حتى الآن نتكلم في المفرد؛ أي في الألفاظ، في الحروف، مبانٍ ومعانٍ، كألفاظ وحروف مفردة، لكن عندما تتحول إلى التركيب في جملة فإنها تتحول إلى قصة أخرى، لابد من الوقوف عليها من أجل الفهم الأعمق الذي نحن بسبيله. هذه الحروف -في التركيب- لابد أن تتعلق بفعل أو ما يقوم مقام الفعل.. سوف نرى -لاحقًا أيضًا- لماذا الفعل أو ما يقوم مقام الفعل؟ و ما هو الذي يقوم مقام الفعل في الواقع المعيش؟ إنه منطق أتوا به من التجربة الخارجية، حتى أصبحت اللغة كأنها كائن حيّ في نموها وفي تفاعلها.
    كل حرف له فعل مختص به، هذه أول حقيقة. فالأفعال نوعان: فعل يتعدَّى إلى المفعول ويرتبط به مباشرة، وفعل يرتبط بالمفعول عن طريق حرف، وهذا النوع الثاني -الذي يسمى الفعل اللازم- فيه لكل فعل حرف، أو قل لابد لكل حرف من فعل.
    ومن ثراء اللغة وعمقها ما يسمى بالتضمين والإضمار: أي إنهم قد يستعملون أحياناً حرفاً آخر مع الفعل وليس الحرف الخاص به، وهم يعنون بذلك أن هذا الفعل قد امتلأ بفعل آخر وأصبح أمامي فعلان: فعل أنطق به وفعل آخر أضمنه مع معنى الفعل الأول. من أين أتى إدراكي لهذا الفعل الآخر الكامن؟ جاء من الحرف.
    يقول ربنا تعالى : {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}- الآية 14, سورة البقرة. وبالبحث في اللغة نجد أن "خلا" ترتبط بحرف (الباء) وليس (إلى)، وفي الحديث (لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأة)
(1) وهو في كلام العرب وشِعرهم قد استقر على ذلك. فكأن أصل القول هو: "وإذا خلوا بشياطينهم"،. فماذا عن (خلوا إلى)؟
    الحقيقة أن الفعل قد تشبَّع بفعل آخر يأتي معه الحرف (إلى) وهو (الاطمئنان)؛ لأن مما يصلح في هذا السياق (اطمأن إلى). وبالتالي فالعبارة تكون عند فكّها: "وإذا خلوا باطمئنانٍ إلى شياطينهم قالوا إنا معكم". من أين جئت بالاطمئنان؟ من الحرف. ومن ثم أصبح هناك فهم أعمق للخلو. ولو لم أكن أعرف إزاءها قاعدة التضمين (تضمين فعل آخر يعبر عنه حرف) لم أكن لأصل إلى هذا المعنى العميق الذي يصور حالة نفسية من العناد، حالة من النية المبيّتة، من استقرار النفاق في قلوبهم باعتباره أمراً مطمأنًا إليه لا رجعة فيه. هذا يعطيني أحكامًا وتصورات أخرى غير تلك المفهومة من مجرد أن أحدهم خلا بآخر. وكل ذلك في كلمة واحدة، بل في حرف واحد هو (إلى).
    ومن التعلق في التركيب أيضاً نجد (بسم الله الرحمن الرحيم)؛ حيث نجد حرف (الباء)، ونعتقد تلقائيًا أن هذا الحرف سيكون متعلقاً بفعل، فأين الفعل هنا؟ غير موجود! إذن لابد أن أقدَّره أي أتخيله. ويأتي هنا نوع من أنواع الوعي والفهم العميق للمناسبة التي لابد فيها أن أقدّر شيئاً غير موجود أمامي، وهذا ما يسمونه (الإضمار). وما الذي يكشف لي ذلك ويدفعني إليه؟ إنها القاعدة التي ذكرناها: إنه لابد لكل حرف في اللغة العربية أن يتعلق بفعل. فأين الفعل؟ ما المناسب؟
    يمكن أن يكون التقدير عامًّا غير محدد المجال: نبدأ أو أبدأ بسم الله الرحمن الرحيم، ويمكن أن يكون تقديرًا خاصًّا محدد المجال: أقرأ أو تقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وقد يكون التقدير بالفعل "أبدأ، أقرأ..."، أو بما يقوم مقام الفعل كالمصدر مثلاً: ابتدائي أو قراءتي باسم الله . وقد يكون المقدَّر مقدماً: "ابدأ باسم الله "، أو يكون مؤخراً: "باسم الله أبدأ". ثمانية احتمالات. وهذه الاحتمالات الثمانية أتخير منها الأرجح والأنسب.
    إذن الحروف لها قصة كبيرة أخرى. إننا ينبغي ألا نقف فقط عند أثر الحرف، و لا حتى عند وظيفته، بل ينبغي أيضاً أن نبحث في سائر قضايا اللفظ: قضايا الاشتقاق، وقضايا الاشتراك، وقضايا الحقيقة والمجاز، بل نبحث أيضاً في الجملة: التركيب والسياق والسباق واللحاق وغيرها. وما هذا الاستعراض إلا محاولة لاستفزاز العقل المعاصر لارتياد هذه الرحلة الضرورية.

أول أحوال اللفظ "الاشتقاق":
    عندما جمعنا الكلام العربي وجدناه غالباً ما يتكون من ثلاثة حروف. بالطبع وجدنا بعضاً من الكلمات التي تتكون من حرفين ومن حرف مثل الحروف (و، أو)، لكن الكلمة في الأغلب أصلها ثلاثة حروف. ووجدنا عندنا ثمانية وعشرون حرفاً نريد أن نكوّن منها كلمات من ثلاثيات؛ (أي كل كلمة ثلاثة حروف)، فإنه بالتباديل والتوافيق يظهر لدينا نحو خمسمائة مليون احتمال لكلمات, هذا في إمكانية أن أكّون ثلاثيات. لكن ما ورد إلينا من لسان العرب لا يزيد عن ثمانين ألف جذر لغوي، والباقي مهمل.. فالذي استعمله العرب من المتاح أقل بكثير جداً من الذي أهملوه، كأن المستعمل نحو اثنين في الألف (0.2%) من المتاح.
    هذه الثمانون ألف جذر تكون ما يقرب من مليوني كلمة إلا قليلاً. فالجذر هو الثلاثي (أَكَلَ) والكلمة هي الجذر ومشتقاته: (آكل، آكل، مأكول، أكلة، مأكلة...الخ).
    وعندما نقارن العربية باللغة الإنجليزية -باكسفورد مثلاً- نجد أن الكلمات التي تقابل ما عندنا نحو (860) ألف كلمة غير الذي دخل في الإنجليزية من الجرمانية والعربية واللاتينية وغيرها، هذا في اكسفورد الكبير (الذي يبلغ نحو خمسة وعشرين مجلداً). الكلمات في وبستر لا تزيد عن مائة ألف كلمة ( كلمة لا جذر)،و الكلمات في (مايكل ويست) نحو أربعة وعشرين ألفًا. أما في اللغة العربية فلدينا: ثمانون ألف جذر في لسان العرب لابن منظور، وهو أكبر موسوعة موجودة في هذا الباب. منها ثلاثون ألف جذر، في المعجم الوسيط الذي أصدره مجمع اللغة العربية في مصر. وأربعون ألفاً في القاموس المحيط للفيروزآبادي.
    كم جذر من هذه الجذور يشتمل عليها القرآن الكريم؟ يحوي القرآن (1840) جذرًا؛ أي أقل من2.5 ٪ من الجذور المستعملة في اللغة. وهذا ينبئ أن الأمر سهل شيئاً ما، لأنني لو أتيت بهذه الجذور الــ(1840) وتعاملت معها بهذا العمق، فسوف أتمكن من فهم القرآن بعمق أكثر، وأتمكن –مع بعض قواعد المستويات المختلفة للفهم- أي أن أفهم فهماً آخر.
    ومن ناحية أخرى، فإنه بعد الجذر تأتي الفروع، والفروع تسمى المشتقات، والتفريع يسمى الاشتقاق، وهذا الاشتقاق يتم على قواعد وأوزان فيما يسمى بالصرف أو التصريف. وهذه الأوزان لها معانٍ ودلالات عامة في كل الكلام. فالوزن يمكن أن يستعمل لقضية أو معانٍ معينة مثل: ما كان على وزن "فعْلَلَة" له علاقة بالصوت: صلصلة، سَلْسلة، بلَبلة، جلجلة...الخ، وما كان على وزن "تفاعَلَ" يعبر عن علاقة بين طرفين، مثل: تبايع، تشاجَر، تقاتَلَ...الخ.

اللفظ بين الاشتراك والارتباط والافتراق
    الاشتراك في اللغة العربية هو أن اللفظ الواحد يحتمل أكثر من معنى، والارتباط أن المعنى الواحد تعبر عنه الألفاظ المتعددة، والافتراق يعني أن هناك فرقًا بين معنيين للفظين رغم التشابه.
    فعلى سبيل المثال، هناك فرق بين الفقير والمسكين رغم التشابه الظاهر، ورغم استخدامنا اللفظين كمترادفين في كثير من الأحوال. فليس من المعقول أن يقول الله تعالى ]إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ.. [- الآية 60, سورة التوبة، ويكون الفقير هو المسكين، والمسكين هو الفقير، لابد أن يكون هناك فرق. فكأن الفقير هو المعدِم، كالذي يملك دَخْلَ فردين وهو يعول عشرة أفراد، فالفجوة كبيرة، والمسكين أحسن حالاً كالذي معه دخل سبعة أفراد ويحتاج لكفاية عشرة.
    هنا شيء لطيف، يقولون: إذا اللفظان في الذكر قد اجتمعا، فإنهما قد افترقا في المعنى. وإذا في الذكر افترقا، ففي المعنى قد اجتمعا.
    الكذب والبهتان والافتراء، ما الفرق؟ إذا افترقت هذه الألفاظ اشتركت في التعبير عن معنى الكذب، وإن كانت بدرجات وصور مختلفة. فالكذب حكاية عن الواقع بما هو غير الواقع؛ أي بالتغيير فيه. أما الافتراء فحكاية عن أمر لم يحدث من الأصل؛ أي يقوم المفتري بتأليف القصة. أما البهتان ففيه إيقاع الإيذاء على المكذوب عليه. فإذا ذكرت هذه الألفاظ متلازمة، تبين الفرق واضحًا، وإذا ذكرت كل واحدة على حدة فتعطي معنى الكذب .. وهكذا.
    وهذه الجزئية يمكن أن نضعها في الخصائص اللغوية، فهناك الاشتراك، والارتباط، والفروق.. وقد ألف القدماء في هذا الباب كتبًا تحت عنوان "الفروق"، وهو مبحث يحتاج إلى دراسة متعمقة للمضي في رحلة التعرف على العقل التراثي المسلم.

اللفظ بين الحقيقة والمجاز:
    أيضًا من خصائص اللفظ العربي الحقيقة والمجاز. عندما أقول: رأيت أسدًا للحيوان المفترس، فهذا حقيقة، وإذا قلت: رأيت أسدًا لأعني شخصًا شجاعًا فهذا يعتبر مجازًا. إذًا الاستعمال يؤثر في اللفظ. وهذا باب واسع تـتبين بعض معالمه في مواضع تالية.
    هذا عن خصائص اللفظ في اللغة العربية بشكل رمزي، لكنها في الواقع قصة كبيرة تحتاج إلى اجتهاد من الباحث المعني بمطالعة التراث.

التركيب: الجملة العربية
    لابد أن ندرس التراكيب اللغوية. فالجملة العربية مكونَّة من ركنين ظاهرين وركن ثالث خفي:
1- الركن الأول- "المسند إليه"، ويطلق عليه في علم المنطق "الموضوع"، ويطلق عليه في علم النحو "المبتدأ" في الجملة الاسمية، و"الفاعل" في الجملة الفعلية. وفي علم البلاغة يطلق عليه "المسند إليه"؛ أي اللفظ الذي نسند إليه سائر الكلام.
2- الركن الثاني- "المسند"، ويطلق عليه في علم المنطق "المحمول"، ويطلق عليه في علم النحو "الخبر" في الجملة الاسمية، و"الفعل" في الجملة الفعلية. وفي علم البلاغة يطلق عليه "المسند"؛ أي اللفظ الذي يتم إسناده إلى الموضوع ليكتمل المعنى؛ إنه يُخبِر عن "الموضوع".
3- الركن الثالث- "الإسناد" وهو عبارة عن الرابطة بين المسند والمسند إليه. وفي بعض الأحيان يطلق عليه "النسبة" أو "العلاقة" أو "الحكم" أو "الحمل" أو "الخبر" أو "الوصف"...ألفاظ كثيرة ومختلفة، لكن المعنى واحد.

مثال: المؤمنون مفلحون، وقد أفلح المؤمنون. فقضية الفلاح أسندت إلى (المؤمنين). المؤمنون مسند إليه، أو موضوع أتحدث عنه، والمسند (مفلحون، وقد أفلح). وفي النهاية عندي ثلاثة عناصر: اثنان ظاهران وهما المسند والمسند إليه، وثالث معنوي وهو عملية الإسناد نفسها.

النحو:
    العرب لهم الفضل في نطق هذه الجملة بطريقة صحيحة منضبطة على وجوه الإعراب؛ أي علم النحو. والنحو أو الإعراب هو الضابط الذي يمنح الجملة معناها، وهو قادم من المعنى أيضًا، كما قالوا: "الإعراب وليد المعنى". فالمعنى يتخلق في الذهن كتصور، ثم يريد المرء أن يخرجه في كلام، فتبدأ عملية "التعبير" التي لابد أن تتكون على أرضية اللغة. فتبدأ بإدراك حروف البناء (حروف المباني) ومنها تكوِّن اللفظ بالصرف (تطوير المشتقات من الجذر اللغوي الثلاثي غالبًا)، ثم تتحرى حال اللفظ في علاقته بسائر الألفاظ (الاشتراك والارتباط والافتراق و...) وتتحرى عادة الاستعمال (الحقيقة والمجاز، التقديم والتأخير...) ووظائف الألفاظ (المعاني والدلالات)، ثم تركيب الجملة بضم المسند إلى المسند إليه. وهذا التركيب أو الضم الأخير ليس مجرد رص كلمات إلى جوار بعضها البعض، فقد لا تؤدي المعنى المطلوب.
    ففي المثال السابق لا يصح أن نقول: مفلحون المؤمنون، ولا أن نقول: قد المؤمنون أفلح. فهذه تراكيب غير صحيحة، والسبب عدم تحري قواعد النحو التي "تُعرب" عن المعنى وتخرجه واضحًا عند تجميع الألفاظ، على نحو منضبط.
    وهناك قواعد للإعراب وأدوات وآليات يسهل التدرب عليها، وهي تستوعب كافة أحوال الجملة العربية، وأحوال الألفاظ (الحرف والفعل والاسم) فيها: كالفعل متى يكون مرفوعًا؟ ومتى يكون منصوبًا أو مجزومًا؟ فهناك أدوات ناصبة، وأدوات جازمة، وهي أدوات تمنح الفعل شكلاً من النصب والجزم كما تمنحه معنًى من النفي أو الأمر أو النهي أو التعليل...الخ.
    كذلك الاسم يقع بين الرفع والنصب والجر حسب حالته في الجملة وما يتقدمه من أدوات وكلمات. فهو مرفوع على أنه مبتدأ، أو اسم لـ"كان وأخواتها" التي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، أو خبر لــ"إنَّ وأخواتها" التي تنصب المبتدأ وترفع الخبر. وما إلى ذلك. كل هذا عبارة عن علم النحو.
البلاغة:
    لكن هناك علمًا آخر يتعلق بـ"طريقة أداء هذه الجملة العربية"، بما يكمل الصورة للفلسفة اللغوية العربية، وهو علم البلاغة. فطريقة أداء الجملة تقوم على قاعدة: موافقة الكلام لمقتضى الحال؛ وهذه هي البلاغة. ما هو الحال؟ إنه حال السامع. السامع قد يكون خالي الذهن من القضية التي أحدثه فيها، وقد يكون مترددًا تجاهها، قد يكون منكِرًا لها.
    فإذا كان السامع خالي الذهن، فالعبارة تأتي بسيطة (الشجرة مورقة)، هذا هو الحال حين أتحدث مع شخص يريد التعلم، وهو يسمعني للمرة الأولى، لا يوجد بيني وبينه شيء يمنع تصديقه لكلامي. لكن الشخص المتشكك الذي لا يزال يتساءل: هل الشجرة مورقة أم لا؟ أقول له: (إن الشجرة مورقة). ففي الجملة الأولى لم يكن هناك أي تأكيد، على خلاف الجملة الثانية التي فيها أداة توكيد (إنَّ). أما في الجملة الثالثة ففيها تتم زيادة التأكيد؛ لأن السامع منكِر رافض للقضية، فأقول مثلاً: (إنَّ الشجرة لمورقة، أو والله إن الشجرة لمورقة)، هكذا بأداتي توكيد أو ثلاث.
    وفي بعض الأوقات يكون الشخص خالي الذهن ولكن –لسوء إدراكي لحاله أو لما ينبغي أن أعامل به الحالات المختلفة- قد أحيله متردّدًا أو منكرًا، ولذلك أُحدّثه على أنه متردد أو منكِر. كما أن مقتضى الحال والتعبير يكشف نفسية المتكلم ونظرته للمتلقي. وهذه لا شك أمور على درجة عالية من الأهمية لكل من الباحث الذي ينحصر عمله بين القراءة (التلقي) والفهم (الاستيعاب) والكتابة (التعبير والأداء)، كما هي مهمة للداعية، وكل مسلم داعية لدينه.
    هذه اللغة العربية هي التي تعبر عن العقل المسلم، وهي تحمل في طياتها أصول هذا العقل التراثي ومنتجاته وأساليبه في التعامل مع الواقع أو الوجود. ومن ثم فهي وعاء الفكر الإسلامي ووعاء العلم الإسلامي؛ وبالتالي، ينبغي أن تكون أصلاً في محاولة إعادة ابتناء المنظور الإسلامي في العلوم الحديثة الاجتماعية والإنسانية.


الهوامش:
----------------------
(1)
جزء من حديث: (لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم) 3110 كتاب الحج, باب 74, مسلم.

 


المصدر : الطريق إلى فهم التراث ، لفضيلة مفتى الديار المصرية ، الدكتور على جمعة