ما هو النموذج المعرفى الإسلامى ؟ وما الفرق بينه وبين النموذج المعرفى الغربى ؟ وكيف يساعدنا معرفة النموذج المعرفى الإسلامى على فهم أفضل للتراث الإسلامى ؟ النموذج المعرفى هو ما يُعبر عنه بالعقيدة، وهو يشتمل على الإجابات عما نعرفه بالأسئلة الكبرى أو الأسئلة الكلية حول الإله، وحول الوجود والإنسان والكون والحياة: من أين أنا؟ ماذا أفعل الآن؟ ماذا سيكون غدًا؟ في النموذج المعرفي الإسلامي تمثل هذه الأسئلة الكلية أسئلة "أولية" ابتدائية، لا يمكن الانطلاق إلا من (أو بعد) الإجابة عنها، على حين أنها في النموذج المعرفي الغربي - إن رأوا أنها مهمة- فهي أسئلة "نهائية" لا يكون الانطلاق منها، إنما ينبغي أن يسعى الإنسان -بالعلم وبالبحث العلمي- للإجابة عنها في النهاية. فالمسلم يقول إنه يعلم –بدايةً- ما هو، ومن أين أتى، ولماذا هو هنا، أو ما غاية وجوده ..إلخ، بينما يجادل الغربي بأن ذلك ليس مهمًا في البداية. ولاشك أن لهذه التمايزات آثارها وامتداداتها على مستوى الفكر والسلوك، فالإيمان عندنا مسألة جوهرية مهمة تتحول تلقائيًا إلى "افعل، ولا تفعل"؛ أي تكليفات، بينما تبقى في الغرب الذي يحاول صبغ العالمين بصبغته، مسألة شخصية كامنة لا شأن لها بالحياة العامة. في نموذجي الإسلامي هناك "الفطرة"، بينما يتحدث الغربي عن "الاكتساب" التام. لديَّ ما هو مقدَّس، ولـلقداسة عندي مساحة ومكانة عالية (فالقرآن والنبي، والكعبة... كل ذلك مقدَّس معظَّم عندي)، بينما يرى هو ذلك شكلًا من أشكال الوثنية. يرى الغربي -ومن على صبغته اليوم- كل شيء من باب التشييئ أو التشيؤ، حتى "الإنسان"(!) يرى النموذج الغربي أنه يمكن أن تطبق عليه الأساليب الإمبريقية التجريبية والكمّية بلا تحفُّظ، بينما أراه في نموذجي الإسلامي كائنًا فريدًا مخلوقًا مكرَّمًا {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}- الآية 70, سورة الإسراء. وعلى الرغم من اعترافهم أخيرًا بعدم جدوى أو كفاية هذه الأساليب إلا أنهم لا يطرحون غيرها انطلاقًا من هيمنة فلسفة مادية بحتة عليهم. ينعكس هذا على الرؤية للذات وللآخر، فنحن ليست لدينا مشكلة مع الآخر بصفة ضرورية. عند سارتر "العذاب هو الآخر"، إن مجرد وجود الآخر يمثل عنده عبئًا وهمًّا وألـمًا، بينما الآخر -في المنظور الإسلامي- هو محل الدعوة وليس مصدر العذاب. فالناس -عند المسلم- أمة دعوة وأمة إجابة. نحن أمة الإجابة الذين استجابوا لله وللرسول صلى الله عليه وسلم ، والآخَر هو محل الدعوة؛ إذ رسالتي لا تختص بقوم دون قوم، فخطابنا يقول: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}- الآية 158, سورة الأعراف {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}- الآية 107, سورة الأنبياء. والعالــَــمـون هم كل ما سوى الله تعالى . في النموذج المعرفي الإسلامي أساس السلوك والاعتقاد هو التكليف والأوامر الإلهية (الحلال والحرام)، بينما يقوم النموذج الغربي على أساس المصلحة وفق ما يعِنُّ للإنسان, إلى الدرجة التي قد ينفق العالم الغربي فيها على كلب أو قطةٍ ما لا يرون أن يُنفق على آلاف الأفريقيين أو الآسيويين المنكوبين. ومما ينبغي ملاحظته أن هذا النموذج المعرفي الغربي -كما نستعرضه الآن- ليس محل إدراك من قبل رجل الشارع الغربي العادي، إنما يمكن استخلاصه من سلوكياتهم وممارساتهم الموحية كالأفلام مثلاً، ويمكن أن يُصرّح به بعض مفكريهم في كتب الفلسفة والفكر وفي المؤتمرات المختلفة. الشيء الذي ينقص المنظور الإسلامي اليوم هو الصياغة المرنة القابلة للإضافة.. وفي هذا الصدد -ونحن نعرض ونصوغ نموذجنا المعرفي- هناك فارق بين التصور من ناحية، وبين الإيمان من الناحية الأخرى؛ أي بين إدراك العقل للقضية وبين إلزام العقل بهذه القضية. فإدراك العقل هو أن يعرف ويفهم ويتصور الشيء، أما إلزام العقل فيعني ضرورة أن يصدِّق العقل هذا الشيء(1). فالذي نحتاج إليه هو إعادة الصياغة التي تتفاهم مع منتجات المخاطب ونموذجه، وتُفهمه وإن لم تُلزمه. وعملية إعادة الصياغة إنما هي عملية كشف عن النموذج المعرفي الإسلامي، وليست عملية إنشاء له، وفائدتها لا تتأتى أو تتضح إلا عند مقارنة هذا النموذج مع النموذج الآخر. وقبل مشكلة "كيفية إعادة الصياغة" يتساءل البعض: لماذا نعيد صياغة المنظور الإسلامي من الأصل؟ والجواب أن ذلك من أجل الدعوة.. من أجل فهم أعمق متبادل.. من أجل مقارنة عادلة بين التراثين الذاتي والمقابل.. من أجل حوار بنّاء مع الآخر! فالنموذج المعرفي الغربي أمات الإله مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين (هيجل ثم نيتشه)، وفي العام 1970 أعلن "فوكو" موت الإنسان، لنصل في النهاية إلى أنه لم يعد باقيًا إلا "الشيء". هذا النموذج المعرفي الغربي انتهى إلى إنتاج مفاهيم من قبيل: العولمة، الجندر، الصحة الإنجابية، حقوق المرأة، الإباحية الجنسية،... إلى آخر هذه الأشياء الضبابية، التي يقصد بها عدم تمكين الآخر من الاعتراض، وإيقاعه في تناقض، لا يمكنه أن يرفض مطلقًا، ولا يمكنه أن يقبل مطلقًا... فمن يعترض على الصحة والتوعية بها؟ وبالتالي فعندما أصوغ النموذج المعرفي الخاص بي، وأتفهم أبعاد النموذج المعرفي للآخر، يمكنني ساعتها البدء في الحوار والأخذ والرد، وألا أقع في هذا التناقض، وأقبل وأرفض على أسس ومعايير. ففوكوياما –مثلاً- يعلن "نهاية التاريخ"؛ أي إننا قد وصلنا إلى الحقيقة النهائية، وأن المنهج استقر، وقد ضربت الحضارة الغالبة ضربتها الأخيرة الموجعة القاضية.. العدو الجديد الذي عارَضَ هذه النهاية –كما يتصورون- هم "المسلمون" دعاة الإبقاء على نموذج حضاري مختلف، فكان لابد من ردٍّ على هذا التحدي، فجاء هانتنجتون ودعوة "صدام الحضارات"، ثم جاءت "السيارة لكزس وشجرة الزيتون"، فهذه السيارة يابانية إلا إن فكرة السيارة ومنهج تشغيلها غربي بكل المعاني، بدأ في غرب أوروبا وحضارته التصنيعية، ثم انتقلت مركزيتها إلى أمريكا خلال المائة والخمسين عاما الأخيرة .. وشجرة الزيتون هي الشرق المسترخي في الظلال، فإما الأخذ بثقافة السيارة لكزس، وإما أن تغادر إلى الظلال اليوم. يتساءل الأمريكان (ستون كاتبًا أمريكيًا) من أجل ماذا نحارب؟.. ليجيبوا على أنفسهم: من أجل الدفاع عن القيم الغربية التي يكرهها المسلمون! إن الوعي بالنموذج المعرفي للذات والنموذج المعرفي للآخر يعلمني السباحة في ظل تيار جارف من العولمة والعلمانية يحيط بنا من كل جانب، في صور تقنيات حديثة ومفاهيم وأفكار غربية. ومن ناحية أخرى، فإن هذا النموذج المعرفي الإسلامي يتطلب أن نفعِّله ونطبِّقه أولاً في أمة الإجابة قبل أن نطرحه على أمة الدعوة؛ فالنموذج الغربي أوجد مجتمعات هي بالفعل أكثر فاعلية من المجتمعات الإسلامية الحاضرة. لعل هذا هو عين ما يُطرح اليوم باسم "تجديد الفكر الديني وتجديد الخطاب الديني". وهذا يثير سؤالاً بصدد صياغة النموذج المعرفي والحضاري الإسلامي في إطار المناظرة مع الآخر أو مع نموذجه. فالملاحظ من الطريقة القرآنية أن الخطاب يأتي من الله تعالى لا من أمة إلى أخرى، ومن ثم ينبغي أن توضح الصياغة التجديدية أنها ليست كالدعوة الإلحاقية السائدة اليوم، حين ينهض طرف لدعوة الآخر إلى نفسه. فنحن لا ندعو أمة الدعوة لأنفسنا أو لأن تكون معنا "نحن" كعرب مثلاً أو كشرقيين ولا نخيرها إما معنا أو ضدنا على نحو ما هو جارٍ من الغرب، ولكن ندعوها وندعو أنفسنا لأن نكون معًا تحت راية الحق المطلق... فالقضية ينبغي ألا تصوَّر في شكل علاقة بين حزبين وحسب، فهي قضية إلهٍ مفارق عن الأكوان، يدعو الناس والخلق جميعًا إليه.. فلا ينبغي أن ننشغل بالشكل عن المضمون عند صياغة النموذج المعرفي الإسلامي. هذا من ناحية, لكن لابد أيضًا ألا ننشغل بالمضمون عن الشكل، وإلا فإننا سنتحول إلى متاهات فكرية غير واقعية وغير مجدية. فلابد مع هذا المضمون أن نؤكد بالتوازي على ذاتنا: إننا مسلمون وهم غير مسلمين: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ –إلى قوله تعالى - لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}- الآية 1 إلى 6, سورة الكافرون، إنها المفاصلة والتمييز، فهناك فريقان: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ}- الآية 19, سورة المجادلة، {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ}- الآية 22, سورة المجادلة ، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}- الآية 7, سورة الشورى. أي إن القرآن أبرز الشكل كما أبرز المضمون، وفَصَلَ بين فريقي حق وباطل؛ ذلك لأن البشر ليسوا ملائكة. والغلو المضموني على حساب الشكل قد يصل بنا إلى ما تقول به الباطنية من دعوى الاهتمام فقط بالجوهر دون الأعراض، فيقولون إن جوهر الصلاة -مثلًا- هو الاتصال بالله تعالى ومن ثم لا داعي للشكل والهيئة من القيام والركوع والسجود.. إلخ. وإذا وصلنا إلى هذه الدرجة من التنطُّع فسوف يفسد كل شيء، وسنغرق في سفاسف الأمور. الخلاصة أنه لابد -في صياغة نموذجنا المعرفي- من الشكل والمضمون معًا، وبنفس الدرجة من الاهتمام. ولكن ما علاقة هذا النموذج المعرفي وإدراكه بالعلوم التراثية والعلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة؟ تقرر من النقطة الأولى: أن الغرض من النظر في الماضي والموروث هو محاولة استقراء ما فيه من معانٍ يمكن إعادة صياغتها بمضامين وأشكال مهمة نواجه بها العالمين، ويمكن من خلالها تحقيق رسالتنا، وتقرر أنه طالما كان المسلمون يولدون العلوم لخدمة النص كانوا في حضارة رائقة مترقية، وأنهم عندما توقفوا عن هذا التوليد بدأت الحضارة تنهار، وتحولت العبادة إلى عادة. دفعَنا هذا إلى القول بأن أهل الإجابة أنفسهم محتاجون لدعوة، بل هم أحوج إليها من الخارج. فالأمة على الرغم من تعدادها الكبير تعاني الوهن:(حب الدنيا وكراهية الموت). إن توليد العلوم بشكل متواصل هو الذي يعني أننا مازلنا أحياء. لقد جاء الانقطاع الكبير في هذا التوليد للحضارة والعلم في ديار الإسلام تقريبًا منذ العام 1830م، حيث بدأ التاريخ الفعلي لكافة التطورات في التقنيات الحديثة، فمثلا أدخلت بريطانيا الحديد في السفن لأول مرة في العالم، وهذا غيَّرَ وجه الحياة، فالتطور الطارئ على المواصلات غيَّر من البرنامج اليومي للإنسان، ولم يعد الإنسان يعيش الأمس في اليوم أو في الغد كما كان، بل صار كل يوم مكتظ بما يكفيه من الأحداث والتحركات. وفي خضم هذا، ظهرت العلوم الاجتماعية والإنسانية منبثقة عن النموذج المعرفي والحضاري الغربي، في غفوة من الحضارة الإسلامية والوعي الإسلامي، ودون تفكير في تجديد السعي إلى توليد العلوم عن النموذج المعرفي الإسلامي، (وإن كانت ثمة محاولات للتدارك مثل مدرسة إسلامية المعرفة التي برزت منذ مطلع الثمانينيات). ونحن نعنى في هذه العلوم الاجتماعية والإنسانية بـ"موضوعها" وليس بـ"مسائلها".فما الفارق؟ فأي علم له مسائله أو جمله المفيدة الرئيسة ( كلياته)، وبوضع تلك المسائل أمام بعضها البعض يتضح أن الأمر الذي نُعنى به فيها واحد، وهو"موضوع هذا العلم. وهذا الموضوع يمكن استشفافه في كل علم. فعلم السياسة -مثلاً- له -بلا شك- موضوع ثابت، قد يكون السلطة أو رعاية الشئون العامة، وفق التعريف الإسلامي، أما النطاق والمجال وطريقة التطبيق فكلها أمور ليست من صلب الموضوع نفسه. وفي حالة إذا ما اختل الموضوع إلى الدرجة التي لا يستقر عندها أبدًا فإنه لا يكون ثمة علم، ولكن نقول إن هناك صورًا وتجليات لهذا الموضوع. وهكذا فإن العلوم تتمايز بتمايز موضوعاتها لا بمسائلها.. والموضوعات لا خلاف عليها ولا تحيُّز فيها، إلا أن الإخبار عن موضوع العلم -من خلال مسائله- لتكوين الجمل المفيدة يتم من خلال المنظور المعرفي الخاص بمولِّدي العلم (العلماء والباحثين). وهم في العلوم الاجتماعية -ذات الأصل الغربي- أجابوا عن مسائلها من منطلق المنظور المعرفي الغربي، وأنا بدوري ينبغي أن أجيب عنها من منظوري. ويلاحظ أن كافة العلوم الاجتماعية و الإنسانية كانت جزءًا من حقل "الفلسفة" ثم انفصلت عنها بموضوعات مستقلة، وهذه الفلسفة تحولت إلى فلسفة العلوم؛ أي أفكار حاكمة للتفكير العلمي من المنظور الخاص بعلماء الحضارة المعنية. وعلى سبيل المثال علم الاجتماع الحديث بمنظوره الغربي، ماذا يقول في المجرمين والمذنبين؟ وماذا نقول نحن إذا فعَّلنا المنظور الإسلامي؟ المنظور الغربي يقسِّم الحقوق إلى حق مجتمع (حق عام)، وحق فرد (حق شخصي)، بينما الحقوق في المنظور الإسلامي تقع بين حقوق الله تعالى (العامة) وحقوق العباد (الخاصة)، نكاد نتفق في التقسيم العام، لكننا نختلف في تعيين ما هو العام وما هو الخاص؟ فهو -في منظوره الغربي- يرى أن السجين المذنب ينبغي ألا يُمَس بدنيًا مطلقًا، وأن الزنى شأنٌ شخصيٌّ لا يصح التدخل -من الدولة تلقائيًا- فيه، وأن القتل شأن عامٌّ من حقوق المجتمع يقوم النائب العام بتحريك الدعوى فيه. لكن عندي أن إيقاع العقوبة على جسم المذنب أمر لا يتعارض مع آدمية الإنسان ويتماشى مع منظوري المعرفي، كذلك فإن الزنى والفاحشة من حقوق الله تعالى لا تْترك لشهوات الأفراد - التي تميل بطبيعتها إلى التعدي والتجاوز- كما أن القَصَاص عندي هو حق وليِّ المقتول، ومن ثم يمكن لأهل القتيل أن يحرِّكوا الدعوى بطلب القصاص أو أن يرضوا بالدِّيَة أو أن يعفوا ويصَّدَّقوا. والغربي يرى أن "الجنس، والانتماء الحزبي، والديانة" -هذه الثلاثة- شئون خاصة ليست محلًا لحديث عام، بينما الانتماء السياسي أو الحزبي عندي لابد ألا يتعارض مع النظام العام، وكذا الأمران الآخران. فهذه الأمور لها في المنظور الإسلامي سقف، بينما عنده لا سقف لها. يضاف إلى ذلك موضوعات تثار لدينا بإسقاطات المنظور الآخر، مثل "عمل المرأة"، فهذا الأمر لم يمثل مشكلة عندنا من قبل، فالمرأة تعمل تلقائيًا إذا احتاجت إلى العمل، ولا تعمل إذا لم يكن هناك داعٍ. وهي تعمل داخل البيت أكثر وتنتج أكثر، وهذا ما كان يعرف بـ"اقتصاد الظل". إذن لابد أن نميز –في العلوم القديمة والحديثة- بين موضوع العلم ومسائله، فنحن نقبل أي موضوع مثار، ولكن نعالجه من نموذجنا نحن، بل ومن ثقافتنا نحن -إن أردنا- في حدود النموذج المعرفي الإسلامي؛ حتى لا نقع في استيراد المشكلات من غيرنا. ففي الإخبار عن الشيء؛ أي الإجابة عن المسائل قد يتوافق الوارد من الآخر مع المنظور الإسلامي، وقد يختلف عنه. ومن ثم فأنا أتقدم إلى جميع علوم الأرض بعقلية منفتحة، أتقبل موضوعاتها، ثم أخبر (أي أجيب) عنها من نموذجي المعرفي، ومن طبيعتي، وبناء على احتياجاتي، فأنتج جملاً مفيدة تختلف عن بعض الجمل المفيدة لدى الآخر. وهذا الإنتاج يكون عن طريق التأصيل، ومن ثم لابد أن يكون لي منهاجية ومناهج. والمنهاجية methodology هي علم توليد المنهج والمناهج methods وتحديد شروطها، وبنائها، وصياغتها، فهي تعني كون الشيء منسوبًا إلى المنهج. ولا يختص ذلك بالعلوم الاجتماعية وحدها, فالعلوم الطبيعية -بدورها- تشتمل على مكونين أساسيين: معلومات، وفلسفة حاكمة. والمعلومات لا خلاف بصددها، بينما المشكلة تتمثل في الفلسفة المهيمنة على العلم، والتي تتكون بدورها من: الغرض من وراء البحث، وأساليب البحث، والاستعمال أو التطبيق بعد بلوغ النتائج، وهي المكونات التي يتدخل فيها النموذج المعرفي بالتجديد والإضافة والتعديل والرفض والتحسين. وهكذا فإننا -حين نفكر في العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة بعد الاطّلاع على النموذج المعرفي للموروث الإسلامي- نفكر بطريقة سابقة لكثير جدًا من قطاعات الغرب؛ وهذا لأننا نفكر ومعنا تراث ألف وأربعمائة سنة، بكل ما فيها من زخم. ولكن ما نفتقده هو النظام والالتزام، والسعي للتفعيل، والأدوات للتشغيل.
الهوامش: ----------------------- (1) فهناك ما يسمى بأحكام العقل، وهي بين ثلاثة: أحكام العقل لا محالة واجبٌ فممكن فاستحالة - الواجب العقلي: لا يمكن عقلًا إلا أن يكون موجودًا، وهو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يمكن أن يكون ثمة شيء من الموجودات دون مُوجِدها، فهو وحده واجب الوجود بذاته بغير علة سابقة عليه. ويتفرع عن هذا الواجب العقلي ما هو واجب بالحتم، وما هو واجب بالضرورة: الواجب الحتمي: وهو من لوازم العقل التي يكون العلم بها حتميًا، كمقولة ديكارت: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، فشعوري بذاتي حتمي. والواجب الضروري: وهو ما يعرف بـ"أحكام العادة" التي ندركها بالتجربة والاعتياد، مثل أن النار تسبب الإحراق، ومثل أن الأشياء تنجذب إلى الأرض... فعلى الرغم من إمكان ألا يقع ذلك أحيانًا إلا أنه يبقى على سبيل الاستثناء أو المعجزة الخارقة.= = - المستحيل العقلي: كاجتماع النقيضين. فإن العقل يستحيل أن يقبل أن يكون الشيء موجودًا وغير موجود على الحقيقة وبغير مجاز في نفس الحال. وهو كافتراض عدم وجود الإله الخالق مع التسليم بوجود مخلوقاته؛ لأن هذا يعني أننا نقول: هناك وجود وبالتالي له موجد إلا إنه ليس ثمة موجد..! - الممكن العقلي: (وهو كل ما يمكن أن نصوره في السينما حتى ولو لم يكن في الواقع إلا على سبيل المعجزة)، مثل أن يبقى يونس عليه السلام في بطن الحوت دون أن تأكله العصارة الهاضمة أو يصيبه أذى، وبالمثل أن يخرج إبراهيم عليه السلام سالمًا من النار، وهذان مثالان على العقلي الذي قد يكون ممكنًا بحكم العادة.
المصدر : الطريق إلى فهم التراث ، لفضيلة مفتى الديار المصرية ، الدكتور على جمعة .