كان يحلم أن يعود العصفور الذي أحبه كثيراً إلى عشه القائم على الشجرة القريبة.. وبين الحين والحين، أو بالتحديد مع كل يوم جديد، كان يصعد درجات السلم لينظر إذا كان العصفور قد عاد أم لا.. وقد أصرّ عل أن أحداً لا يستطيع أن يقتل حلمه المشروع هذا.. وكثيراً ما تحدّث أمام الأطفال عن أمنيته، وبعدها كانت تمتّد الأيدي إلى الحجارة وتطيرها قنابل في الفضاء.. وكم تمنى الأطفال أن يروا هذا العصفور الذي يحدثهم عنه الجد عبد الرحمن.. هكذا كانوا ينادونه، وكان يسرّه أن يكون جداً لكل هؤلاء. صباحاً، وبعد أن يسقي الشجرة في البستان القريب، وينظر إلى عشه، يطلق جملته التي أصبحت معلماً في المخيم "الغائب لابدّ أن يعود" ويمشي في الأزقة الضيقة مصراً على ابتسامته العريضة.. وما أن يراه أطفال المخيم، حتى تتسابق أجسادهم الصغيرة إليه. يضحك.. يقف بينهم ويحدثهم عن أشياء كثيرة. وتأتي كلماتهم دافئة في تساؤلها "العصفور، يا جدّنا عبد الرحمن"؟؟ يقول: "الغائب لابدّ أن يعود يا أحفادي.. أعدكم أنه سيعود" يركضون.. يركض معهم متناسياً سنوات العمر وثقلها.. يضربون الحجارة، فيضرب.. ويبتعد عندما يبتعدون كلما عوى الرصاص. وحدها سعدية "الخرفانة" ـ كما يحب أن يدعوها ـ كانت تحاول أن تحبط آماله وتقتل تفاؤله.. تقف أمام بيتها الطيني وتصرخ في وجهه "أنت مجنون يا عبد الرحمن.. هل ستقضي ما تبقى لك من سنوات وأنت تنتظر عصفورك الذي لن يعود".. عندها كانت عروق رقبته تنفر بشكل مثير وهو يصيح "اصمتي يا خرفانة.. اصمتي وإلا قتلتك.. سيعود" وكان يتقدم نحوها فتهرب مختفية داخل بيتها.. ويقول بعض أهل المخيم أن هناك حباً قديماً بين عبد الرحمن وسعدية، تحول مع الأيام إلى شجار وعراك.. وتبقى مثل هذه الأقوال غير مؤكدة.. الليلة الماضية، أو قبل الماضية ربما، رأى عبد الرحمن حلماً غريباً، وقد حكى للأطفال الذين خاطبهم بالقول "يا رجال سأقص عليكم حكايتي" ـ وفرحوا كثيراً بكلمة "رجال" التي يخاطبهم بها ـ حكى لهم عن العصفور الذي رآه يهوي بعيداً عن العش.. وعن الوجوه الغريبة التي حاولت أن تقطع الشجرة.. وعن الأطفال الذين دافعوا عن الحلم.. وختم الحديث بالقول "ولكن يا رجال كان العصفور ـ لا أدري لماذا ـ جثة هامدة".. بعدها صمت عبد الرحمن وفي عينيه دموع.. هنا قال أحد الأطفال "إنه مجرد حلم يا جدنا عبد الرحمن" قال آخر: "أين ابتسامتك الجميلة يا جدنا.." ورسم الجد عبد الرحمن ابتسامة حاولت أن تكون عريضة على الشفتين. صباحاً سقى الشجرة.. صعد ونظر إلى العش.. قال: "الغائب لابد أن يعود".. نزل.. أعاد السلم إلى مكانه.. مشى.. قرأ على أحد الجدران جملة تقول: "الانتفاضة مستمرة".. سار في شوارع المخيم.. تطايرت الحجارة.. ركض الأطفال.. جنود الاحتلال يلهثون خلفهم.. الرصاص يعوي.. فجأة وقف أحد الأطفال أمام عبد الرحمن.. مد يده، فمد عبد الرحمن يده.. أحد الجنود وقف، رفع البندقية.. الطفل قال: "ماذا بك يا جدنا عبد الرحمن".. الجندي صوب.. عبد الرحمن صرخ.. إصبع الجندي تحرك.. عبد الرحمن سيج الطفل بجسده.. رصاص.. تدفقت بركة دم.. اتسعت ابتسامة عبد الرحمن.. وقف الطفل مذهولاً بعد أن هوى جسد الجد.. انحنى الطفل وضمه.. قال الجد قبل أن يرحل "إياك أن تبكي.. كن رجلاً..".. في اليوم الثاني، وهذا ما حدث ، كان الطفل يسقي الشجرة.. ثم يصعد درجات السلم ليرسل نظراته في العش الذي ينتظر.. وكان يحدث الأطفال عن عصفور لابد أن يعود >>>> *8* *11* *14* *10* *3* *3* *10* *14*