هل حرية الصحافة تعني التفلت؟ أو أنها تستلزم الصدق؟ والجواب : علينا جميعا أن نفتخرُ بالانتماء إلى هذا الوطن العزيز، ونفرحُ له كلما رأيناه يعلو ويتقدم ويقوى، ونحزنُ إذا رأينا ما يعرقله ويعوقه ويؤرقه ويعكر صفوه، نستبشرُ عندما نراه حُرًّا مبدعًا، ونحمل الهَمَّ إذا رأيناه مكبّلاً أو رأينا من يحاول تشويهه، دائمًا نبحث عن الخير فيه وفي أبنائه، ونتحيز تحيزًا له حميدًا ، ولا نسمح لأحد يعرض بترك حُبِّ هذا الوطن، أو يأخذ في جَلد ذاته التي يريد أن يخرج منها إلى الأوهام والأحلام، وأتذكر قول أبي العلاء: وَقُلْتِ: الشَّمْسُ بِالبَيْدَاءِ تِبْرٌ وَفِيْ ذَوْبِ اللُّجَيْنِ طَمِعْتِ لَمَّا وَمِثْلُكِ مَنْ تَخَيَّلَ ثُمَّ خَالا رَأَيتِ سَرَابَهَا يَغْشَى الرِّمَالا 1- ومما يعرقل مسيرة الإصلاح تشويه فهم الحرية، وتطبيق ذلك المفهوم، هل الحرية تعني التفلت؟ أو أن الحرية تستلزم الصدق؟ ومثال ذلك في مجال الصحافة مثلاً: هناك أخبار تحتاج إلى معلومات، هذه المعلومات لها حرية في نشرها، وهي أعلى أنواع الحرية الصحفية، أن يتاح لك أن تذكر المعلومات بشرط أن تكون جادة، وأن تكون صادقة دقيقة، وحتى يصل الكاتب إلى ذلك يحتاج إلى بذل مجهود لا إلى تأليف الأحداث أو حتى استنباطها بعقله دون جمع المعلومات الحقيقية عنها، وهذا هو الذي أدى إلى قضية (ووتر جيت) التي انتهت إلى استقالة نيكسون، والذي يقرأ ما فعله الصحافيان بوب وودوارد (Bob Woodward) وكارل برنشتاين (Carl Bernstein) في تلك القضية عام 1974م من مجهود وتتبع ما أتيح لهما من حرية للنشر يعلم أن العمل الجاد لابد أن يؤتي ثمرته، حتى تم تخليد دورهما في قضية (ووتر جيت) بكتاب ألفاه بعنوان (كل رجال الرئيس) والذي تحوَّل إلى فيلم بنفس العنوان وحصد إيرادات ضخمة سنة 1976م. وهذا النوع من الحرية في نشر المعلومات يحتاج إلى أذهان تتلقاه بالقبول وتفهمه، وتكون قد هُيئت وتدربت للتعامل معه، ويكون هناك ثقافة سائدة قد وضعت المعايير للفصل بين الصحافة الجادة، وصحافة الإثارة، وتم تصنيف مجموعة الصحف الرصينة الصادقة التي تأبى أن تنشر إلا الصدق، وهذه المسكينة التي لا تبالي ماذا تنشر، وكل ذلك مكتوب مدروس لا يحتاج إلى مزيد كلام، ولكن يحتاج إلى تنبيه، وهناك حرية الآراء والأفكار، وهناك حرية الخدمة، وبهذه الثلاثة تتم حرية الصحافة التي نص الدستور المصري في نهايته على أنها سلطة رابعة مستقلة. 2- وحتى نصل إلى هذه الحالة، وعندئذ تؤثر الصحافة في الرأي العام وتشارك في بناء عقلية علمية واعية، تبني وطنها وتعمل لصالحه، فإنه يجب علينا الصبر على هذه الحالة التي نمر بها، والتي يصدق فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تأتي على الناس سنوات خدَّاعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة». قيل: يا رسول الله، وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامَّة»(1). ونطق الرويبضة علامة وليس له حكم في ذاته، وأعني بذلك أنه قد يكون ضروريًّا للوصول إلى بناء الملكة عند القارئ حتى يميز الصحيح من القبيح. وقد يظن بعض الناس - بل هو منهج في الفهم قام به بعض الأئمة المجتهدين - أن كل ما كان بمثل هذه الصياغة في الحديث أنه من باب الشر المطلق، ويرى الإمام النووي غير ذلك حيث يعلق على حديث جبريل الذي أخرجه مسلم وهو يتكلم عن أشراط الساعة وفيه عبارة: «أن تلد الأمة ربتها»(2). يقول: «واعلم أن هذا الحديث ليس فيه دليل على إباحة بيع أمهات الأولاد، ولا منع بيعهن، وقد استدل إمامان من كبار العلماء به على ذلك، فاستدل أحدهما على الإباحة، والآخر على المنع، وذلك عجب منهما، وقد أُنكر عليها؛ فإنه ليس كل ما أخبر صلى الله عليه وسلم بكونه من علامات الساعة يكون محرمًا أو مذمومًا، فإن تطاول الرعاء في البنيان وفشو المال وكون خمسين امرأة لهن قَيِّمٌ واحد - ليس بحرام بلا شك وإنما هذه علامات والعلامة لا يشترط فيها شيء من ذلك، بل تكون بالخير والشر والمباح والمحرم والواجب وغيره، والله أعلم»(3). ويرى الشافعية كما نص عليه الإسنوي في كتابه «التمهيد»: (أن الاقتران ليس بحجة عندنا) ويقصد بكلمة الاقتران أن يعطف شيء على شيء آخر، ويقصد أنه ليس بحجة أن هذا العطف لا يجعل الحكم مشتركا بينهما، بل قد يكون الواجب معطوف على المندوب والمندوب معطوف على المباح قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }(4) ونرى أن العدل واجب، والإحسان مندوب، وإيتاء ذي القربى كذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب»(5)، فالختان واجب في حق الذكور، ولكن نتف الإبط من الفضائل وهكذا. 3- وفي حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه وهو حديث طويل عبارة: «ولن يكون ذلك كذلك حتى تروا أمورًا عظامًا يتفاقم شأنها في أنفسكم، وتساءلون بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا»(6). فهذه الحالة الثقافية التي نمر بها والتي لم تستقر بعد، ولم تتحدد مفاهيم كثيرة منها، والتي خرج الرويبضة ليساهم فيها ويتكلم في الشأن العام، من التصدر للنصيحة حتى الطبية منها، إلى الإفتاء ولو بغير علم مع أنه لم يحفظ آية كاملة إلا في قصار السور، إلى تولي المناصب العامة، إلى الكلام في الشيوعية البائدة أو الفن الجديد، إلى من يريدنا أن ننسلخ عن أنفسنا وديننا وتاريخنا، إلى من يريد إرهابًا فكريًّا، إما هو وإما الجحيم، ثم جحيمه هي الجنة، وأن جنته هي الجحيم؛ لأنه دجال من الدجاجلة، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الدجال: «يخرج الدجال معه نهر ونار، فمن وقع في ناره وجب أجره وحط وزره، ومن وقع في نهره وجب وزره وحط أجره»(7). 4- والمخرَج من ذلك كله هو الصبر والتأكيد على الحرية الملتزمة، وترك الرويبضة يكتشفه الناس في تفاهته وفي هشاشة تفكيره، والاستمرار في بناء الإعلام الجاد الملتزم الذي سوف يطرد الهش والغث، والذي سيجعل التافه يتعلم أو يستحي أو يتوارى أو يسير مسار الجادين أو يحاول حتى لو لم يصل إلى مستواهم، وأنا مستبشر خيرًا أن هذه الحالة من الكسل والتفاهة سوف تنتهي؛ فقد ظهرت صحافة الإثارة في أمريكا سنة 1830م ثم استقر الأمر الآن، وأصبح من دواعي الاشمئزاز عند الطبقة المثقفة هناك أن يرى أحدهم صحيفة من هذه الصحف في يد قارئ مسكين وكأنه يقول له بنظرته العاتبة: (هل ما زلت هنا لم تتعلم؟) إن هذه الثقافة لن تأخذ كثيرا من الوقت، وذلك بسبب التطور الهائل من الاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا. وحتى نصل إلى هذه الحالة علينا أن نصبر { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }(8) وأن نتصدق بِعِرْضِنَا على الناس. عن أبي هريرة أن رجلا من المسلمين قال: اللهم إنه ليس لي مال أتصدق به وإني جعلت عرضي صدقة. قال: فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد غفر له(9). وأن نهجرهم هجرًا جميلا قال تعالى: { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً }(10) وأن نتمسك بصفات عباد الرحمن قال تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً }(11). كل ذلك من أجل الوصول إلى الحرية الملتزمة التي وصل إليها غيرنا بإراقة الدماء، ألا يمكن أن نصل إليها بالأخلاق الكريمة!! الهوامش: -------------------- (1) سبق تخريجه قبل قليل. (2) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان الإيمان والإسلام والإحسان» حديث (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (3) «شرح صحيح مسلم» للنووي (1/ 159). (4) الآية 90 من سورة النحل. (5) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «اللباس» باب «قص الشارب» حديث (5889)، ومسلم في كتاب «الطهارة» باب «خصال الفطرة» حديث (257) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (6) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/ 16)، وابن خزيمة في «صحيحه» (2/ 327)، وابن حبان في «صحيحه» (7/ 103) حديث (2856) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. (7) هذا اللفظ أخرجه أبو داود في كتاب «الفتن والملاحم» باب «ذكر الفتن ودلائلها» حديث (4244) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وأصل الحديث متفق؛ أخرجه البخاري في كتاب «أحاديث الأنبياء» باب «ما ذكر عن بني إسرائيل» حديث (3452)، وفي كتاب «الفتن» باب «ذكر الدجال» حديث (7130)، ومسلم في كتاب «الفتن وأشراط الساعة» باب «ذكر الدجال وصفته وما معه» حديث (2934). (8) من الآية 18 من سورة يوسف. (9) رواه ابن عبدالبر في «الاستيعاب» (4/ 1694)، وذكره الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (4/ 547). (10) الآية 10 من سورة المزمل. (11) الآيات 63: 65 من سورة الفرقان. المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة .